
Jun’ichirō Tanizaki by Shigeru Tamura. Source: Wikipedia
(١)
كان أوكامورا صديقي منذ الطفولة. فقد بدأتُ التردد على المدرسة الابتدائية التي لا تبعد كثيرًا عن بيتنا في شينكاوا في بداية شهر أبريل الذي بلغتُ فيه السابعة من العمر، وكان أوكامورا وقتها يأتي إلى المدرسة مع خادمة ترافقه. كنا نجلس متجاورين دائمًا، يلتصق تمامًا مكتبانا الصغيران. ليس هذا فقط، بل كنا نتشابه في العديد من الصفات.
وقتها كانت أسرتي تعمل في بيع الخمور، وكانت التجارة تزدهر يومًا بعد يوم، وتحقق نموًا مستمرًا. جعلت واجهة المحل الممتلئة بالحيوية دائمًا، قلبي أنا الطفل الصغير يشعر بفرحة واطمئنان حتى وإن كان ذلك في إطار غامض. لم يسبق لي أن ارتديت كيمونو رخيصًا من القطن لا أثناء الذهاب إلى المدرسة، ولا وقت وجودي في البيت. وعلاوة على ذلك، كنتُ متفوّقًا دراسيًّا، أختزن معلومات جميع المواد الدراسية سواء كانت قراءة أو حساب بسهولة شديدة في رأسي. كنتُ أحفظ في ذاكرتي كل ما أسمعه بوضوح تام بدون أي مجهود يذكر وكأنه يُكتب بالحبر الصيني على صفحة بيضاء. وكنتُ لا أفهم سبب استصعاب الكثير من التلاميذ للحفظ.
لم يصل أي تلميذ في جميع الفصول إلى ما أملكه من ميزات متعددة. ولكن في أحد الجوانب فقط كان أوكامورا يشبهني قليلًا، بل ربما تفوق عليَّ. فمع أنه من عمري، إلا أنه بدا أصغر بعام أو عامين بجسمه الصغير ووجهه الجميل ومظهره الراقي. وكان من أسرة غنية جدًا، وقد رحل والداه عن عالمنا مبكرًا، فتربى هو الابن الوحيد لوالديه تحت وصاية عمه. وأشيع وقتها أن تركة عائلة أوكامورا التي سيرثها مستقبلًا تبلغ حدًا مهولًا وتتراوح من مناجم إلى أراض جبلية وغابات وأراض سكنية وأنواع مختلفة من الأسهم والسندات، إذا حُسبت فمن المؤكد أنها تعادل نصف ثروة ميتسوي وإواساكي. ولذلك أحزنني أنه إذا قُورن ذلك بثروة أسرتي فلن أصل إلى كعب رجليه.
كان أوكامورا يرتدي دائمًا ملابس غربية مفعمة بالحيوية، على عكس الكيمونو المترهل الذي أرتديه فأغدو شبيهًا بأبناء المُهرّجين. كان يرتدي بنطلونًا قصيرًا على جورب طويل، وحذاءً لينًّا قصيرًا، ويعتمر قبعة القوات البحرية. وكانت الملابس الغربية في ذلك الوقت نادرة جدًا أكثر من الآن، لذا جذبت ملابسه أنظار الناس أكثر من ملابسي، مما أثار غيرتي أكثر وأكثر.
ومن ناحية الذكاء، لم يقل أوكامورا عني في القدرات العقلية. وإن لم يتفوق مثلي في جميع المواد الدراسية ولم يحب كل المواد بالتساوي. فقد كان يكره الحساب ويفضل القراءة عليه. وتفوق في مادة التعبير بصفة خاصة. إلا أنه لم يستطع التغلب عليَّ فيها. تفوقنا معًا في موهبة الكتابة، اشتعل التنافس بيننا ولكن مع مدح كل منّا الآخر. وفي كل اختبار كنتُ بالضرورة أحتل المركز الأول في جميع المواد، وكان هو يحتل المركز الثاني. كان الأساتذة والتلاميذ يعاملوننا معاملة متميزة. وبالتالي كانت علاقتنا دائمًا حميمية ويحترم كل منّا تفوّق الآخر، ويحتقر سرًا بقية تلاميذ الفصل أصحاب الدرجات المتدنية.
(٢)
خلال عشر سنوات مرت، تقدم أوكامورا معي بنفس الخطوات وعلى نفس المسار الدراسي. وفي ربيع السنة الخامسة من المرحلة المتوسطة، سألته:
-
– ما هي المدرسة التي ستدخلها بعد التخرج؟
فأجاب بشجاعة ودون توانٍ:
-
– بالطبع نفس المدرسة التي ستدخلها أنت.
فقد أعلنتُ منذ السنة الأولى في المدرسة المتوسطة أنني في المستقبل سأتخرج من كلية الآداب وأصبح أديبًا عظيمًا.
ولكن بدأتْ قدرات أوكامورا المتدنية في الرياضيات تتضح أكثر، فكان ترتيبه في الفصل أدنى مني أنا صاحب المركز الأول بكثير. وكانت المواد التي يكرهها أوكامورا بشدة هي بالطبع الرياضيات بالإضافة إلى جميع المواد التي تعتمد على معرفة جيدة بالرياضيات مثل الفيزياء والكيمياء. مادة أخرى كان أوكامورا يكرهها هي التاريخ. ويقول دائمًا:
– إن التاريخ ليس إلا خطًا واحدًا طويلًا فقط.
كان ما يحبه أولا اللغات، ثم بعد ذلك الجمباز الفني، ثم الرسم والغناء. وبالنسبة للغة الإنجليزية، فقد حصل بالفعل في الصف الرابع على الدرجات التي تؤهله للتخرج، فأخذ يقرأ بشراهة أنواع متنوعة ومختلفة من الروايات والكتب الفلسفية. ودعا أستاذًا أوروبيًّا لكي يقيم في بيته ويعمل مدرسًا خصوصيًّا له، فاستطاع في وقت قصير القراءة والتحدث باللغتين الألمانية والفرنسية. ويبدو أن حنجرته ولسانه ملائمان جدًا للتحدث باللغات الأجنبية، فحتى الجمل المملة التي نتعلمها في كتب القراءة المدرسية عندما يقرأها يغدو لها رنين ورونق من طلاقة لسانه، فنشعر فورًا وكأنها حروف من ذهب. في ذلك العصر، انتشرت قصص موپاسان بشدة في الوسط الأدبي الياباني. وبينما كنا نعتمد على ترجمة غير مؤكدة للتعرف عليه أكثر، كان أوكامورا يقرأه بلغته الأصلية بسهولة تامة.
