محمد هاني: تحليق اضطراري

Coney Island Loop the Loop Roller Coaster Patent Poster. Source: allposters.com

من أين تقلع كوابيسنا؟ لماذا تصلنا؟ وإن صادفتنا في يقظة بعد غفلة، هل هناك رسالة يجب قراءتها؟ أم أنها نبوءة ذاتية التحقق؟
محاولا إجابة سؤال عن ماهية خوفي من المرتفعات، إن كان أثرًا ممتدًا لحادث، أم انعكاسًا لقلق دفين شق طريقه إلى سطح السلوك على هيئة هلع داخلي فصل صاحبه عن كل ما قد يجري حوله لو انتبه لموقفه والمسافة بينه وبين أرض مستقرة فوق هوة عميقة. ظل ترتيب الأحداث مخادعا، وتضاءلت ثقتي في الذاكرة، لكن شيئا واحدا استقر بأحلامي وهو تحديق الهاوية بي، وأحيانا إحكام قبضتها علي وابتلاع جسمي المنهار استسلاما بإحدى شرفتي منزل عائلتي.

استمر في القراءة

طعم الوصول | نرمين نزار: الغربة الخفية

لأنه وصل لكنه لم يذق طعم الوصول – اللاجئ يحكي، سركون بولص

Vintage Map of Cairo. Source: 123rf.com

غربتي خفية. تكاد تكون سري الخاص. لا يعرف أحد الآن أني لم أكن أتحدث باللهجة المصرية حين وصلت إلى هنا في أسوأ توقيت ممكن. بداية المراهقة. كان ينبغي أن أغير لهجتي سريعا لتقليل الخسائر، فمراهقو مدرستي لم يتسامحوا مع اختلافي الطفيف. لم أكن خواجاية، فأصبح غريبة ومرغوبة، وفي ذات الوقت لم أكن من هنا تمامًا. أوراق ثبوتيتي لبنانية، ولكن إن سئلت، كنت أقول إني فلسطينية، فأربك من يسأل أكثر، والمراهق إذا ارتبك، يخرج ارتباكه عنفًا. نجحت مع الوقت في إخفاء هويتي تمامًا، لتصبح معلومة لا دليل عليها، فيصير نسيانها سهلًا.

استمر في القراءة

أمنية منصور: والدنيا هس هس

Mohamed Nassef, Cairo, March 2019. Courtesy of the artist.

من أجل أن نلتقي في المدينة التي لا تنام. هذه القاهرة. لا تنعس حتى، أو تغمض جفنيها. عيناها على اتساعهما كل لحظة، ترصد الأفق وكأنه مبسوط فلا يحجب رؤيتها لا زحمة ولا تراص أبنية ولا فضاء. في كل الاتجاهات تُلاحق ببصرها أناسًا جالسين وقططًا حائمة. لا تغفل عن شيء. يقظتها فاتكة تعضّ ما تراه، تهشّمه أسنانها حتى تبتلعه. ظننا أن الملاذ من مراقبة القاهرة في حَوارٍ ضيقة ودهاليزَ مظلمة ولكن كيف وحتى ما يحدث في كنف الغرف المغلقة لا يخص أصحابها بل يداوي مقلتيها الحمراوين. لا ينقطع دأبهما قط.

استمر في القراءة

البودكاست، مع مينا وإسلام🎙: (١٤) من يخاف من جاك دريدا: مينا يحاور صفاء فتحي



Photo Safaa Fathy courtesy of the subject

في الحلقة الرابعة عشر من بودكاست ختم السلطان، تتحدث الشاعرة والمفكرة صفاء فتحي عن مرحلة التكوين التي خاضت فيها غمار النشاط السياسي، كما تقارب تماسها مع مأساة الثورة المصرية والكتابة عنها، فضلاً عن تحولاتها الفكرية وقصة تعرفها على الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا والتي سرعان ما تحولت إلى صداقة قامت على إثرها بإخراج فيلم عنه شارك فيه ومن ثم إلى كيفية دخولها عالم الإخراج السينمائي. يتطرق الحديث أيضاً إلى لغة الكتابة الأدبية كما تراها وآرائها السياسية في تفاعلها مع فكر دريدا وإمكانية تجاوزه، وكيف تحاوره في كتاباتها، كما تتحدث عن اختلاف طبيعة النشر مؤخرًا في العالم، والتفاعل مع إنتاجها الأدبي.

