مهدي محسن: بُرْتُقال فِي اَلمعِدة

Justin Favela, “Wrapped Orange”, 2022. Source: artsy.net

يَمُر اَلغُبار مُرْتفِعًا فَوْق المباني المتراصَّة فلَا يَتَحرَّك شَيْء سِوى الملابس الممزَّقة، على زُجَاج المطْعم اَلمُغبر مِن الدَّاخل اِلتصَقتْ ذُبَابَة مَيتَة، مِن الخارج يَنقُرها عُصْفُور، مِنْقاره يَرِن على الزُّجَاج.
على الواجهة أيْضًا لَوحَة بِلاسْتيكيَّة لِلْعروض على الوجبات، مُثَبتَة بِحبال زَرْقاء نَحِيلَة، رَبطها بِهويَان بارْمَان مِن دَكَّا، سليل عَائِلة مُحترمَة، اَلأُم تَنَام مُتَأخرَة، اَلأَب يَنَام مُبَكرا، اَلأُخت اِنْخرَمتْ يَدهَا اَليُسرى فِي مَصنَع اَلنسِيج، اَليَد المحنّاة، الخالية مِن المعاضد، بِهويَان اَلذِي أكل عدسًا أَصفَر بِدون ملح وأرْزًا أَبيَض، رَبْط اللَّوْحة بَعْد أن تَمخَّط بِيَده، عليْهَا صُوَر لِمأْكولات لَهَا أَلوَان وليْس لَهَا رَائِحة، اللَّوْحة طُولَهَا مِتْر وَعَرضهَا مِتْر ، مَخلُوعة مِن الجانب الأيْسر، كُلمَا عَبرَت مِنهَا الرِّيح صفّرت.
خَلْف زُجَاج هذَا المطْعم الملْتصق بِالصَّالة الرِّياضيَّة، اَلذِي كان مُغْلقًا وَقتُها وَخالِيا، تَوقَّف رَجُل. جَعْل يَدِه عَدسَة مُكبرة وَنظَر لِلدَّاخل، رأى فِئْرانًا مُنتفخَة تَنظُر نحْوه بِفضول وَتكمِل نَتْف سِيخ الشَّاورْمَا اَلذِي كان مقصدرًا فِي الثَّلَّاجة. لَمس مِنْشفَته اَلتِي اِنْزلَقتْ على رَقبَتِه ولم يَتَساءَل كَيْف أخْرجوا هذَا اللَّحْم مِن الثَّلَّاجة.
على طَاوِلة المحاسب بَصَمات أَصابِع، أَسفَل درج المحاسبة علك مُتَيبس، على اَلكرْسِي المقْلوب على طَاوِلة الطَّعَام قِشْرَة رَأْس لِأَحد الزَّبائن، زوجته لَمسَت يَدُه وَقَال لَهَا – عَيْب يَا بِنْت.
فِي الدَّاخل رأى شاربه مُنْعكِسًا فِي حَنَفيَّة اَلمجلى اَلتِي تُنقِّط، اِنْعكَستْ خَلفَه شَاحِنة مَكتُوبًا على بابهَا اَلخلْفِي – سَوِي تَوبَة قَبْل رُوح قَبْر – مُتَوقفَة بِجانب اَلطرِيق، نزل مِنهَا سَيْف الرَّحْمن مِن لَاهُور، شعره كثيف ويلمع، يَنتَظِر صديقه المتأخِّر، فرَش سَجَّادة مِن باب الاحْتياط، لَو جَاءَت الشُّرْطة سيصلِّي.
نظر إِلى الحنفيَّة مَرَّة أُخرَى، لَم يُعْجِبه شعره النَّاقص، شعر بِريشة تحْتك دَاخِل أَنفِه ولم يَعطِس، يَمشِي كَأنَّه سيتجَشَّأ، مُتَيبس، قد يَتَفتَّت لَو مشى مُسْرِعًا.
