محمود حمدي: ساباتو والهذيان

Ernesto Sábato. Source: elperroylarana.gob.ve

لا أفكار حاضرة، ومع ذلك، برغم توحش الصفحة البيضاء ونفوري مما ينطوي عليه فراغها، أجدني مدفوعًا إلى الكتابةٍ.
أنتظرُ ميعادًا، يفصل بيننا وقتٌ كثير. كنت في صمت الإنتظار، أجعلُ الوقتَ أداة استجوابٍ لنفسي، كيف لي أن أبقى طافيًا في هذا الفلك؟، بمجرد أن حُدِدَ الميعاد وقتًا ومكانًا صارَ مركزًا، وصرتُ جُرمًا في فلكه. تتلاشى الهوايات والغايات في سبيل إنجازٍ وحيد، فأبلغ نفسي: فقط تخطى هذا الميعاد وأنت من بعده حرٌ كطير. أما الآن، مسلسلٌ في زنزانة الوقت.
ألم يحن بعدُ الميعادُ؟

استمر في القراءة

إذا حدث وأحببتني أرجوك أن تنتبه كثيرًا لكيفية عناقي: كارول صنصور تترجم كاترينا غوغو

“My Name Is Odyssey”. A portrait of Katerina Gougou. Source: inred.gr

١
تعالي نذهب يا جميلتي
حيث نقش على القمم
أزرق خافت، وردي
.
تعالي نذهب حيث الفتيات
على ظهور الخيول البرية
شعورهن تتطاير مع الريح
يقطفن زهر الخوخ
ونجماتٍ حمر
عاريات
.

استمر في القراءة

أحمد كامل: سير هادئ في أقصى اليمين

Tara Todras-Whitehill. Source: scoopempire.com

يصلح جسده كبرهان على مقولة: “طول بعرض مثل باب”.  وأعتقدُ أن هذا ما زاد الطين بلّة، إذ لفت صوبه الأنظار أكثر جاعلاً منه محطّ سخرية، خلال عبوره الطريق أمام سيارة أجرة مسرعة مُقبلة، وقد تجلى فزعه وكأنه نملة محصورة بين تدفق من خيوط مياه.
كنتُ أقود سيارتي، الأجرة كذلك، باتجاهه، ولكنني هادئ كما عادتي. وليس تسكعي هذا حذو الطوّار وقتياً أو بحثاً فقط عن زبونٍ ألتقطه، قدر ما هو سلطان تربية رشيدة. فأنا، من سلالةٍ امتهنت نقل الناس إلى كلّ شبرٍ في هذه المدينة، وقد تفرعنا جميعاً، في الأساس، من سائق حنطور.

استمر في القراءة

طعم الوصول | ياسر عبد اللطيف: كلّ الناس مسافرة

لأنه وصل لكنه لم يذق طعم الوصول – اللاجئ يحكي، سركون بولص

Edmonton, Cairo / 1948. Source: raremaps.com

وصلتُ كندا في آخر أيام عام ٢٠٠٩. وكانت هجرة عادية لا يقف خلفها أي ظرف سياسي أو اجتماعي طارد. في القاهرة كنتُ أعمل في وظيفتين: مُعدًا للبرامج بالتلفزيون الحكومي، ومُحررًا للأخبار بوكالة الأنباء الإسبانية. عملي بالتلفزيون كان يتطلًّب المداومة مرتين في الأسبوع. مرةً أذهب للاستوديو في مدينة الإنتاج الإعلامي، ومرة أخرى لإدارة القناة في مبنى ماسبيرو لاستيفاء الأوراق والإداريات الخاصة بالبرنامج الذي أُعده، فيما أداوم خمسة أيام دوامًا كاملًا في الوكالة… وكنت أرى أصدقائي المقربين مساء كل أربعاء… أسبوعي كان مشغولاً بالكامل ومرهِقًا. جدول صاخب وضاج بالناس وبإيقاع القاهرة العنيف. الانتقال لكندا أحدث قطعًا حادًا مع هذا. بقيت هنا  سنوات أعملُ من البيت. أكتب لبعض المواقع حينًا وأترجم أعمالًا  أدبية؛ أو أبحاثا وأوراق مؤتمرات لبعض المؤسسات عن طريق وكالة ترجمة في المغرب. لا أرى إلا زوجتي وإبني هادي. وبينما تعمل زوجتي في مدرسة ابتدائية، كنتُ في البيت طوال النهار مع هادي منذ عمر عام ونصف حتى دخل المدرسة في الخامسة، مع كل الطقوس المنزلية اللازمة لمصاحبة طفل صغير.  أعمل على مكتبي بينما هو يلهو بالليجو أمامي على البساط. شاهدتُ الثورة المصرية متلفزة على الإنترنت وانجرفت عاطفيًا بالكامل معها طوال الشهور العصيبة في ٢٠١١، وفقدت حماسي مع بداية حشرها في صناديق الاستفتاء والانتخابات.

