أحمد الفخراني: جنة عدن… قريبا

Jaco van Schalkwyk, “Welcome to Paradise”, 2021. Source: artsy.net

برز إعلان في لوحة عملاقة تتلوى أضواؤه في غنج:
خايف من النار؟ جنة عدن… قريبا!
أدركت باستسلام أني ميت. وكنت خائفا من النار، تحديدا بسبب ذلك الإعلان المريب. لم يبد أن هناك طرقًا أخرى يمكن أن أسلكها، لهذا كان عليّْ أن أتقدم – مضطرا – إلى الجنة.
أهكذا يكون الموت إذن؟ سيرًا بلا إرادة في مسار بلا خيارات. قلت: كحياتي. الشيء الرائع في الموت، أنك تكتسب البصيرة، لكنك لن تعرف ما الذي تفعله بها.
على جانبي الطريق شموس خفيفة اللهب معلقة في أعمدة إنارة، حجارة، خلاء مرصوف بالأسفلت، كثبان من الرمال تنتظر الأسمنت والألمونيوم، أعمدة كهرباء ومصارف، ظلمة بيضاء، بيوت قليلة متناثرة بلا سكان لها عزلة الكوخ والقصر دون هيبتهما وبأبواب موصدة لا يمكن ولوجها، شاحنات عمياء بلا سائقين تمر من حين لآخر، براميل ومزيد من البراميل. يشبه الطريق إلى بيتي. أهذا حقا كل ما نراه خلف حجاب الموت؟ فقط ما عشته في الدنيا مكثفا وقاتما كأبخرة سوداء زنخة، مع لمسة شيطانية بعض الشيء لا تكاد تبين.
لم أشعر بالجوع أو العطش، بل رغبة هائلة في التدخين. سجائري نفدت وروحي تتلوى خرمانة. يقولون إن الإقلاع عن التدخين عملية تتعلق بالإرادة، ماذا يعرف هؤلاء الحمقى، ها هو صدري يتوقف عن التنفس وقلبي عن النبض، ومازلت على استعداد للموت من أجل سيجارة، لولا أننا لا نوهب سوى موت واحد. لقد استهلكت فرصي.
فكرت أن ما ينقص الطريق إلى الفردوس هو كشك سجائر، أو استراحات، لا بل مولات زجاجية ضخمة، يباع فيها كل شيء من السجائر إلى النصيحة، ما أحوج الموتى في مكان كهذا إلى المعرفة والإرشاد، حيث لا شيء سوى صمت مطبق ووحدة قاصمة. كل المنتجات ستكون موقعة من نجومك المفضلين من الملائكة والقديسين وشياطينك السرية، مع جلسات تدليك من حوريات جميلات. ما العملة هنا؟ حسنات! أثرى الأثرياء سأكون، أسكن قصورا في أعلى عليين. ها أنا يا رب عبدك الصالح، وأملك أفكارا، لمسات بسيطة قد تجعل من هذا المكان – إحم – كالجنة. ما رأيك أن نغير صيغة الإعلان فيصير: شورت كات إلى الفردوس.. مع خصومات هائلة. جذاب أكثر.. أليس كذلك؟
واصلت تسلية نفسي بأفكار كتلك دون أن أفقد التمييز إنها مجرد خيالات ميت مازال يولي أهمية كبرى للهروب من الضجر. لم أكن قد اعتدت بعد وضعي الجديد وسقوط القوانين التي دأبت على اتباعها في الدنيا، ولم يتكيف جسدي (أيمكن أن أسميه جسدا؟) مع الأبدية، حيث لا أهمية للوقت.
سرت بلا هدى، حتى انقطع الطريق فجأة لتبرز صحراء. ربما ترجلت فيها أربعين يوما أو أربعين سنة فقد بدت لي بلا نهاية. أرهقت بما يكفي لأدرك حقيقتي: قلبي مثقل بالخطايا ولا أمل لأمثالي في الفردوس، وخفت حقا من النار.
اجتررت ما خبرته عن عزمي في الدنيا كالجمال، حيث لم أسمح للشك أن يذهلني عن الإيمان بالحركة الدائمة، لا تمنحك المدينة رفاهية التأمل، أول من يتوقف يُدهس. أول من يتوقف أمه شرموطة. لكن الشك صار كأشواك مغروسة في قلبي وكأحجار ثقيلة تنبت من سلسلة ظهري. بطريقة غريبة طهرني ذلك العذاب وصفت معه روحي. أهكذا يصبح المرء قديسا إذن؟ لقد فاتتني أشياء كثيرة في الدنيا.
