مالك رابح: عزف منفرد

André Kertész, “Violin Shop”, 1984. Source: artsy.net

أجد في نفسي ميلًا أن أغشى الأماكن بلا رفقة. لا أقطع وحدتي، أستكملها وسط غرباء. قبل أسبوعين اتصل بي صديق قديم من أيام الجندية ودعاني إلى زفافه. كان يعيش في مكان آخر، وفقط تقابلنا مرتين منذ رجعنا إلى الحياة المدنية. ثمة أصدقاء مشتركون. قلة. اثنان أو ثلاثة، عاشوا أيضًا في أماكن أخرى، ونسيت أن أسأل إن كانوا سيأتون. يوم السبت. من أربعة لسبعة. قال سيرسل لي الموقع بالتحديد. قلت ألف مبروك، ربما لعاشر مرة، ووعدته بالحضور.
وصلت هناك مبكرًا؛ كان تقديري للمسافة أكبر مما يلزم. ترجلت في بقعة أبعد. انحرفت عن الطريق الرئيسي وتجولت في الجوار. كان النيل قريبًا، لكن حجبته قاعة زفاف بعد قاعة زفاف بعد قاعة زفاف. كدت أختنق، ووقت رجعت إلى الطريق الرئيسي أحسست فوق ذلك بالتيه. سألت شابيّن كانا يلوحان بالذرة المشوية للسيارات المسرعة. كانا لطيفين، أعطياني توجيهات دقيقة، أوصلتني إلى لافتة مضيئة وحارس عجوز وقف جوار كرسي. ملت أتحقق من الأشياء بالداخل: ناس قليلة وحركة أقل. الساعة تخطت الرابعة بالكاد. وكنت لا أزال مبكرًا.

استمر في القراءة

مالك رابح

Gerhard Richter, 1024 Colours, 1973. Source: reddit

شئ يمكنك أن تعود إليه
أشعر بالامتنان نحو الرمادي المتمطي خلف النعاس، نحو الارتباك الطفيف المتبقي من حلم محرج، نحو الشعور الغفل بأنك كنت هنا قبلًا و بالطبع، أكثر من أي شئ آخر، نحو الأشياء التي توفر دائمًا فرصًا ثانية، مقدرة أن إدراكنا المناسب لها يعتمد على تراكمات من الانطباعات الخاطئة وأن تعثرنا في لمسها يمكن تداركه في المرّات القادمة.

استمر في القراءة

مالك رابح: خمسة نصوص

Yann Mingard, from “Everything is up in the air, thus our vertigo”. Source: 1000wordsmag.com

الوقوع من على أغصان الشجر

 

كُنت صبيًا شقيًا، لكن هذا ليس متداولًا في أحاديث العائلة. تبهت شقاوتي مقارنةً بأخي الأصغر الذي، رغم بعدنا عن تلك الأيام، لا يزال إلى الآن يتم تذكيره بما كان عليه، بينما تشير إليَّ الأصابع، المتغضنة والمرتجفة، بوصفي الابن الأكثر وداعةً وهدوءًا والذي يسهل الضحك عليه، للدرجة التي يصير لزامًا علينا – أنا وهو – تقبل الأمر: أنا بهزة رأس خفيفة، متقمصًا الوداعة والهدوء المذكورين، وهو، ليثبت أنهم أيضًا يسهل الضحك عليهم، بابتسامة صغيرة معطوبة، تحمل قدرًا من الشفقة اللعوب والمفارقة؛ فبينما خرجت أنا صاغًا سليمًا من عفار شقاوتي، لسوء الحظ تركت التجارب والمغامرات ندوبًا وغرزًا في وجه أخي. كنتُ حذرًا وأذكي قليلًا، لم يجرفني التيار ولم تأسرني اللحظة فأقع من على أغصان الشجر، لكن أكثر الأشياء أهمية لا يتعلق بي بل بأخي؛ كان أكثر براءةً مني ودائمًا يوافق حين أخبره، بالخوف والقلق الذي لا بد يحل من السماء على أولئك الواقفين في أول الصف، أن عليه أن يسمع كلامي، بصفتي الأخ الأكبر، ويجرب هو أولًا.

 

استمر في القراءة

مالك رابح: العرس

Tasneem Alsultan, Wedding Party, 2015. Source: artsy.net

كان المشهد ليروق لك لو رأيته. ساعة بالكاد مرت على عودتنا – لم يستقر الغبار على البلاط، ولم يُفرد جديد الأغطية والملاءات، ونقر الباب، وأعلنت الغرابة عن حضورها: “محسوبكم رمضان الحدق آسف لو طبّيت عليكم من غير ميعاد، ألا تتذكرونني؟” صرختْ في مظهره لكنّا لم نستطع تحديد من أين؛ أهي ربطة العنق فاقعة اللون أم الوردة الصناعية المشبوكة في سترة البذلة الضيقة؟ قال لم ألبس هذه العفريتة منذ زفافي. سألناه على المناسبة السعيدة التي كانت تنتظره بعد زيارتنا فاضطجعت الحيرة بين حاجبيه – ربما كان تدلّي رأسه إلى صدره حين يتكلم. ربما هي ابتسامته التي رقصت على السلم بين الصدق والخبث؛ تجادلنا بعد ذهابه، هل كانت الوردة الصناعية هناك في حفل الزفاف أم سحبها قبل مجيئه من مزهرية ثم بتر ساقها؟ “ألا تتذكرونني، اعتدتُ اللعب في طرقات هذا البيت؟ أمكم كانت كويّسة معي، قالت لي خليك في المدرسة، وكانت تقدم لي الينسون دائمًا”.
لم نتذكره. الينسون كان أول شئ حطّت عليه الأيادي في كيس المشروبات، قلنا لازم يكذب، لو وقعت أيادينا على شاي أخضر أو بلا أزرق لقال الشئ نفسه. “لا بد أنكم تتذكرونني”. كان مرتاحًا، يقرع الطاولة بقعر الكوب بعد كل رشفة، ويلمس الجدار بأنامله في الطريق للباب. “لو احتجتم أي خدمة أنا موجود”. لبس حذاءه وقال: “لا تفهموني خطأً، ما كان ينبغي أن تعودوا إلى المكان (أشار إلى ممسحة الأحذية) ابن الوسخة هذا”. ضحكنا، ثم لاحقًا، ونحن نحدد من تعيس الحظ الذي سينام في سرير الأب والأم، تذكرنا ما قاله دون ضحك.

استمر في القراءة

مالك رابح: الخيط الأبيض السميك

Still from “The White Ribbon” (2009). Source: evanerichards.com

عيد الأم. انتهى اليوم الدراسي بعد ثلاث حصص. قرع البواب الجرس المعدني ونزلنا إلى الحوش الواسع. كان الجو خانقًا وكنت عطشانَ. في الحقيبة زمزمية لم أرد أن أخرجها وسط كل هؤلاء. أجلسونا كيفما اتفق على الرمل الساخن. فصلنا يحوي ثلاثة وأربعين طالبًا والمدرسة خمسة أدوار وفي كل دور ثلاثة فصول، على يساري صف من طلبة الصف الثالث وعلى يميني أحدهم يجلس القرفصاء، يحيط الذباب بفمه المفتوح، يبتسم ويسيل منه اللعاب. الرقع على قميصه الأصفر وبنطاله البنّي مصممة بخيط أبيض سميك، شعرت بالقرف. يتدافع الطلبة فأصطدم به. رائحته بشعة.

استمر في القراءة

No more posts.