قال لي ذات مرة:
-
– إن موپاسان باللغة الفرنسية يا عزيزي بهذا الجمال.
ثم قرأ لي أول صفحة من قصة Sur L’eau “فوق الماء”. فشعرت بأن تلك الجمل جميلة جمالًا لا مثيل له في هذا العالم رغم عدم معرفتي وقتها باللغة الفرنسية مطلقًا. لم أندهش من ابتعاد أوكامورا فجأة عن الأدب الياباني إذ تذوق لغة بهذا الجمال. وعندما أفكر في ذلك الأمر الآن، فما من شك أن قراءته لي تلك الصفحة ولّدت لدي لأول مرة اهتمامًا وفهمًا للآداب الأجنبية.
لكن بغض النظر على اللغات الأجنبية، كان حبه للجمباز الفني أمرًا عجيبًا. فقد كان يلعب البيسبول والتنس والتجديف والجودو … أي جميع الألعاب الرياضية غالبًا، ولكنه كان متفوقًا في الجمباز الفني.
إن لم تجده يقرأ في كتاب، فهو بالضرورة في صالة ألعاب المدرسة يلعب بجسمه الرشيق على العقلة أو المتوازي. نمت عضلاته التي كانت ضعيفة في طفولته فأصبحت وهو في الثالثة أو الرابعة عشرة من عمره قوية باهرة، وعظامه متينة، وقامته طويلة، وبات شابًا موفور الصحة والأناقة. كان شعر رأسه فاحمًا وكأنه متوجًا بشعر مستعار، وبشرته بيضاء على الدوام لا تعرف سمار لفح الشمس. ومن نظرة خاطفة تُعطي تلك الأطراف الرجولية الرشيقة انطباعًا أنها تناسب الألعاب الخفيفة. بعد العودة من المدرسة، كان يلعب على أدوات الجمباز الفني المعدة في حديقة بيته ويظل لمدة ساعة أو ساعتين، يتمرن على الوقوف على يديه والقفز في الهواء دون أن يعرف الملل.
(٣)
في البداية كنتُ أحتقر جدًا حبه الجنوني للجمباز. فمن الطبيعي أن يبدو لعبه الذي يعادل التدريب الخفيف في عيني بلا أي معنى بالنسبة لي، حيث ظننت بصدق ألا وجود لمتع غير الفنون والآداب. وعندما أنظر إليه فأجده يتدرب بكل تركيز، دون أن يلتفت لشيء، تثور داخلي رغبة في إبداء النصيحة له بالقول:
-
– لا يبدو لي أنك ستغدو أديبًا أو فنانًا.
حدث في مساء خريفيّ بعد وقت قصير من نهاية الفصل الدراسي في المدرسة، أن زرت بيته الفخم لمواصلة نقاشنا الأدبي المعتاد، وكان يمارس تدريباته الرياضية فأدخلوني إلى مكان الأجهزة الرياضية مباشرة في الحديقة.
نادى عليّ بصوت مستمتع وهو جالس فوق العقلة الحديدية وخلفه السماء الزرقاء المشرقة:
-
– المعذرة. ما رأيك أن تمارس معي بعض التدريبات؟
كنتُ معتادًا على مظهره بالزي المدرسي (وكان معتادًا على ارتداء الزي المدرسي حتى في البيت)، فشعرتُ بالدهشة من جاذبيته وسحره بالملابس الرياضة الزاهية بلونها الرمادي الشاحب وقد التصقت بجسمه تمامًا فبدا كأنه نصف عار. قال لي أوكامورا:
-
– إن كنتَ لا تريد، فقف مكانك وراقبني. لأنني لن أرتاح حتى أتبلل عرقًا.
ثم استمر لمدة عشرين دقيقة أخرى يريني أنواعًا متعددة من الألعاب دون أن يُريح أنفاسه المتقطعة.
وأثناء رؤيتي له في صمت، بدأت أنجذب له تدريجيًّا، ثم في النهاية شعرتُ بالغيرة من قدرته على تأدية الألعاب الفنية الرائعة تلك بحركاته الخفيفة. الأرجح أن كلمة “كطيران غراب” التي تدل على السرعة الشديدة وُضعت من أجل وصف حركة أوكامورا… وقفتُ منبهرًا وأنا أراه يقفز من على الأرض إلى العقلة الحديدية، وفي التو والحال يرفع ساقيه في الهواء ثم ينقلب بسرعة عالية كالوطواط حتى يتدلى لأسفل، وتندفع أطرافه الأربعة بسرعة مذهلة في الهواء وكأنها مطاط مسدس لعبة، ثم في اللحظة التالية يلتف حول العقلة الحديدية ويرتد مثل طبلية الفخار. في كل مرة كانت العقلة تضرب جسمه النحيل جدًّا بما يشبه الألم وكأنه سوط. بعد أن انتهى من العقلة، قفز هذه المرة هابطًا فوق قمة الدرج ليقف على يديه، ثم قفز أعلى من أغصان شجرة الصنوبر التي في الحديقة مستخدمّا عصًا من الخيزران تزيد عن طوله… وكل من يرى جمال وروعة تلك القفزة يظن أنها عمل لا يستطيعه بشر.
قال أوكامورا وهو يجلس بجواري:
-
– آسف على أني جعلتك تنتظر! أخيرًا ارتاحت نفسي.
وقد التصق عدد لا نهائي من حبات الرمل الفضي بساقيه الرفيعتين البيضاوين وكأنه يرتدي جوربًا شفافًا.