 

بودكاست ختم السلطان هو إنتاج وتنسيق مينا ناجي وإسلام حنيش. هما من يختاران الضيف، ويحددان الأسئلة، ويديران الجوانب التنسيقية والتقنية. وليس للموقع فضل ولا عليه لوم غير استضافة البرنامج

البودكاست، مع مينا وإسلام🎙: (١٣) مشمش بيت جالا والأمومة: مقابلة مع كارول صنصور



Photo of Carol Sansour courtesy of the subject

في الحلقة الثالثة عشر من بودكاست ختم السلطان – الأولى لسنة ٢٠٢٠ – تتحدث الشاعرة الفلسطينيّة كارول صنصور عن مراحل كتابة ديوانها الأول الصادر حديثاً عن الكتبخان “في المشمش” وعلاقتها الشخصيّة بالشعر، وقرارها بنشر قصائد الديوان بعد فترة طويلة من كتابتها، وكيفية استقبال هذه القصائد بصفتها خطاب فلسطيني مغاير. كما تتحدث صنصور عن علاقتها بأمها ودور النساء المركزي في حياتها في بيت جالا، وانعكاسهما في شعرها دون تصنيفات أو قولبة، فضلاً عن كيفية تجاوزها الشخصي لفخاخ الأيديولوجية. ثم ينتقل الحوار في النهاية للحديث عن إقامتها في أثينا والحياة الثقافيّة هناك، وعن تجربة النشر وعملها التحريري بمدونة ختم السلطان.

 

بودكاست ختم السلطان هو إنتاج وتنسيق مينا ناجي وإسلام حنيش. هما من يختاران الضيف، ويحددان الأسئلة، ويديران الجوانب التنسيقية والتقنية. وليس للموقع فضل ولا عليه لوم غير استضافة البرنامج

ياسر عبد اللطيف: ٢٠٠٥ أجرة القاهرة / خ. ز. ي

James Hooper (Taxi Meter Man). Source: hiveminer.com

عدتُ وحدي في التاكسي نفسه الذي ذهبنا فيه جماعةً، سيارة قديمة متهالكة قذرةٌ من الداخل، من النمط القديم لأجرة القاهرة بالأبيض والأسود، طراز فيات ١٢٥ المُصَنّع في بولندا الاشتراكية، تسكنها رائحة دخان العادم المتسرِّب من مكان ما في هيكلها. السائق كان على نفس الدرجة من التداعي، وإن بدا مغتبطًا راضيًا، بلحيةٍ شيباء تبلغ من العمر أربعة أيام، وملابس لم يغيرّها ربما من نفس التاريخ. 
في رحلة العودة ضاعت بوصلتي الذهنية، حين خرج السائق عن المسار المتوقع، ثم استعدت حسّي بالاتجاهات ثانيةً بعد أن مرقنا من نفق شارع مصر والسودان، فهذا هو شارع رمسيس، ونحن منطلقان في اتجاه العباسية، ثم هذا هو شارع الجيش وسينتهي بنا إلى ميدان العتبة. أعرف جيدًا أن هذه الشوارع الرئيسية معبّدة بأسفلت لا بأس بنعومته، وتلك الرجرجة العنيفة لا علاقة لها بحال الطريق، وإنما حتمًا ناجمة عن تضعضع آليات امتصاص الصدمات في بنية العربة التي تعود لسبعينات القرن الماضي. 
قبل أن نخرج من ذاك النفق، انحرف السائق يمينًا نحو منطقة “دير الملاك”، وأنا لا أعرف تلك الجهة نهائيا. فوق ذلك، كان الشارع الذي دخلنا فيه خاليًا من أعمدة الإنارة مُعتمدًا على قمر شحيح الضوء جعل البنايات على الجانبين في تلك الساعات الهادئة كُتلاً متقاربة بالكاد تظهر لها ملامح عيون نوافذ وشرفات أفواه أشباح تبتسم عن أسنان من قطع الغسيل على أحبال غير مرئية. قال السائق إن البنزين كاد أن ينفد ولا بد وأن يملأ خزّان الوقود، وهو يعرف طلمبة بنزين تقف وحدها دون محطة خلف مبنى حكومي قريب. الطُلمبة مخصّصة لسيارات وحافلات تلك المؤسسة، وهو طالما ملأ سيارته منها مجانًا. فالموظفون لا يغلقونها، وما من حارس ليلي يسهر على حمايتها. 