فتح باب الصَّالة الرِّياضيَّة بِعصاه، رَائِحة الكبْدة قلّصت أمْعاءه، ظنَّ مُوظَّف الاسْتقْبال بِأَنه سَيقُول صَبَاح الخيْر فَتَوقَّف عن المضْغ، على طرف فَمِه برز اَلقلِيل مِن اَلجُبن، تَحركَت تُفَّاحة آدم لِلْأسْفل واهْتَزَّتْ مُؤخرَته الخارجة مِن فُتحات المقْعد، أَكمَل طعامه بِتلذُّذ.
خلف اَلمُوظف اللَّاهث، مَفاصِل تَحتَك وَهِي تَتَعارَك مع اَلحدِيد، أَجسَاد يَرتَفِع مِنهَا اَلبُخار، يَرتَفِع مِن السُّعْرات المحْترقة، عُرُوق خَضْراء على الرِّقَاب المصْفرَّة، مِن العضلات المنْقبضة والْمنْبسطة، تَضُخ فِي المكَان رَائِحة غَرِيبَة جعلتْه يَنظُر نَاحِية المصابيح المرْتجَّة فِي السَّقْف بِهَلع وَيغمِض عيْنيْه ، عِنْدمَا تَرَاه بِهَذا الشَّكْل سَتقُول رُبمَا يَتَذكَّر رَائِحة الطَّبق اَللذِيذ اَلذِي كُلمَا أعدَّتْه جَدتُه قفز مِن النَّوْم، أو يَتَخيَّل لَحَظات مُريبَة فِي حَياتِه.
قال قد يَكُون عصير البرْتقال والْكرواسون اللَّذَان تمْتصّهمَا مَعدَتِي بِبطْء حَتَّى الآن، قد يكونَان آخر شَيْء فِي حَياتِي، قد يَحدُث شَيْء سَيِّئ بِهَذا اليوْم ، قد تَنشق الأرْض وتكون كُلٍّ قَدم مِن أقْدامي فِي مَكَان، تَضاحَك عليْه أَصحَاب الرِّقَاب المنْتفخة بِالْعروق، نظر لِلْخارج، هُنَاك رَجُل يَتكِئ على عصَا سَوْداء وينْظر نحْوه، قال – كِلانَا يَنظُر لِشبيهه، كِلانَا شبيه نَفسه وَآخَر لَايشْبهه فِي نَفْس الوقْتِ.
جرّ جسده على الدرج، أَمسَك بِيَده السِّيَاج اَلصدِئ وهو يصعد، لَم يَلتَفِت لِلْبلاطات الثلاث المتشقِّقة، لَم يقل بِأنَّ هذَا شُؤْم، تَوقف عِنْد باب غُرفَة المسَاج اَلذي كان مُواربًا، لَم تُعْجِبه رَائِحة البخور اَلردِيء الممْتزجة مع رَائِحة المطهِّرات، قال – يَا لَهَا مِن رَائِحة كَافُور.
رأى شَعَرات مُتناثرة على الملاءة فَتَشاءَم، لم يُعْجِبه أن يُضَاء هذَا المكَان بِشمْعة، عِنْدمَا أَشَار لَه اَلمُدلك بِالدُّخول، لَم يرى وجهه، رأى يده اَلتي تمسك طَشْت اَلْماء السَّاخن، تَطفُو فِيه فُوطَة بَيْضاء، قال يَا لَهَا مِن يد تَحتَضِن الطَّشْتَ بِسهولة، انبطح – وقال لِلْمدَلِّك، أَلَّا تُوجَد شَمعَة أَكبَر مِن هَذِه؟ وَمِن الجيِّد لَو كَانَت عِطْريَّة، ردّ اَلمُدلك وَهُو يضع الزَّيْت السَّاخن على ظَهْر المنْبطح الممْتلئ بِالْحبوب، تُفضِّل أن يَكُون التَّدْليك قَوِي أم هَادِئ؟
قال – على مِزاجك – فِي تِلْك اللَّحْظة وصل التَّدْليك إِلى السَّاق، اِحْتضَنتْ اَليَد العريضة كَامِل عَضلَة السَّمانة واعْتصرتْهَا ، أَطلَق أنينًا مَحبُوسا، قال لَه اَلمُدلك اِهْدأ. هَكذَا يَتَحرَّك اَلدَّم وتتجَدَّد الخلايَا الميِّت .