في تلك الليلة، أمسك أوكامورا بي، وأسمعني بلا نهاية نظريته عن العلاقة بين الفنون والرياضة. قال إنه يشعر بأهمية الألعاب الرياضية في إدراك جوهر الروح اليونانية التي هي المنبع الأصلي للفنون الأوربية. وقال إن الآداب والفنون، تبدأ جميعها من جمال الجسم البشري. إن الشعب الذي يستهين بالقوة البدنية، لا يستطيع في النهاية أن يصنع فنًا عظيمًا… ومن وجهة النظر تلك، أطلق على جمبازه الفني وصف التدريب اليوناني. بل بلغ به الأمر أن يقول إن المرء مهما كان عبقريًّا لا يؤهل للحصول على طبيعة الفنان الحقيقي دون المرور بتلك المرحلة من التدريب. وكنتُ على أي حال أرى أن وجهة نظره معقولة ومشروعة، فأدركتُ أن تحقيري للألعاب الرياضية كان تحيزًا مني، ولكن مع كل ذلك لم أستطع أن أوافقه الرأي مطلقًا بأن القوة البدنية هي أصل كل شيء. بل على العكس، فكرت أن كلماته مفرطة في غرابتها. وأتذكر أنني قلت له معارضًا لما قاله:
-
– الفكر أولًا قبل القوة البدنية. إن لم يكن ثمة أفكار عظيمة، لا يمكن خلق فن عظيم.
(٤)
مع مرور الأعوام بدأنا تدريجيًّا لا نسير في نفس الطريق رغم أن هدفنا واحد. ولكن ربما كان ذلك طبيعيًّا ما دمنا شخصين مختلفين ولسنا بجسد واحد. والأمر المحزن أن الاختلاف لم يكن في أفكارنا فقط ولكنه وصل في النهاية إلى الظروف المحيطة بنا أيضًا. فقد وقع بيتنا في أزمة اقتصادية، وتسارع وطء تخلّينا عن ملكية العقارات والأصول التي لم تكن كثيرة أصلًا للغير حتى بات صعبًا علينا في النهاية أن نحتفظ بالمحل كما هو. ثم مات أبي فجأة قبل أن أتخرج من المدرسة المتوسطة بستة أشهر. فعانيت من التفكير في كيفية مساندة العائلة مستقبلًا لأنني الابن الأكبر الممثل لعائلة شيمادا، وأتحمل عبء أمي وثلاثة أخوة. ونظرًا للديون المختلفة التي تركها أبي، فالتركة التي وصلت لنا نحن الأبناء والأم، ليست سوى أسهم وسندات بقيمة تقل عن ألفي ين فقط لا غير. نصحني أقاربي أن أدخل كلية الهندسة أو كلية الطب أو على الأقل كلية القانون لكي يكون لي أمل في مستقبل وظيفي مضمون، ولكنني رفضت ذلك بعناد. وقلتُ لهم:
– أريد أن أتعلم الأدب بأي وسيلة. أريد أن أكون أديبًا حتى وإن لم أستطع العيش بنفس الرفاهية السابقة، ولن أتسبب في إزعاج أحد من العائلة.
وعزمتُ بقوة على ذلك. أثناء سقوط عائلتي في تلك الأزمات المالية، لم تقترب ثروة أوكامورا من حدود الفقر مطلقًا. فلقد كانت ثروته كبيرة كبرًا لا يجعلها تنهار بمجرد ضربة واحدة من الأزمات العادية. وكان يقول لي أحيانًا إنه يريد السيطرة بحرية على كل ثروته والابتعاد عن وصاية عمه بأسرع وقت ممكن عندما يبلغ السن القانونية التي تسمح له بذلك. ملأ تفكيره إدراك واع بالنفس مضمونه: “أنا الابن الوحيد لرجل عظيم الثراء. أمتلكُ الكمال كله؛ ثروة هائلة، وجسدًا قويًّا ومتينًا، وملامح وسيمة رائعة وعمرًا شابًّا.” وفي لمح البصر أمسى أنيقًا ولكنه كان أيضًا متكبرًا وأنانيًّا. ورغم أنه ما زال في المرحلة المتوسطة إلا أنه كان يفرق شعره ويدخن السيجار ويضع في إصبعه خاتمًا مهولًا من الألماس وفي معصمه ساعة ذهبية. فبات شهيرًا في المدرسة، الجميع يعرف اسم أوكامورا الطالب في الصف الخامس وما من أحد يجهله. وكرهه الجميع، كرهه الطلاب وكرهه المعلمون. ولم يقترب منه أحد ناهيك عن أن يكون له صديق. أنا الوحيد الذي ظللت على علاقة مقربة منه. ولكن حتى أنا، كان يثير غضبي أحيانًا ما يقوله. فقد اشتكى لي في إحدى المرات وهو يتنهد تنهيدة أسى:
– من المؤكد أنني سعيد. من المؤكد أن ما من أحد يصل إلى درجة سعادتي في العديد من الأمور… ولكنني لا أرضى عن نقطة واحدة فقط، ألا وهي أن أسرتي تمتلك المال ولا تمتلك ألقابًا نبيلة. لو كنتُ ابن عائلة نبيلة بحالي هذا لحققت السعادة الحقيقية بالتأكيد!
ولم أكن حتى ذلك الوقت على الأقل أفسر أناقته ورفاهيته تفسيرًا شريرًا. كنتُ أرى أن رفاهية أوكامورا ليست ناتجة عن الشهوة ولكن تعود إلى طبيعته الأدبية التي تُبجّل “الجمال”.
كنتُ أؤمن أن “الثروة لا ترتبط بالجمال بالضرورة. ولكن يجب على الجمال دائمًا أن يستعير قوة الثروة”، لذا حتى لو كنتُ أغار من ثروة أوكامورا إلا أنني لم أحمل له أي كراهية. وكنتُ أفكر أن معنى افتخاره بثروته هو الافتخار بجماله. لكنني لم أتوقع مطلقًا أن يصل الأمر إلى تمني الحصول على لقب نبيل من ألقاب المجتمع. لقد سقط أوكامورا من نظري عندما سمعت كلماته تلك. فهمستُ لنفسي سرًّا: “لقد كنتُ حتى الآن أقدر أوكامورا تقديرًا أكبر مما يستحق. لقد خُدعتُ فيه”. ثم قلت له بأمل أن يعيد التفكير مرة ثانية:
– بالطبع وجود المال يحقق السعادة، ولكن ربما يحدث فجأة ما يجلب التعاسة. لأن الثروة تتسبب في السقوط الروحي للإنسان دون أن يشعر.
فأجاب بلا مبالاة تامة:
– لا قلق من ذلك. إن سقوط الأغنياء سببه انشغالهم في العمل في محاولة لزيادة ثروتهم تلك أكثر وأكثر. سيسعد الإنسان الذي يملك مالًا دائمًا إذا لم يعمل، وتفرغ للهو واللعب فقط.
