
Amna Elhasssan, Grandmother, 2019. Source: artsy.net
مرايا الجدات
رائحةٌ بالأسودِ والأبيضِ
رائحةُ نظرٍ قليلٍ
وضوءٍ ضعيفٍ
يمرُّ من ثقوب الأبوابِ والنوافذ،
ينظرْنَ إليه ناعساتٍ في الظلام.
.
صوتٌ لرؤيةٍ مغبّشة،
صوتٌ لرؤىً وهلوساتٍ
“بعد النشوقِ، بعد رأسِ القدْو“*
رائحةٌ محبوسةٌ
في غرفةٍ مقفلةٍ لسنين،
رائحةُ حقائبَ مدفونةٍ بأشيائها،
بالأمشاطِ الخشبيةِ
والمكْحلةِ ودهنِ العود
المقطّرِ من أوجاع مذابحِ
الغابات الكمبوديّة،
ومن حليبِ الليلِ
الخائفِ في الجذور.
.
للجدّاتِ
رائحةُ ذكرياتٍ
حزينةٍ وسعيدةٍ
رائحةُ ليلةِ العرسِ
والطفلِ الأول.
رائحةُ القدور المُحترقةِ
والجسدِ المطبوعِ بفعلِ اللذةِ
في رمادِ الجدارِ
رائحةُ ألعاب الصّبا
والغمّيضةِ
والحجلةِ والسفن الورقيّةِ
في “الثِبر“*
رائحةُ الدموع على “السِيف“ *
لتوديع الأزواج والأبناءِ والأحفاد،
بعضُهم عاد باللؤلؤ والذهب،
بعضُهم لم يعدْ
بعضُهم أجَنَّهُ البحرُ
وبعضُهم أكلَ منه ما أكل.
.
الجداتُ السعيداتُ
رائحتُهنَّ الغريبةُ المقدسةُ،
رائحةُ زمنٍ وأفكارٍ وأشواق
رائحةُ معابدَ وقرابينَ وبخورٍ،
كالمطر على ترابِ المقابر
والندَى على الأشجار
والحميرِ المحنّاة المغسولةِ فجراً
يتناثرُ منها الماء،
تُهرولُ مضروبةً
ناحيةَ المزارع والبحيراتِ
والطين الذي يصفعُ الظهرَ ويَعْلقُ فيه حتى المساء.
رائحةُ “الدّيرم“ * تُسمّرُ الشفاه
ورائحةُ حنّاءٍ تنبعثُ من أرواحهنّ وكافورٍ
من أعينهن، والأيدي الخشنةِ أيديهنّ،
أيدي الساحرات
تتحركُ وتغزلُ الحكايات،
فيروضْنَ الما وراء ويجعلْنَه واقعاً.
.
تسقطُ الجداتُ من أعينِنا لو رأينا الأجدادَ
يمشّطونَ شعورهنّ،
أو رأيناهنّ يتراكضْنَ خَجلانات
من أيدي الأجداد المناديةِ ونظراتِهم اللعوبةِ،
يغويهنّ الأجدادُ برائحةِ السجائر والحطبِ والعرق
اليابس في الغروب.
.
بأصواتِ المعاضد نتذكرُهنّ
والتماعِ الشمس على نحورهنّ وشعورهنّ البيضاء،
وبالضحكاتِ العاليةِ
والأسنان الناقصةِ المنخورة المهتزّة
كالأطفال والعشبِ والماء المتباعد.
بالأعمار المنخورةِ مثل كلماتهنَّ وأنينهنَّ،
و (بالمشموم)* والوردِ والريحان والزعفران.
.
أتذكّرُهنَّ رائحاتٍ
وغاديات
السلالُ فوق الرؤوس
والأطفالُ على الظهور
والمواعينُ والأسمالُ
في الأيدي
يغسلْنَها في الماء.
.
أتذكّرُهنّ
يحملْنَ الصباحاتِ
في الجِرار
المتمايلةِ
على رؤوسهنَّ
النُّعَّسِ المحزومةِ بقوةٍ
بخيوط الخيشِ
مداوياتٍ بذلك
صداعَهنّ المُزْمن.
.
أتذكّرهنَّ
يدْهِنَّ أرجلَ الأجدادِ
وجباهَهم
المحمومةَ
حتى يناموا في حجورهِنّ
كالأطفال المرضى.
.