استمر في القراءة

خالد الشورى: قصتان

Vittore Belliniano, Portrait of Two Young Men, 1515. Source: artsandculture.google

بيلا

لمّا أنهيت المرحلة الثانوية، انتقلت مرغمًا للعيش وحدي في شقةٍ صغيرةٍ تابعةٍ للسكن الجامعي.
كانت الشقة واحدةً من شققٍ صغيرةٍ أخرى متماثلةٍ في المساحة والمميزات، بُنِيت خصيصًا للطلاب في بنايةٍ عديدة الأدوار لا تتميّز بشيءٍ سوى موقعها القريب من الجامعة، بالإضافة لمنظر أشجار الغابة البديع التي تحيطها من كل الجهات.
كلُّ دورٍ يتضمن عددًا زوجيًا من الشقق، وكلُّ شقةٍ لها سريرها ومكتبها ودولابها ونافذتها ومطبخها، لكنها تشارك الحمام مع الشقة المجاورة.

استمر في القراءة

مصعب الزيات: المالديف بلد العاشقين

Muir Vidler, Malé, The Maldives, 2010. Source: artsy.net

المالديف بلد للعاشقين. يجلس المحبون على الطاولات في المطعم القريب من المطار. في الغالب هم راحلون. بقاء الحب حتى نهاية الرحلة دليل عليه. هناك في النفس ما يزول بفعل الحب، أو أشياء تستبدل بأخرى تملأ القلب. في صالة وصول الركاب، تلامُس خفيف. فتاة تقبل فتاها على شفتيه برقة وأخرى تمسح شعر حبيبها. والمحبون مستسلمون لهذا الحنان المكشوف. بداخلي شيء يخجل من التعبير عن الحب في الأماكن العامة. الخطوة الأولى في الاقتراب من فتاة حتى ولو على سبيل الصداقة دائما مؤجلة. ليس لأن أحدا يمنعني لكن هذا التصالح مع الحب واستقباله خاضع للشعور بالرقابة من الجميع ولا أحد. عند الوصول يجلس خلف المكاتب فتيات ترتدين الحجاب ورجال بلحى. بينما يؤدون عملهم كضباط أو موظفين في الجمارك يبدو غريبا أن من يمنح الإذن بممارسة الحب في الجزر المتناثرة من يتمسكون بانضباط أخلاقي يمنعه عنهم هم. كأن هناك مسارات مفتوحة في جسد كل من القادم والمانح.

استمر في القراءة

أحمد ناجي: عبده السكندري وبورخيس السويسري

خبزت أمى الكيكة وزينتها بالكريمة البيضاء والفواكه. أخرجتها من الثلاجة وسارت وسط أنظار وحماس الجميع حتى وضعتها على طاولة الطعام، ثم بدأت في غرس شموع عيد الميلاد الصغيرة فيها. أوشكنا على إطفاء النور وإشعال الشموع، اللحظة المثيرة التي من أجلها تسارعت دقات قلبي، لأني أحصل حينها على اهتمام وحب الجميع، قطعها رنين جرس  لباب. ذهبت مُسرعاً لفتحه متوقعاً أحد أصدقائي، لكني وجدت رجلاً طويلاً ونحيلاً، بأنف أفطس، عيون واسعة كبيرة كما الثور، ذقن حالكة السواد، بلوفر كحلي متسخ وبجواره حقيبتي سفر.
أبصرت خالو لأول مرة في عيد ميلادي الثامن.
في وجهه حزن شديد، ألجمني عن الإتيان بأي صوت أو حركة. انحنى بجذعه نحوي وسألني بالفرنسية بصوت هامس “لابد أنك شارل إذن؟”
جاءت أمي لترى من على الباب وحينما لمحته قفزت إلى حضنه. بين الفرح والدموع قالت لي بالعربية “سلم على خالك عبده”.
أتى فجأة مثلما رحل فجأة.
استقر في بيت جدتي المجاور لنا في ذات الشارع. بيت قديم من ثلاثة أدوار. سكنه وحيداً لأن كل أخواته البنات يعشن مع أزواجهن، وأخاه يعيش في القاهرة منذ دراسته الجامعية. توقع الجميع أن يحمل هدايا من أوروبا في حقائبه، لكن لم تحتو إلا كتباً، وأوراقاً، وملفات بلغات مختلفة.
بعد أيام من مجيئه وصلت إلى الميناء شحنات أخرى من الكراتين والصناديق الخشبية، كل يومين كان يذهب بعربة ربع نقل إلى الميناء ويعود بها مُحملة، يرفض أن يُسَاعده أحد بل يظل طوال النهار يحمل بنفسه الصناديق من العربة إلى المنزل والعرق ينز منه، والإرهاق يستنفذ كل عضلة في جسده، ومع ذلك يستمر في الحمل وحيداً رافضاً أن يشاركه أحد في حمل صليب آثامه.
المزيد، والمزيد من الكتب، امتلأ بها المنزل.
لم يكن يخرج كثيراً، لكنه حرص على كسب ود الجميع، يحضر في التجمعات العائلية، يبتسم ولا يشارك في الأحاديث. يذهب أحياناً للكنيسة في الأعياد، لكن لا ألمح شفتيه تتحركان في الصلاة.