(٥)
وفي صيف عام تخرجي من المدرسة المتوسطة، استطعت بنجاح باهر الالتحاق بالمدرسة العليا الأولى في طوكيو. ولكن أوكامورا رسب في النهاية في اختبار القبول بسبب ضعفه في الرياضيات. وفي الأصل ربما كان يستطيع الالتحاق بالمدارس العليا في الأقاليم، ولكنه يكره الابتعاد ولو مترًا واحدًا عن طوكيو، فقبل إعادة السنة راضيًا.
وقال لي بملامح ليس بها خيبة أمل بتاتًا:
– ما من سبب يجعلني في عجلة، لذا سأختبر العام القادم. وخلال هذا العام سأذاكر الرياضيات باستماتة.
ثم ظل يذاكر الجبر والهندسة لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات كل يوم لمدة من الزمن.
فقلت له ناصحًا:
– ألا ترى أنه من الأفضل لشخص مثلك السفر للدراسة في الغرب؟
قال:
– فيما يتعلق بالسفر فأنا أريد السفر بشدة، ولكن عمي لا يسمح لي مهما طلبت. لذا فالسفر مستحيل ما دام عمي على قيد الحياة.
ثم حدث تغيير هائل في موقف أوكامورا ومظهره خلال العام الذي انقطعت فيه علاقته مع الحياة المدرسية، فهو الذي عاش في ظل قيود المدرسة المتوسطة الصارمة حياة رفاهية بعيدة كل البعد عن عامة الناس، وصل تقريبًا إلى الجمال الفخم. فغيّر ملابسه فجأة إلى الزي الياباني التقليدي الذي لم يكن يحبه حتى الآن، وفصّل الكثير من الكيمونو والمعاطف بتصاميم مخططة ومبهرجة فجأة، ثم بات يرتديها ويسير بها مبدلًا بينها. وكان يؤكد على رأيه الذي يقول:
– في الواقع إن ملابس الرجال في اليابان حاليًا في منتهى التواضع. انظر إلى ملابس الرجال في الغرب، وبالطبع في الصين وكذلك الهند، تجدها غنية بالمنحنيات وبالألوان الزاهية، يمكن رسمها في لوحة من الفن الياباني أو لوحة زيتية. ولكن إذا نظرنا إلى ملابس الرجال في اليابان، فلا يمكن رسمها في أي لوحة على الإطلاق. لو وصل الأمر إلى ارتداء مثل هذه الأزياء المناقضة للذوق الفني، فالبقاء عاريًا سيكون أجمل كثيرًا. في بداية عصر توكوغاوا انتشرت باليابان أزياء تفضل البهرجة بين العامة لدرجة لا تفرق بين ملابس الرجال والنساء. إن الفرح بالملابس المستوردة وكراهية الملابس اليابانية هو إرث ذوق العامة المحافظ في نهاية عصر إيدو. يجب على اليابانيين في العصر الحالي بعث الماضي القديم للملابس المبهرجة المتأنقة التي كانت في القرن السابع عشر.
ثم طلب من حائك أن يصنع له ملابس من قماش نسائي بقدر الإمكان بعيدًا التطرف ثم ارتداها وسار بها في الطرقات. يرتدى أحيانًا كيمونو من الحرير الأسود عليه شعار العائلة مصنوعًا من القطن القصير، وتعمد أن يلبس خُفًّا بنعل حديدي يقرقع به على الطريق، وفي حين آخر يلبس كيمونو خشنًا من الحرير الأصفر المزدوج على حزام هاكاتا الأبيض المربع، ودائمًا في هذه الحالات لا يعتمر قبعة، ويجعل شعره الطويل شديد السواد يهفهف مع الرياح، ويسير متمايلًا بجسده الذي يقترب طوله من ستة أقدام، مما يجعل هيئته عظيمة وفخمة وبلا أي قدر من السوقية أو الهزل، فيلتفت جميع المارة إلى الخلف للنظر إليه بعيون ممتلئة بالإعجاب. في ذلك الوقت كان يتردد على متخصص لتجميل الوجوه خمس أو ست مرات في الشهر، فيكرر صقل جسده بمساحيق التجميل، وعند خروجه من بيته يضع دائمًا قليلًا من مساحيق التبييض على وجهه، بل لدرجة صبغ شفتيه بلون أحمر خافت، ولأن ملامحه كانت جميلة في الأصل لم يتنبه أحد إلى أنه يفعل ذلك مطلقًا.
وكان يقول متعاليًا:
– إنني أؤمن أن شكلي يشبه لوحة فنية دائمًا.
ولا تجعل طبيعة شخصية أوكامورا أحدًا يتهمه بالشذوذ ولو قليلًا لارتداء ذلك الزي، وكنتُ أشعر بالإعجاب العميق في سري لأنه من الصعب جدًّا أن يفكر شخص غيره في ذلك. ولا عجب أن تعشقه بنات الغيشا في الأماكن التي يذهب إليها أوكامورا في شينباشي أو ياناغيباشي أو أكاساكا، عشقًا شديدًا لدرجة العبادة.
وعندما سألته:
– ألن تجعلك هذه الطريقة في الحياة تكره العودة للدراسة مجددًا؟
أجاب وهو يهز رأسه عدة مرات:
– كلا لن يحدث هذا. فأنا لن أحتقر قيمة العلم أبدًا. على الأرجح أنك لم تعرف شخصيتي الحقيقية بعد.
ومع ذلك بقي داخلي شك، ولكنه تعلم الرياضيات في غفلة من الزمن ونجح بتفوق في الالتحاق بالمدرسة العليا الأولى في صيف العام التالي. فزاد انبهاري وإعجابي به أكثر وأكثر.
(٦)
وعزمتُ على ألا أدع أوكامورا يهزمني فيما يتعلق بالدراسة على الأقل. هذا بالإضافة إلى أن حالتي الاقتصادية كانت حافزًا لمواصلة الدراسة مستغرقًا فيها بكل روحي وجسدي حتى أُصِبتُ بمرض الوهن النفسي فنحفت خدودي وشحب لوني وبات مظهري بائسًا يثير الإحساس بالوحدة. وفكرت أنه من أجل أن أضحي أديبًا عظيمًا علي في البداية دراسة الفلسفة دراسة كافية بأي وسيلة. وغرقت في قراءة نيتشه وشوبنهاور بكل اجتهاد بلغتي الألمانية المشكوك فيها. وكانت نتيجة انكبابي على كتب شركة ليكريم للنشر الرخيصة بحروفها الدقيقة أن تسارع ضعف نظري بدرجة كبيرة جدًا.