نزل بِشَكل أَسوَأ مِمَّا صَعد، يَتَخبَّط فِي مِشيَته، تَوقّف قَبْل أن يَصِل لِحمَّام السَّاوْنَا، رأى صَنادِيق الأمانات السَّوْداء على الجانبيْنِ، أبْوابهَا تَرتَطِم بِبعْضِهَا كُلمَا مَرَّت عَليهِم المرْوحة البطيئة، قُبَالَة المرْآة الكبيرة، رأى أَحدُهم نِصْف مُتَعري ، يضع الهاتف أمامه وَيشُد عضلاته حَتَّى تَبين اَلعُروق فيلْتَقط صُورَة يحْذفهَا، يَلتَقِط أُخرَى، يحْذفهَا ، يَلتَقِط أُخر.
خلف عشيق الهاتف، رأى البركة اَلتِي مَا زَالَت مِثلَما كَانَت عِنْدمَا جاءهَا قَبْل عشر سَنَوات، ماءهَا مُعْتِم رَغْم اَلكُلور اَلذِي يُضَاف لَهَا كُلِّ يَوْم، رأى اِثْنَان يسْبحَان، أَحَدهمَا سَمكَة قِرْش والْآخر دُولْفِين، يدورَان حَوْل بَعضهِما ويتعاركان بِالْمَاء.
عِنْدمَا دخل لِحمَّام السَّاوْنَا كَانَت اللَّمْبة المريضة تَشتَعل وتنْطَفئ، اَلبُخار اَلذِي يَتَكثَّف لََا تَدرِي هل هُو مِن الأجْساد اَلتِي كَانَت هُنَاك أُمُّ مِن اَلْماء اَلمغْلِي فِي الأنابيب – قال – اَلبُخار اَلكثِيف يُحرِّر الهواجس.
ظنُّ بِأَنه وَحدَه هُنَاك، لَمح أحدهم جالسًا فِي الضَّبَاب، يَرمِش بِسرْعة ويغيِّر جلْسته كُلَّ خَمْس ثَوانِي، الجالس اِشْتمَّ رَائِحة مَألوفة أشْعرَتْه بِالْعَطش، نظر إِلى الواقف بِاحْتقار، لَم يعْرفْه الواقف سَوى مُتأخِّرًا، نفث اَلبُخار مِن فَمِه وَأنفِه وَقَال وَهُو يَضرِب بِطَرف العصَا أُذُن الرَّامش الطَّويلة، أهذَا أَنْت  الجالس لَم يجب، اِستمَر فِي التَّحْديق فِيه.
صمْتا قليلًا، قال الواقف، إِمَّا أن نُصْبِح أَعدَاء أو أَصدِقاء، نسيتُ بِأَنك لَم تَعُد تَتَكلَّم مُنْذ تِلْك الحادثة اَلتِي خَسرَت فِيهَا اَلكثِير، خَسرَت سَمعَك وأشْيَاء أُخرَى تعْرفهَا، ولن أَذكُرك بِهَا، مِثْل هَذِه الأشْياء لََا تُنسَى أليْس كَذلِك؟ الرَّامش كان يُغْلِق قبْضتَيْه ويفْتحهمَا كَأنَّه يَخنُق هذَا اَللعِين اَلذِي يَلكُزه الآن أَقوَى مِن السَّابق، عِنْدمَا سحب الرَّامش العصَا مِن الآخر ووقْف لِيضْرِبه، عَبرَت وَزغَة على مِنشَفة المنْصدم اَلذِي تَفاجَأ بِتصرُّف مَخدُومه السَّابق، كَيْف واتتْه اَلجُرأة على هَذِه الفعْلة الشَّنيعة.