استمر في القراءة

البودكاست، مع مينا وإسلام 🎙: (٦) طبيخ الكتابة: مينا يقابل شارل عقل



Charles Akl, courtesy of the subject.

في الحلقة السادسة من بودكاست ختم السلطان، يتحاور مينا وشارل عقل حول مسار الأخير وأول كتبه “غذاء للقبطي”، فيتطرقان إلى اختيار أن تكون كاتباً والأنواع الأدبية وتعقيدات الحديث عن الأقليات، كما يخوضان في العمل والسفر والوجود على الهامش، واختيار مهنة الكتابة في ظل الأوضاع القائمة في العالم اليوم.

 

بودكاست ختم السلطان هو إنتاج وتنسيق مينا ناجي وإسلام حنيش. هما من يختاران الضيف، ويحددان الأسئلة، ويديران الجوانب التنسيقية والتقنية. وليس للموقع فضل ولا عليه لوم غير استضافة البرنامج

أحمد ناجي: عبده السكندري وبورخيس السويسري

خبزت أمى الكيكة وزينتها بالكريمة البيضاء والفواكه. أخرجتها من الثلاجة وسارت وسط أنظار وحماس الجميع حتى وضعتها على طاولة الطعام، ثم بدأت في غرس شموع عيد الميلاد الصغيرة فيها. أوشكنا على إطفاء النور وإشعال الشموع، اللحظة المثيرة التي من أجلها تسارعت دقات قلبي، لأني أحصل حينها على اهتمام وحب الجميع، قطعها رنين جرس  لباب. ذهبت مُسرعاً لفتحه متوقعاً أحد أصدقائي، لكني وجدت رجلاً طويلاً ونحيلاً، بأنف أفطس، عيون واسعة كبيرة كما الثور، ذقن حالكة السواد، بلوفر كحلي متسخ وبجواره حقيبتي سفر.
أبصرت خالو لأول مرة في عيد ميلادي الثامن.
في وجهه حزن شديد، ألجمني عن الإتيان بأي صوت أو حركة. انحنى بجذعه نحوي وسألني بالفرنسية بصوت هامس “لابد أنك شارل إذن؟”
جاءت أمي لترى من على الباب وحينما لمحته قفزت إلى حضنه. بين الفرح والدموع قالت لي بالعربية “سلم على خالك عبده”.
أتى فجأة مثلما رحل فجأة.
استقر في بيت جدتي المجاور لنا في ذات الشارع. بيت قديم من ثلاثة أدوار. سكنه وحيداً لأن كل أخواته البنات يعشن مع أزواجهن، وأخاه يعيش في القاهرة منذ دراسته الجامعية. توقع الجميع أن يحمل هدايا من أوروبا في حقائبه، لكن لم تحتو إلا كتباً، وأوراقاً، وملفات بلغات مختلفة.
بعد أيام من مجيئه وصلت إلى الميناء شحنات أخرى من الكراتين والصناديق الخشبية، كل يومين كان يذهب بعربة ربع نقل إلى الميناء ويعود بها مُحملة، يرفض أن يُسَاعده أحد بل يظل طوال النهار يحمل بنفسه الصناديق من العربة إلى المنزل والعرق ينز منه، والإرهاق يستنفذ كل عضلة في جسده، ومع ذلك يستمر في الحمل وحيداً رافضاً أن يشاركه أحد في حمل صليب آثامه.
المزيد، والمزيد من الكتب، امتلأ بها المنزل.
لم يكن يخرج كثيراً، لكنه حرص على كسب ود الجميع، يحضر في التجمعات العائلية، يبتسم ولا يشارك في الأحاديث. يذهب أحياناً للكنيسة في الأعياد، لكن لا ألمح شفتيه تتحركان في الصلاة.