ولكن أوكامورا لم يحاول مطلقًا قراءة الكتب ذات الحروف الدقيقة قائلًا:
– قراءة الكتب أمر هام. ولكن الحفاظ على العيون سليمة أهم بكثير.
ثم فتح صفحة الفصل الرابع عشر من كتاب لاوكون الذي يدرّسه له مدرس اللغة الألمانية في المدرسة ودفعه أمام عيني وقال:
– لقد ذكرني موضوع العيون بأن الرجل الذي يُسمّى ليسنغ إنسان لا يُطاق. انظر إلى مثل هذه الجملة المذكورة هنا:
Aber müsste, solange ich das leibliche Auge hätte, die Sphäre desselben auch die Sphäre meines innern Auges sein, so würde ich, um von dieser Einschränkung frei zu werden, einen grossen Wert auf den Verlust des ersten legen.
يمتدح ليسنغ بتلك الكلمات فقدان ميلتون لبصره. يقول إنه لو كان امتلاك البشر للبصر يضع قيدًا على نطاق بصيرتهم فمن الأفضل ألا يمتلك البشر عيونًا. أليس هذا المنطق غريبًا؟ لو سُمح لي بالقول، فالبصيرة التي بلا بصر ليس لها أي فائدة في مجال الآداب والفنون. وأعتقد أن الشرط الأول لأي فنان أن يمتلك كل الحواس. ولذا فهذا الرجل المدعو ليسنغ مخطئ خطأ جوهريًّا في تفسيره للفنون.
– معنى هذا أنك لا ترى أن ميلتون عظيم؟
– أجل لا أرى ميلتون عظيمًا. بالطبع هوميروس حالة خاصة جدًا، ولكن ثمة شكوك في أنه كان ضريرًا أصلًا.
كان هجوم أوكامورا على ليسنغ هائلًا، يفتح صفحات هنا وهناك في كتاب لاوكون وهو يصب عليه اللعنات دون أي رحمة أو مراعاة.
-
… من هنا إلى هنا كتب ما يلي:
Achilles ergrimmt, und ohne ein Wort zu versetzen, schlägt er ihn so unsanft zwischen Back’ und Ohr, dass ihm Zähne, und Blut und Seele mit eins aus dem Halse stürzen. Zu grausam! Der jachzornige mörderische Achilles wird mir verhasster, als der tückische knurrende Thersites;………………………… denn ich empfinde es, dass Thersites auch mein Anverwandter ist, ein Mensch.
إنه هنا يقيم منظر قتل أخيل لترسيتس، بأن يقول إن قطع ما بين الأذن والخدود وتطاير الأسنان من فتحة الجرح ونزيف أنهار من الدماء منظر وحشي قاس يمحو شعور السخرية من ترسيتس السابق. الأحرى أن يُبغض أخيل الذي قتله تلك القتلة. أي أن ما دام ترسيتس بشرًا مثلنا فيجب أن نشفق عليه حتى وإن كان قبيح الوجه. ولكن رأيي أن الشخصية الساخرة يجب أن تظل ساخرة حتى النهاية، وكلما كان موتها غرائبيًّا نستمتع أكثر. ألن يكون مضحكًا في الواقع تخيل وجه ترسيتس الذي تعد حياته أصلًا مضحكة يتحطم تحطمًا قاسيًا ويتلوى ويفرفر ويمتلئ بالدماء؟ من الحماقة سيطرة المشاعر الأخلاقية أثناء النقد الأدبي ووصف أخيل بالكراهية إلخ.
اعترضت عليه بالسؤال:
– يبدو أن وجهة نظرك مَرَضية قليلًا. جرب أن تتخيل هذا الوصف القاسي وقد رُسم في لوحة وليس شعرًا. هل مع ذلك ستشعر أنه مضحك؟
فبات أخيرًا راضيًا عن نفسه وهو يواصل النقاش.
(٧)
– حتى ولو لم أشعر بأنه مضحك، فمن المؤكد أن أشعر بالمتعة. والأحرى أن يجعلها رسمها في لوحة أكثر تشويقًا. فمن الخطإ تقسيم المتعة الفنية إلى حزن وضحك وفرح. لأنه في هذا العالم لا يُفترض وجود حزن خالص أو ضحك خالص أو فرح خالص.
– أتفق معك في هذه النقطة، ولكن ألا تعترف بوجود حدود بين إطار الرسم وإطار الشعر التي شرحها ليسنغ؟
– أجل، لا أعترف بها البتة. وأعترض على رأي لاوكون من البداية إلى النهاية.
– هذا رأي متهور بعض الشيء.
– اسمعني جيدًا. لا قيمة لرسم شيء في لوحة أو كتابته في شعر ما لم يكن جميلًا جمالًا أستطيع رؤيته بنظرة واحدة، أي ألوان موجودة وجودًا مكانيًّا، جمالًا شكليًّا. وأجمل شيء هو الجسد الإنساني. مهما كانت الأفكار عظيمة لا يمكن الشعور بها من خلال النظر. ولذلك لا يُفترض وجود جمال في الأفكار.
– معنى ذلك أنه لا ضرورة لدراسة الفلسفة لمن يريد أن يصبح فنانًا.
– أمر مؤكد. الجمال لا يخضع للتفكير. بل هو إجراء في منتهى البساطة، إمكانية الشعور به مباشرة من نظرة واحدة. بل وكلما كان الإجراء بسيطًا كانت فاعلية الجمال أكثر قوة وعنفوانًا. لقد قرأتَ كتاب عصر النهضة لوالتر بيتر أليس، كذلك؟ على ما أتذكر أنه كتب فيه ما معناه أن الموسيقى هي أكثر الفنون فنًا بين جميع الفنون. بمعنى أنه يقول إن المتعة التي تعطيها الموسيقى هي متعة مباشرة وواضحة ولا تحتاج إلى إجراءات. مهما كان جمال الشعر أو الرسم فلا يخلو أحيانًا من انعدام المعنى. وعلى العكس من ذلك الأصوات التي تصدرها كل الآلات الموسيقية سواء البيانو أو الكمان أو غيرهما ليس بها أي نوع من المعاني. لا تستطيع الموسيقى أن تفكر. إننا نشعر أنها جميلة فقط. ويمكن القول في هذه النقطة إن لا شيء يناسب مقصد الفنون مثل الموسيقى.