اَلذِي صُدم، كان يَحتَمِي بِيَده ويحاول قَذْف الوزَغة على حَامِل العصَا، المرْتجفة شَحمَة أُذُنه مِن الغضب، أُصيب اَلذِي كان مُديرًا، المتراجع لِلْخلْف بِحالة هِسْتيريَّة، جعلتْه يَصرُخ، تَوقّف الصُّرَاخ فِي حلقه، أوْقفَتْه الحموضة اَلتي اِنْفجَرتْ فِي أمْعائه، كان سِيتقيئْهَا لَكِن العطْسة اَلتي داهمَتْه أَغلَقت المجْرى، اِختنَق بِقيْئه وحموضته وكبْرياءه المنْكسر، الرَّامش تَيبّس فِي اَلْهَواء، يَدُه مَا زَالَت تَرفَع العصَا، جَسدُه المائل حَجْب الضَّوْء المتقطِّع لِلَّمْبة الصَّفْراء، ظِلُّه يَتَحرَّك مع الضَّوْء المتقطِّع، مِنْه خَرجَت ظِلالاً كَثِيرَة تَتَحرَّك حوْلهمَا.
رمى العصَا – اَلتي لَم يَقل أحد بِأنَّهَا تَحولَت لِثعْبَان – ذهب مُسْرِعا لِطَلب المساعدة، لَيْس رَحمَة بِالَّذي يلبط فِي الأرْض يُحَاوِل أن يَتَنفَّس لَكنَّه يَخنُق رقبته بِيديْه – الهلع يُغيِّر اَلأُمور.
ذهب الرَّامش فقط لِيخلِّص نَفسَه مِن هَذِه الورْطة، أن يَذهَب لِزوْجَته على الغدَاء، عِنْدمَا جاء بِممرِّض الصَّالة اَلذِي كان بِالْمصادفة هُو اَلمُدلّك نَفسُه ضَغْط اَلمُدلك بِقوَّة بِيَده على صَدْر المحْتضر، اِنْطلَقتْ مِن الحلْق اَلمُغلق عُصَارَة صَفْراء نَاحِية اللَّمْبة اَلتي تَهتَز، سقط اَلقليل مِنهَا على سِرْواله اَلقصِير وقميصه المكرْمش، سقط أيْضًا على الوزَغة المسْرعة فانْزلقتْ قليلاً وَأَكملَت طريقَهَا، رمش الواقف، حكّ شَحمَة أُذُنه ، وضع مِنْشفَته على رَأسِه وَذهَب.
فِي خُروجه، لَم يقل لَه أحد – خُذ اَلْباب معك – لَم يَجِد أحدًا يُصوِّر نَفسَه أَمَام المرآة، اَلذِي كان يُصوِّر نَفسَه هُو الآن يَتَألَّم فِي مَكَان مَا، عَينَه تسيل.
الرَّامش لَم يَجِد فِي البرَكة قِرْش ولَا دُولْفِين، فِي الخارج لَم يَجِد أحدًا يَتَعارَك مع اَلحدِيد وَتأَن مَفاصِله ورقبَته مُنتفخَة بِالْعروق، لَم يَجِد ذاك الواقف خَلْف الزُّجَاج، يَتكِئ على العصَا، يُشْبِه شخْصًا يُشْبِهه، كان يَختَنِق فِي الدَّاخل قَبْل قليل.
لَم يَجِد مُوظَّف الاسْتقْبال – وجد رَائِحة كبدة- فِي الخارج لَم يَجِد لَوحَة إِعْلانات تَلعَب بِهَا الرِّيح، وجد حبْلاً أَزرَق مَقطُوع، لَم يَجِد الحنفيَّة فِي الدَّاخل، وجد خَلفُه سَيْف الرَّحْمن مِن لَاهُور، يُصلِّي، شعره اَلكثيف اللَّامع يَهتَز كُلمَا تَحرَّك .