استمر في القراءة

محمد عبد النبي: قال وددت

Le Pho, “Young Girl with Rose”, 1941. Source: blisssaigon.com

ذات صباحٍ، كان قد قالَ، قبل سنوات: وددتُ لو أُنسَى، وددتُ لو أُترَك لأتعفّن تحت أغطية فراشي، أغطية الخمول والتراخي. كان قد استيقظ متأخرًا عن موعد العَمل في شركة الترجمة، فهَبَّ يتجهّز للخروج على عجل. يكتشفُ وردةً بلدية حمراء في حقيبة أوراقه، فيتركها في مطرحها ويمضي إلى الشوارع بلا أي حماس ولكن بحُكم العادة والإذعان لأكل العِيش.
كان يعمل ثماني ساعات كل يوم، مقابل ملاليم كل أوّل شهر، يُخصَم منها ما يُخصَم، وإذا أراد أن يُحسّن دخله عليه أن يأخذ كتاب معه إلى البيت ليترجمه بمكافأة منفصلة عن الراتب، وهكذا لم يكن يفوّت فرصة حينما يسكر لكي يبكي على الأيام التي تتسرب دون قراءة أو كتابة أو شيء له معنى. سلوك نموذجي متكرر، لم يعد من العسير عليه أن يرصده، دون أي حاجة للرجوع إلى دفاتره القديمة.

استمر في القراءة

*2*тнє тяιвє //العشيرة//إسلام حنيش

إسلام حنيش


**Since 2011 тнє ѕυℓтαη’ѕ ѕєαℓ has brought together writers, translators, artists/photographers and others who now belong in a new kind of tribe. In this series they speak of themselves from where they are geographically and psychologically, so that visitors can meet them face to face // منذ ٢٠١١ وقد جمع ختم السلطان مؤلفين، كتابا كانوا أو مترجمين أو مصورين أو سوى ذلك، باتوا عشيرة من نوع جديد. في هذه السلسلة يتكلمون عن أنفسهم من حيث هم جغرافيا وسايكولوجيا، ليتعرف رواد المدونة عليهم وجها لوجه //

𝐹𝑜𝓊𝓃𝒹 مشاهد ساخنة جداً

وأما نساؤهم عند الجماع. فإنهن في حكم الضباع. يدخلن الأفران. ويضرموا فيها النيران. ويعبق عليهم الدخان… ثم ينضجعوا إلى شيء من القش… ثم يضم زوجته إليه. وهي تتشقلب عليه. فيظهر من بين الاثنين. روائح الجلة والطين. وتعطيه رجليها. وينظر إلى عمشة عينيها. ويطرحها على جنبها. فتستغيث بربها. وتقول أحيه جتك داهيه أحّيه جتك مصيبه أحيه جتك غاره فغنجها بليّه. وجماعها رزيّه…

هباب فرن ابن عمي سود كحلاتك
وحبل طور ابن خالي كيف مدلاتك
يا من عجنتي قليبي في وحيلاتك
يا ريتني قرص جلة بين أدياتك
هذا القول العكيس. والنظم الخسيس. والمعاني الغلسه. والألفاظ النجسه… هو إن ثبتت أوزانه. وتخلبطت أركانه. فهو على أربعة أضرب مستخبطن خابطن مستخبطن خبطا وطوله باتفاق. من الخانكه لبولاق. وعرضه بيقين. من باب زويله لسويقة السباعين…
وعادة نساء الأرياف أنها تهوى الأفران لأجل تدميس الفول وطبيخ البيسار وتقمير الخبز وتنفيض الثياب من القمل ونحو ذلك فكانت هذه المحبوبة تحب تراكم الهباب عليها لكثرة اشتغالها بالخبز والطبخ فشبّه كحلاتها به لكونها دائما في هذه الحالة وهذا من باب قولهم سخام بهباب.
— من كتاب هز القحوف بشرح قصيد أبي شادوف ليوسف الشربيني

1680 (1858)

أحمد الفخراني: التلميذ الأخير

Mansoura, early 20th-century postcards. Source: delcampe.net

-١-
طيلة الطريق من القاهرة إلى المنصورة، كنت أردد لنفسي: لم يكن علي المجيء. أتبع شعورا غامضا بالذنب، أو ربما – وهو ما حاولت إنكاره – أسعى لتحقيق نزوة قديمة: أن يعترف الأديب العجوز، وأستاذي اللئيم فرج الكفراوي بنجاحي، وهو الذي عدّني دوما أقل تلاميذه موهبة.
قبل خمسة عشر عاما، لم أكن أتمنى سوى أن أصبح مثله. الآن، أفعل كل ما بوسعي كي أتجنب مصيره.