– إذا كنتَ تفكر هكذا فلم لا تصبح موسيقيًّا؟
– لسوء الحظ أن أذني ليست ناضجة مثل عيني، ولذا لا أستطيع الإحساس بقوة بالجمال الناتج عن الموسيقى. إن شعور الجمال الذي تُحدثه الموسيقى عظيم جدًا، ولكنني أعتقد أن الوصول إلى محتوى ذلك الجمال نفسه ضعيف. إذا تحدثتُ عن الفن المثالي فهو التعبير عن الجمال الذي تراه العين بطريقة موسيقية بقدر الإمكان.
– هل تنوي أن تحقق هذا الشيء الصعب؟
– أنوي أن أبذل جهدي حتى ولو لم أقدر في النهاية… وهنا سأعود للهجوم على لسينغ مرة أخرى، إن ما يجب أن يُقال عليه جوهر لاوكون يعود إلى الجملتين التاليتين اللتين تقيدان إطاري الرسم والشعر. قال: “ترسم اللوحة تكوين وضع التعايش لذا فيمكنها فقط تعويض الحركة في لحظة معينة واحدة. وبالتالي يجب اختيار اللحظة الأكثر دلالة والتي تكفي لجعل المرء يُخمّن ما قبلها وما بعدها من لحظات”. ثم قال: “وبالمثل يصف الشعر حالة تقدم واستمرار لذا يمكنه تعويض ميزة واحدة فقط لشكل معين. وبالتالي بدلًا من اختيار جانب واحد فقط يجب اختيار الميزة التي تُعطي تشبيهًا واضحًا للصورة الكاملة”… تقريبًا هذا هو المعنى الذي ذكره. أولًا لدي اعتراض شديد في البداية على عدة نقاط تتعلق بالتعريف. لا شك أن اللوحة الفنية تصف حالة تعايش للأشياء إلى حد ما. ولكن أين المنطق في قوله إن اختيار لحظة دلالة تكفي لإفهام ما قبلها وما بعدها من لحظات؟ إن اللوحة الفنية غير معنية بحادثة أو رواية يعرب عنها موضوعها. لنفترض مثلًا وجود عمل فني لرودان، نحت لإنسان يحمل جثمان إنسان آخر جعل له عنوانًا هو “موت صافو”. تُرى هل ثمة ضرورة حتمية لمعرفة سيرة صافو من أجل تذوق شعور الجمال من هذا العمل الفني؟ هل ثمة ضرورة لفهم اللحظات التي جاءت قبل أو بعد تلك اللحظة؟
(٨)
– … أرى أن هذا منطق في منتهى الغرابة. فجمال اللوحات والمنحوتات يجب أن يعتمد فقط على تأثير الشكل أو الألوان التي تم التعبير عنها، ويجب أن يحس به الرائي مباشرة ومن أقصر الطرق. ولذلك إذا كان نحت رودان “موت صافو” جميلًا فهذا معناه أن الجسدين اللذين يُظهرهما هذا العمل جميلان. ويُفترض أن تاريخ صافو ليس له أي علاقة بذلك مطلقًا.
– ولكن ألا تجعلك معرفة ذلك التاريخ تشعر باهتمام أزيد؟
– ولكنه سيكون اهتمامًا تاريخيًّا ولا يُقال إنه اهتمام فني، أليس كذلك؟ ولأن الفن لا يطلب هذا الاهتمام بالضرورة، فلا مانع من وجوده أو عدمه. ولذلك إن كان ثمة لحظة يجب أن يختارها الرسام فهي تلك اللحظة التي يصل فيها الجسم إلى أفضل وأقوى حالات الجمال. وشبيهًا بذلك أيضًا قول ليسنغ إن الرسام يجب عليه أن يلتقط “لحظة الدلالة” فهو يحصرها في نطاق ضيق جدًّا.
Wenn Laokoon also seufzet, so kann ihn die Einbildungskraft schreien hören; wenn er aber schreiet, so kann sie von dieser Vorstellung weder eine Stufe höher, noch eine Stufe tiefer steigen, ohne ihn in einem leidlichern, folglich uninteressantern Zustande zu erblicken. Sie hört ihn zuerst ächzen, oder sie sieht ihn schon tot.
عند النظر إلى منحوتات لاوكون اليوناني نجده يتنهد فقط بصعوبة وقد التف حوله ثعبان. ملامح حزينة ولكنها هادئة. لا يُقطّب وجهه مطلقًا ولا يصرخ من الألم. ولكن تلك المنحوتات تجعلنا نتخيل تخيلًا كافيًا الآلام والمعاناة وخيبة الأمل التي تعتريه. وعلى العكس من ذلك، لو أطلق لاوكون صراخًا عنيفًا أو أظهر ملامح معاناة مبالغ فيها، ستفقد منحوتاته صداها تمامًا. لا تستطيع قوة خيال الرائي أن تبتعد خطوة واحدة بعيدًا عن المنحوتات. تسمع أنين لاوكون، ويظهر لها بالفعل محاولته ألا يموت. وعلى هذا المنوال، اللحظة التي تظهر وكأنها بها متسع للخيال وتجنب كل التحفيزات العنيفة، هي اللحظة التي يصفها ليسنغ بكلمة ”لحظة الدلالة”. وإذا سيرنا على هذا المنطق، لن نستطيع وصف موت الإنسان لا رسمًا ولا نحتًا. وكما قلتُ منذ قليل، ما من ضرورة البتة لفهم ظروف ما قبل وما بعد لكي نتذوق إحساس الجمال. سواء كان لاوكون يتنهد أو يصرخ، أو سواء كان يتألم ودمه ينزف، يكفي فقط أن يظهر جماله الجسماني ظهورًا كافيًا في تلك اللحظة.
– ولكن أليس معنى هذا أن قوة الخيال مثلًا لا ضرورة لها عند تذوق الفنون؟
– أجل هو كذلك… إنني في الأصل أكره بشدة كلمة قوة الخيال المزعجة تلك. فلا أستطيع الموافقة على جمال أي شيء مطلقًا ما لم يظهر أمامي بوضوح وأستطيع رؤيته بعيني أو لمسه بيدي أو سمعه بأذني. لا أرضى إلا بتذوق إحساس الجمال العنيف الذي يشبه الضرب بأشعة المصباح القوسي بدون أي متسع للخيال.