يسحرْنَنا،
يسحرْنَنا كلما رأيناهنّ نائماتٍ
يهدْهدُهنَّ الهواءُ
وقد حللْنَ الضفائرَ في الضوء،
وفوقهنَّ الهالاتُ البيضاء،
ونائماتٍ كالأجنةِ
يفركنَ جراحَنا بالملح والليمون لتندملَ سريعاً
كلما جرحتْنا الشقاوةُ.
تهزّنا الغبنةُ ونتذكرهنَّ ونشتاق،
نشتاقُ إلى أحضانهنّ العميقةِ
كم خبّأتنا عن الأيدي المطارِدةِ
والعصيّ الضاربة.
.
لا أحد،
لا أحد رآهنَّ في الوحدة يبْكينَ الأجدادَ
لا أحد استمعَ إلى دموعهنَّ الصامتةِ كلَّ ليلة،
لا أحد رأى الخوفَ والوحدةَ في عيونِهنَّ
المرعوبةِ حزناً مفترِساً كلَّ سعادةٍ
مُدّعاة.
.
المرايا شؤمٌ
المرايا لعنتُهنَّ الأبديةُ.
يتأملنَ ما تهدّلَ بفعلِ الزمن،
أو لعلّهنَّ يلمسنَ الزمنَ ذاته،
يلمسْنَهُ بأصابعَ مرتجفةٍ ويغنّينَ له
فيبكي في بيوتِ الطين
ويقطرُ من عروق التبنِ الخارجةِ من الجدران،
يُهدْهدْنَهُ مثلَ أولِ تهويدةٍ
وأول تنهيدة.
.
يشتقْنَ إلى الآهة الأولى
إلى تلك النظرةِ الخاطفةِ
إلى القسوةِ
وإلى ذاك الألمِ والصرخةِ المكتومة،
تكاد تنفجرُ لولا اليدُ المعضوضة.
إلى تلك الكلمةِ المحبوسة
خلفَ الشفاه المُتلمِّظة،
تلك القُبلةِ المرسلةِ في الخفاء والدمعةِ
العالقةِ في “البوشيَّةِ“* التي تتأوّهُ حنيناً.
والحرارة في العباءة،
الحرارة التي تحوّلُ ثقلَ العباءة إلى جسدٍ آخر،
جسدٍ حنونٍ، وأيدٍ حنونة، وحضنٍ دافئ.
.
كلّ ليلةٍ يستذكرْنَ الحبَّ من طرفٍ واحد،
يستذكرْنَ الحبَّ المختبئَ في قلوبهنّ
ويرتعشْنَ.
بأصابعَ حزينةٍ، أمام المرآةِ
يفركْنَ الأثداءَ ويُقبّلْنَ الأيدي
ويفردْنَ الشَّعرَ،
يخلعْنَ الأُبّهةَ والقداسةَ في وحدتهنَّ،
لينظرنَ إلى الجسدِ المشتعلِ
أمامَ المرآةِ ويبْكينَ.
.
“ما زلتُ طفلةً
جميلةً
ووحيدةً،
ما زلتُ جميلةً
وحزينة.“
.
يستذكرْنَ كلَّ شيءٍ
كلَّ ليلةٍ ويستغفرْنَ،
يحركْنَ المسبحةَ طوالَ الليل،
يحركْنَ ليلَ العمرِ بالمسبحةِ الطويلة
مثلَ العمرِ الطويل
ويستغفرْنَ معاصيَ العالم،
معاصيَ البشرِ والجنِّ والنباتِ
والماء والترابِ والنار،
النارِ التي تصطلي بالنار
النارِ التي تَصْلَى وتُصلّي
النار في الرأسِ والقلبِ
والعيون الكليلة.
يطلبْنَ غفراناً لجميع الخَطَأةِ
وينسينَ أنفسهن،
ثمّ يطلبْنَ غفراناً
عن كلِّ الذنوبِ التي فكّرْنَ فيها
ولم يرْتكِبْنَها!
الهوامش:
* القدو: النارجيلة-(تشبه الشيشة).
*الثِبر: “ثبر الماء“ قناة صرف زراعي تُحفر في الرمل بشكل طويل ومتعرج، تستخدم لري النخيل في المزارع.
*السِّيف: ساحل البحر.
*الدَّيرم: قطعة من لحاء شجر الجوز تستخدمها النساء لترطيب الشفاه وجعلها تميل إلى اللون الأحمر أو البني الفاتح.
*البوشيّة: قماش أسود خفيف تغطي به المرأة وجهها.
*المشموم: عشبة عطرية تشبه الريحان.
Like this:
Like Loading...
тнє ѕυℓтαη’ѕ ѕєαℓ. Cairo's coolest cosmopolitan hotel.