استمر في القراءة

ياسر عبد اللطيف: شهوة الملاك

Hesham Elsherif, from “The Way to Hell”. Source: arabdocphotography.org

في حضرة المشنقة، فوق الطبلية، وردًا على السؤال التقليدي، قال للجلادين ورجال القانون إن رغبته الأخيرة هي أن يغتسل حتى لا يقابل ربّه نجسًا. كان إسهال مائي قد أصابه في الطريق من الزنزانة حتى موضع حتفه. لم يستطع التحكم فيه وهم يجرونه جرّا، كما انفتح صنبور بوله من الناحية الأخرى فوصل وقد ابتل بنطاله الأحمر تماما وتلوث بنفاياته حتى فاحت روائحها بقوة في الهواء الثقيل لغرفة الإعدام. قوبِل طلبه بالصمت التام من قِبل مأمور السجن والقاضي وكبير الأطباء. لو أخذوه للاستحمام فذاك يعني الفترة الزمنية التي يستغرقها مشوار آخر حتى حمامات عنابر الحبس، ثم فترة الاغتسال نفسها، ثم العودة من هناك مرة أخرى؛ وذلك بالتأكيد إهدار كبير للوقت الحكومي، ولوقت الباشوات الكبار الذين جاءوا لاستكمال إجراءات تنفيذ الحكم. أدرك الجلادون مغزى صمت الكبار، فسيق إلى موضعه فوق مركز الطبلية دون تلبية الطلب، وأُحكمت الأنشوطة حول عنقه، وألبسوا رأسه الكيس القماشي الأسود.

استمر في القراءة

علي لطيف: لوسي في السماء مع الألماس

PAR13856

Guy Le Querrec. In a flat of the 16th arrondissement. Actress: Claudine Beccarie. Thursday 26th September, 1975. Source: magnumphotos.com

كنت جالساً على كرسي غير مريح أمام بار خشبي في حانة غير مكتظة وغير معروفة في القاهرة. بجانب كأس بيرتي متوسطة السعر فوق البار الخشبي رقم، وفوقه كُتِب بقلم أسود: «من يريد أن يقضي وقتاً ممتعاً، ليتصل بي، أنا أحب كل أنواع الرجال ويحبني كل أنواع الرجال، قبلاتي وأحضاني الحارة، اللاذعة جداً.»
قال لي عامل البار عندما سألته عن الرقم، أن صاحبة الرقم أبشع فتاة بين فتيات الحانات وتسرق الأجانب المشتهين الثمالى. كان بشعاً هو الأخر.
كان ذلك في هذا الزمن، زمن الكآبة المرَضية والجمال المنقرض والبحث عن الروح الضائعة والهيجان الموسمي للحروب المتزامنة مع عولمة الإيروتيكا المادية «البورنو»، ثم قابلته. كان رجلاً حزيناً للغاية. حزنه لم يكن معتاداً. قال لي أن حزنه قد وُلد معه.
«بدأ ذلك في هوليوود،» قال لي. وصل إليها قبل ثلاث سنوات من اليوم. عمل في شركة أفلام إباحية كمترجم من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية. كانت تلك بداياته. أول فيلم قام بترجمته كان: قضيبان وامرأة قصيرة.