– مثل هذا النقاش ربما يتفق مع فنون الجمال الشكلي، ولكن أليس من المستحيل تطبيقه على الشعر والرواية؟
– ربما كان تطبيقه في منتهى الصعوبة، ولكنني لا أعتقد أنه مستحيل تمامًا. وفي الأصل لو كنتُ أملك مهارة يد أفضل قليلًا لم أكن لأتوجه إلى الأدب بل لأصبحتُ رسامًا أو نحاتًا. ولكن ما باليد حيلة، فلا أملك إلا موهبة الكتابة. وأريد في أي حال أن أجرب التعامل مع الجمال من خلال الكتابة باعتبارها شيئًا واحدًا مثلها مثل الرسم والنحت. حسنًا ما الذي سوف ينتج من ذلك؟ أنا شخصيًّا لا أدري في الوقت الحالي، ولكنني أريد فقط أن أرفض القواعد التي يتحدث عنها ليسنغ بقوله: “الشعر يصف وضع الأشياء في مراحل تطورها” أو “التعويض فقط عن جزء من الشكل” لأن ذلك ليس في رؤيتي.
وصل النقاش مع أوكامورا في النهاية إلى مذاق مؤلم بعض الشيء. فضحكتُ في سري ساخرًا منه وأنا أفكر “مهما قلت تلك الحجج، فلن يقبلها أحد على أرض الواقع. لو كنتَ قادرًا على كتابة ذلك، اكتبه!”
(٩)
ثم انهمكتُ في القراءة باجتهاد لعامين تقريبًا، ومنذ العام الذي بتُّ فيه في الصف الثالث من المدرسة العليا، بدأتُ أخيرًا في كتابة الأشعار والروايات، وكنتُ أرسل ما أكتب إلى المجلات الأدبية المختلفة. وعلى الفور اعترف بي عالم الأدب، بل وأُشير إليَّ على أنني أحد الذين لهم مستقبل مأمول من بين الكُتّاب الصاعدين. يا لها من فرحة عارمة تلك التي شعرتُ بها في ذلك الوقت. وفي نهاية المطاف تخيلتُ أن اسمي بات يظهر بجوار أسماء مثل كويو وإيتشيو وشيكي، بصفتي أحد الذين يجب أن تزين أسماؤهم صفحات التاريخ الأدبي لعصر ميجي. بلغ بي الزهو مبلغه فحاولت الإكثار من الإبداع كما أريد. وفي الواقع تدفقت الأفكار متتالية في تتابع لدرجة عدم قدرتي على الابتعاد عن القلم، ولذا لم يطرأ على بالي مطلقًا أنني إن كتبت كثيرًا سأصاب بالجفاف وقلة الإبداع. “أخيرًا تغلبت على أوكامورا!” انتشيتُ بهذه الفكرة نشوة بالغة.
لقد فهمتُ جيدًا حتى بعين الغريب أن أوكامورا في حالة حيرة شديدة لا يستطيع تحديد الموقف الذي يجب عليه أن يأخذه تجاه الفن. عند الحديث معه يتحدث بلسانه فقط عن أمور عظيمة، ولكن ما من مثال واحد استطاع فيه أن يُظهر ما يقوله في شيء منفذ. ومع قول ذلك، … لا يبدو عليه أنه يدرس ويبحث بجدية في الكتب، لا كتب الفلسفة بالطبع التي يكرهها ولا حتى كتب الأدب. بل يقرأ أحيانًا أشعار وروايات فرنسية، وغير ذلك كان يحفظ عن ظهر قلب كتب الفنون خاصة الرسم والنحت، ليس الكتب الغربية فقط بالطبع بل حتى كتب الهند والصين واليابان. وبعد مرور وقت قصير قال متألمًا:
-
– من الأسف الشديد جدًا أنني لا أستطيع أن أكون رسامًا.
وعندما قلتُ له:
-
– من أكثر رسام تحبه بين الرسامين القدماء؟
فأجاب:
– في اليابان، تويوكوني، وفي الغرب، لوترك.
كان يعشق السيرك جدًا بقدر ما يحب لوترك.
ثم واصل القول:
– الأكروبات في اليابان مملة جدًا لأن أجساد اليابانيين ضعيفة، ولكن السيرك في الغرب أكثر فنًا من المسرح. إنني أريد أن أصنع فنًا له مذاق السيرك.
مع مرور الأيام، بات حديث أوكامورا أكثر غرابة ويقول أشياء لا يُعرف منها أهو جاد أم هازل؟
وقد كتب أوكامورا على حواف مفكرته الكلام التالي وأراه لي:
“الرواية هي أكثر الأعمال الفنية وضاعة. يليها الشعر. الرسم أنبل من الشعر، والنحت أنبل من الرسم والمسرح أنبل من النحت. وبالتالي أنبل الأعمال فنية هي في الواقع جسد الإنسان ذاته. يبدأ الفن أولًا من أن يجعل الفنان جسده جميلًا.”
وكان الجزء الذي ينفذه أوكامورا من آرائه هو “جعل جسده جميلًا” فقط، ولم يتوقف حتى الآن عن التدرب على الآلات الرياضية واستخدام مساحيق التجميل الخفيفة.
وكان مكتوبًا أيضًا ما يلي:
“السيرك هو الموسيقى التي تنسجم وتتناغم مع جسد الإنسان. ولذا فهو الفن الأعظم على الإطلاق.”
“لماذا لا يصبح الطهي من أنواع الفنون في حين تكون العمارة والأزياء فنونًا؟ لماذا لا تكون متعة التذوق متعة فنية؟ إنني محتار في معرفة السبب.”
فقلت له:
-
إن سؤالك هذا نتيجة جهلك بعلم الجمال.
فقال بدون أي مبالاة:
-
علم الجمال لا فائدة منه.
“بالنسبة للجسم البشري جمال الذكر أدنى من جمال الأنثى. وأغلب ما يُسمى بالجمال الذكري هو تقليد للجمال الأنثوي. وما يُسمى الجمال المحايد الذي يظهر في النحت اليوناني هو في الواقع رجل ذو جمال أنثوي.”