استمر في القراءة

محمد عبد النبي: قال وددت

Le Pho, “Young Girl with Rose”, 1941. Source: blisssaigon.com

ذات صباحٍ، كان قد قالَ، قبل سنوات: وددتُ لو أُنسَى، وددتُ لو أُترَك لأتعفّن تحت أغطية فراشي، أغطية الخمول والتراخي. كان قد استيقظ متأخرًا عن موعد العَمل في شركة الترجمة، فهَبَّ يتجهّز للخروج على عجل. يكتشفُ وردةً بلدية حمراء في حقيبة أوراقه، فيتركها في مطرحها ويمضي إلى الشوارع بلا أي حماس ولكن بحُكم العادة والإذعان لأكل العِيش.
كان يعمل ثماني ساعات كل يوم، مقابل ملاليم كل أوّل شهر، يُخصَم منها ما يُخصَم، وإذا أراد أن يُحسّن دخله عليه أن يأخذ كتاب معه إلى البيت ليترجمه بمكافأة منفصلة عن الراتب، وهكذا لم يكن يفوّت فرصة حينما يسكر لكي يبكي على الأيام التي تتسرب دون قراءة أو كتابة أو شيء له معنى. سلوك نموذجي متكرر، لم يعد من العسير عليه أن يرصده، دون أي حاجة للرجوع إلى دفاتره القديمة.

استمر في القراءة

صلاح باديس: الماريكان

saam-1967-59-355r_1

William H. Johnson, U.S. Capitol, The White House, Bearded Man, Dr. George Washington Carver and Franklin Delano Roosevelt, and Other Sketches, ca. 1945, pencil on paper, Smithsonian American Art Museum, Gift of the Harmon Foundation, 1967. Source: americanart.si.edu

واشنطن: بيت فقط… أبيض فقط

 
وصلتُ واشنطن عبر شيكاغو. رحلة طويلة نِسبيًا. من المطار إلى الفندق المستقر في الجادة الرابعة لم يأخذ الأمر سوى عشر دقائق، على بعد بضع شوارع من البيت الأبيض الحزين. كنت متأكدًا من أني سأمرض، الجيوب الأنفية مسدودة وتوجع، وشعور بأدنى نسمة هواء.
رغم ذلك خرجت مع الأصحاب لنأكل عند محل الشاورما المقابل، يدير المحل عربيان: لبناني ومغربي. نسير حتى البيت الحزين، لكننا لا نكتشف الواجهة بل ظهر البيت، ويبدو لنا صغيرًا وبعيدًا خاصة في الظلام. إيفا قال: ليس مثيرًا… فقط بيت… فقط أبيض… لا شيء خاص.

استمر في القراءة

إسلام حنيش: أحلام اليقظة

By Youssef Rakha

تخيل معي يا أخي
لو كنا باصات
تزيننا الإعلانات الملونة
وصور علب الجبن والبسكويت
نحتفي بمساحاتنا الرحبة
ولا نشعر أبدًا بالخواء

استمر في القراءة

إسلام حنيش: رائحة الموت

screen-shot-2011-07-12-at-14-16-17

Daido Moriyama. Source: enkster.com

نتسكع في الشوارع والأزقة،
ونطارد السيارات ككلاب مسعورة
نحاول أن نروي عطشنا ونلعق البخار على الفتارين وواجهات المقاهي
نشم رائحة الموت عند كل ناصية،
وتمتلئ رئاتنا بالدم
فنبدأ في أكل أنفسنا قطعة قطعة.
نتقيأ الصبر على قارعة الطريق
ينهرنا عسكري المرور
بتهمة ارتكاب الحزن وتعطيل السير.
نسير كـ”الزومبيز” في مشهد سينمائي
نستحضر الوجع ونجلد أنفسنا،
ونعض على ألسنتنا،
ونكوي مراكز الحس.
ثم نلف ما تبقى منا في سجائر
ندخنها لنقتل الوقت.
No more posts.