استمر في القراءة

أمنية نجيب: أخذتني المدينة

Scan_20160209 (79)

أخذتني المدينة واحتوتني، رأيتها من أعلى ورأيتها من أسفل. عندما أخذتني دوامة الحزن والألم كان السير رفيقى. في المساء يتلقفني الطريق وقدماى تحملانني. سماء كئيبة ومظلمة، أبراج عالية، وفروع أشجار تسقط منها أوراقها. تسير السيارات في اتجاهي، تواجهني بأنوارها، لا أرى. الأضواء والظلام، أضواء العواميد على جانبي الطريق، أضواء السيارات التي تسير في اتجاهي، ظلام نفسي. في طريق الصعود على الكوبري كل شىء كان يحملني إلى السقوط، كلما خطوت خطوة إلى أعلى تراجعت مثلها، حتى استوت الأرض. لا أعلم كيف حدث ذلك ولكني انزلقت سريعا وسقطت سريعًا. يغيب الظلام، والسير في الطرقات التي لا يعرفك فيها أحد، تنظر إلى الوجوه المتربصة، يختل توازنك لأنك تخاف. الخوف ككلب ضال يخرج لك في عتمة الطريق. اليوم… أسير كثيرًا، السير في المدينة فعل إنساني، كالكلمة الطيبة وحب الأصدقاء. لا يضايقني صخبها وأنا أراها تحتويني وتطردني، تلعنني وألعنها في طابور التذاكر في المترو، على رصيف محطة السادات في الظهيرة، وفي ميدان العتبة حيث يقف الناس. يوم القيامة هنا، يوم القيامة: صوت وصورة. ولكن الله أمهلنا لنتدارك الأمر رفقًا بنا. اليوم رأيت كل شىء. ظهر النهار واضحًا. أشرقت الشمس من المشرق لا من المغرب، فعرفت أنه لازال لدي وقت للسير في المدينة.

استمر في القراءة

أحمد الحادقة: كلهم أحد

Bieke Depoorter. EGYPT. Cairo. 2012. From the series

Bieke Depoorter. Cairo. 2012. From the series “In Between”. Source: magnumphotos.com

أن تجلس في هذه البقعة، نعم هي ليست خارج المدينة، لكن أن تجلس فيها وترى السيارات عن بُعد، ليس من أعلى مكعب كملايين المكعبات لكن من أُفُق  السيارات نفسها، إحساس جديد في هذه المدينة. أن تشعر أن نسبة من يراقبونك أقل من المعتاد ولو لفترة وجيزة، إحساس طالما افتقدته في المدينة المخصية هذه: مدينة بلا خصوصية على الإطلاق.

استمر في القراءة

عطارد: محمد ربيع | فصل من الرواية الجديدة

Mercury by Polidoro Caldara da Caravaggio (1495–1543). Source: gormagon.org

Mercury by Polidoro Caldara da Caravaggio (1495–1543). Source: gormagon.org

ما زلتُ أذكرُ أوّل يوم، كان هذا منذ ثلاث سنواتٍ وستّة شهورٍ، بالتحديد في الثالث من مارس عام 2023.
كنتُ في إجارة، أمشي في شارع شريف في وسط البلد، باحثًا عن أيّ مقهى. كان الشارع مُزدحمًا كعادته، الساعة تقتربُ من الثانية ظهرًا وهي ساعة الذّروة في منطقة وسط البلد.
دون مُقدِّمات، رأيت مبنى البنك الأهلى ينهار، وكمّية هائلة من الغبار والركام ترتفع في السماء لتحجب الأنظار، وتسدّ الحلوق. بعدها سينسى الجميع تمامًا انهيار مبنى البنك الأهلي، وسنعرفُ أنّه انهار من تلقاء نفسِه، لا بسبب صاروخ أو دانة مدفع.
خلال الساعات الثلاث التالية، ستمرُّ في السماء طائرات حربيّة عديدة، ستقصف أهدافًا بعينها؛ البنك المركزي، ووزارة التعليم، ووزارة الصحّة، ومبنى نقابة الأطباء، ومبنى تابع للتلفزيون في حيّ المقطم، ومبنى القمر الصناعي في المعادي، ومباني الأوبرا في الزمالك، ومباني ومصانع ومخازن عسكرية عديدة في كلّ أنحاء الجمهورية. سنعرف كلَّ هذا لاحقًا.