“إن الفنون هي اكتشاف للشهوة الجسدية. والمتعة الفنية نوع من أنواع المتع البيولوجية أو المتع الحسيّة. ولذا هي لا تكون متع روحية، ولكنها تكون متع حسيّة بالكامل. هذا بالطبع الرسم والنحت والموسيقى وحتى العمارة لا تخرج عن هذا الإطار.”
“اعتبر اليونانيون ضخامة الجسم عنصرًا من عناصر الجمال البدني. ويجب أن يكون الفن العظيم كله ضخمًا كمًّا وكيفًا.”
وغير هذا ظل يكتب في مفكرته العديد من مثل هذه الأقوال المأثورة التي تكفي جدًا للارتياب في نظرته المرضية للفنون.
(١٠)
ولم يبدُ على أوكامورا أي شعور بالحسد أو الغيرة تجاه بداية صعود اسمي وازدهاره في عالم الأدب مثل شروق الشمس الباهر. ولكنه من المؤكد أنه لم يفرح لي ولو قليلًا لأنه يؤمن من خلال وجهة نظره الذاتية عن الفنون أن محاولتي لبذل الجهد لا معنى لها مطلقًا. أمّا أنا فكنتُ من جانب أحتقره ومن جانب آخر أخاف من وجوده. عندما أرى وجهه أشعر أن عملي الحالي مذبذب وغير مستقر وكأنني ضرير. وكنتُ أقول في سرّي: “ربما يُنهي حياته كلها دون أن يُنجز شيئًا، ولكن لا شك أنه عبقري.”
أثناء استمرار عملي المتواصل بلا انقطاع، استمر أوكامورا في اللهو المتواصل بلا انقطاع أيضًا. وفي غفلة من الزمن تخلى عن إعلانه “أنا أحترم العلم”، وازدادت رفاهيته وانغماسه في الملذات ولم يعد يحضر دورس الجامعة إلا نادرًا. وزاد جمال وعظمة مظهره وجسده وملابسه أكثر، وبدا أنه يطلق شعاعًا باهيًا يجعل من الصعب الاقتراب منه. وحدث كثيرًا أنني أحاول الحديث إليه فيسحر لبي جماله الرائع دون وعي مني فأسكت. وبكت نساء كثيرات من أجله، بل وحاولن التخلص من حياتهن. وبدا أثناء ذلك أنه لم يترك شاردة ولا واردة من نساء جميع الطبقات تقريباً. بالطبع كان يذهب إلى المطاعم والفنادق في لقاءات غرامية، ولكنه استغل كذلك مركز عائلته الاجتماعي فكان يتردد على الحفلات الليلية في مختلف الأماكن.
– آه، أريد الذهاب إلى الغرب! أريد الذهاب إلى الغرب! إن أتعس ما حدث لي هو عدم ولادتي رجلًا غربيًّا يملك جسدًا عظيمًا.
في تلك الفترة كانت حمى عبادة الغرب في ذروتها القصوى، وكان يكرر دائمًا قوله: “إنني أكره كل ما هو ياباني”. ويبدو أن ثمة ظروف جعلت عمه لا يسمح له مطلقًا بالذهاب إلى الغرب.
ومع استغراقه كل ليلة وكل يوم في الملذات إلا أن قوته الجسدية القوية لم تضعف أو تتراجع. وفي الأصل لم يكن يحب شرب الخمر أو تدخين السجائر.
– شرب الخمر وتدخين السجائر يخدر الحواس فلا يستطيع المرء تذوق المتعة تذوقًا كافيًا. إذا لم يحافظ الإنسان على صحة كاملة فهو غير مؤهل لكي يشعر بإثارة قوية. إن الخمر مقابل أن يجعل الإنسان يسكر، يخلق مزاجًا في منتهى الكآبة بعد الإفاقة من السكر. وأنا أكره الكآبة كرهًا شديدًا. أريد دائمًا أن أكون بمزاج يقظ ومشرق.
وربما بسبب ذلك كان وجهه في المعتاد متألقًا بصحة جيدة، وله عيون مبتهجة ومنعشة.
وأثناء ذلك رسب أوكامورا مرتين في اختبارات نهاية العام. وحتى بعد أن بتُّ أنا في السنة الجامعية الثانية، كان ما زال يجب عليه البقاء متسكعًا بلا هدف في المدرسة العليا. ولم يكن رسوبه نتيجة لفشله في الاختبارات بل بسبب تغيبه عن الدروس تمامًا في الأيام العادية. وكان يختفي من وقت لآخر لمدة أسبوعين أو شهر ليس من المدرسة فقط بل لدرجة عدم وجوده في بيته وعدم معرفة زملاؤه جميعًا أين ذهب. وهكذا منذ خريف العام الذي أصبحتُ فيه في السنة الثالثة من الجامعة لم يعد يريني وجهه مطلقًا. أسمع شائعات عنه: “لقد ترك الدراسة”، أو “بل فُصل من المدرسة”.
ولا بد لي من التنبيه إلى أن شهرتي في عالم الأدب خمدت تدريجيًّا بأسرع ما يكون في ذلك الوقت، وكل مرة أكتب شيئًا تنهال عليَّ الانتقادات والشتائم من كل حدب وصوب. ولكنني شئت أم أبيت كنتُ مضطرًا إلى كسب المال من خلال الكتابة الأدبية لأن ميراث أبي الذي قللته مصاريف دراستي كثيرًا رغم أنه المصدر الوحيد لمعيشة الأسرة، بدأ يشتكي من النضوب. وعند وصولي إلى هذا الحد بدأت أفكاري التي كنتُ على يقين تام من استحالة جفافها بسهولة، تصل إلى نهايتها بأسرع ما يكون. هل سأضطر طوال حياتي إلى الاستمرار في كتابة “حكايات” غبية من أجل كسب العيش وأنا أعاني هذه المعاناة؟ وعندما طرأت على ذهني هذه الفكرة، اجتاحتني مشاعر وحدة قاسية وأنا أفكر أنه ما من أحد يعيش حياته بلا فن ولا معنى مثل الفنان.
وبذكر مشاعر الوحدة تذكرت أوكامورا. ففي أحد الأيام وبسبب عدم لقائه لفترة طويلة ذهبتُ إلى بيته لزيارته. لحسن الحظ وجدته في بيته فقال لي وهو يتأمل منظري وأنا جالس على مقعد غرفة الضيوف:
-
– لقد نحفتَ كثيرًا في تلك الفترة التي لم نتقابل فيها.