استمر في القراءة

إسلام حنيش: رائحة الموت

screen-shot-2011-07-12-at-14-16-17

Daido Moriyama. Source: enkster.com

نتسكع في الشوارع والأزقة،
ونطارد السيارات ككلاب مسعورة
نحاول أن نروي عطشنا ونلعق البخار على الفتارين وواجهات المقاهي
نشم رائحة الموت عند كل ناصية،
وتمتلئ رئاتنا بالدم
فنبدأ في أكل أنفسنا قطعة قطعة.
نتقيأ الصبر على قارعة الطريق
ينهرنا عسكري المرور
بتهمة ارتكاب الحزن وتعطيل السير.
نسير كـ”الزومبيز” في مشهد سينمائي
نستحضر الوجع ونجلد أنفسنا،
ونعض على ألسنتنا،
ونكوي مراكز الحس.
ثم نلف ما تبقى منا في سجائر
ندخنها لنقتل الوقت.

ناهد نصر: أربعة نصوص عن الموت

NICARAGUA. 1981.

Susan Meiselas, Monimbo woman carrying her dead husband home to be buried in their backyard, Nicaragua, 1979. Source: magnumphotos.com

تعتيم
صباح سكندري آخر ينتهي بالعودة للقاهرة. لا شئ في هذه المدينة يشبه شيئاً آخر تعرفه. حين تزورها كسائح تاريخ تحمل رائحته في قلبك وتنظر للبحر من هذه الشرفة العتيقة. وتنتظر حتى تمتلئ الرئتان. قضيت ليلتي مع فيرجينيا وولف: ما هو أسوأ من رواية؛ تتبُّع سيرة حياة منذرة بالأسى، رومانسية وشائقة حين تقرأها في كتاب لكنها تطلق في أوصالك ارتعادة حين تكتشف حجم الشبه بينها وبين الواقع. واقعك. تنظر فيرجينيا معك إلى بحر الإسكندرية، يأخذك الهواء المالح لثلاثينيات القرن الماضي، بينما كانت تفكر في طريقة للموت هرباً من العالم، من غول الحرب ومن الجنون. تُرى ماذا يكون شعورها إن هي أسندت مثلي مرفقيها على هذا السور المنتمي للقرن الماضي وواجهت البحر بعين بينما العين الأخرى ترقب مسيرة صغيرة لمجموعة من الشبان الغاضبين على استيلاء أسوأ ترس في ماكينة اليمين الرجعي على البلاد. أقرأ: “وكانت فيرجينيا قد قررت مع زوجها يهودي الاصل ان يتخلصا من حياتهما بالغاز السام لو تمكن الألمان بقيادة الجيش النازي من اجتياح لندن…” هل الرحيل إجابة السؤال؟ يصدمني طريق مسدود مع مُلوحة الهواء. لمن نترك هذا الجمال كله؟ تجيب المترجمة من وحي خيالها على لسان وولف: “لو كنت أعلم بهزيمة الألمان لما قررت التخلي عن الحياة.” يراودني الشك في خيال لا يدرك القوة الكامنة في قرار الموت الاختيارى. أعود لتعليق وولف المتأسي: “كيف تعتمون المدينة الجميلة بالسواد مخافة الحرب، التعتيم اسوأ من الحرب.” هذا ما تقوله: التعتيم اسوأ من الحرب.

استمر في القراءة

بيت أروى: مهاب نصر عن الصدق والثورة

EGYPT. Fayoum. Tunis.

Bieke Depoorter, Fayoum. Source: magnumphotos.com

ليس أخطر ما أنتجته ثورة يوليو (أو انقلاب يوليو) هو ما يسمى بـ”حكم العسكر”، بل في كونها مثلت أو تسببت بوضوح في إحداث شرخ واسع في الضمير المصري. لأنها أولا أول سلطة “مصرية” تحتكر الحكم بلا منازع (فلا ملك ولا إنجليز)، ومن ثم فقد كانت تمهيدا لمواجهة الشعب لذاته وإن استغرقت هذه المواجهة عقودا خصيلتها ما يحدث الآن. ولأن هذه السلطة لم تحتكر الحكم باعتبارها سلطة منتخبة بل استثنائية، وهو ما جعل فكرة “الاستثناء” تتحول إلى قاعدة سياسية بشكل متناقض تماما مع طبيعتها. وهي ثالثا احتكرت تمثيل الضمير العام (المبرر  لهذه الاستثنائية) وبالتالي وضعت نفسها أمام شرط مستحيل وزائف.

استمر في القراءة

No more posts.