بإيمان صاف كالثلج في قلب صحراء قاسية، واصلت السير حتى ظهرت ذبابة، تبعتني بأزيزها، وفي إلحاح شيطاني ظلت تصدم وجهي في كل اتجاه، تتصيد عينيي وأنفي وأذنيي، فعلت كل ما بوسعي كي أقبض عليها بيدي لأعتصرها ولم أنجح.
حسنا.. أحب الله، وأكره الذباب. لطالما تضرعت إليه أن يهبني كرامة واحدة، ألا تمسني تلك الحشرة الحقيرة التي لا أعلم فائدة لها سوى أن توسوس للمرء بالشكوك، لا عجب أنها أحد رسل الشيطان، بل وما أزيزها إلا صدى غنائه الخسيس.
في مرات قليلة نادرة، كان يخيل لي أن الله استجاب لتضرعاتي، فأرى الذباب يخرج طوعا من منزلي، لكنه سرعان ما يعود ليتوالد بأعداد أكبر. أهشه بضراوة، أنظف البيت كمن يطرد أشباحا مختبئة في كل ركن وتطارده هواجس كذباب يئز داخل رأسه ويدفعه إلى الجنون، لكن الذباب لم يكن ليختفي إلا ليعود، ثم يصير الذباب محك إيماني كله، ما أن تمسني ذبابة حتى أرتعد باكيا من الجرح السري الذي لا يكف عن النزيف. الشك الذي طالما تجاهلته، كي لا أتوقف عن الإيمان بالطريق.
حاولت أن أصرف عن نفسي الانزعاج بتخيل شكل الجنة، فكرت في سجائر لا تنفد، الطعام، النساء، أفيون غير مخلوط بالمخدرات الرخيصة وحرقة الذنب، لذائذ بلا عواقب. لكن لما دخلت الذبابة أنفي فتهيج، لم أستطع التفكير إلا أن الجنة هي مكان بلا ذباب.
بزغ تل من تراب كثيف، مرقت نحوه، كانت تلك جنتي، كدت أن أعترض بسباب فاحش، لولا أن أتت الرياح وكنست التراب عن التل لتكشف ما تحته رويدا رويدا، كأنه امرأة فاتنة تتعرى على مهل، انتظرت وتركت نفسي للنشوة البطيئة لرفع الحجب.
أول ما ظهر كان بابا خشبيا متهالكا نصف مفتوح، فلمحت عيني أحجارا ثمينة فرحت بها، عوضتني عن مشقة الطريق. ولجت الباب والنشوة تزلزلني، تمتمت: “ربنا.. ما خلقت هذا باطلا سبحانك”
كل شيء كان معدا في انتظاري، لاح بستان يتوسطه قصر من زمرد، اصطحبتني إليه حورية جميلة.
كانت جنتي واحة إن أردت، وجزيرة إن أردت، يتناثر بها النخيل والأعناب ومحاطة من جهاتها الأربع بالبحر. هادئة بلا ريح عاصفة وتمسها الأمواج بلطف الحبيب المعاتب. لا تطلُ على جزر أخرى، فقط الماء والأفق المفتوح. مساحتها كبيرة بما يكفي للانطلاق على فرس أو عدوا كأن لا نهاية لأرضها.
من شرفة في قصري الصغير، لم أر شيئا على امتداد البصر سوى الصفاء والجمال النادر والهمس، الموسيقى والنخيل والنساء، لا لغو ولا ضجيج. اشتهيت خمرا وعسلا فانفجرت أنهار منهما، لم يكف الأفيون ولا أبخرة الشاي عن الدوران، يطوف بها ولدان مخلدون. وكان هناك مخزن لا ينضب إلا ليمتلئ بكل أنواع السجائر، الرخيص والرديء والجيد والتبغ الفاخر. سائبا، ملفوفا، معلبا.
كنت إذا اشتقت إلى الصحبة زارني ملوكا وسامروني، كانت تكفي إشارة من يدي ليختفوا، بل أن نفسي ذات مرة تاقت إلى الإحسان فجاءني عجزة وتافهون وعميان وبُرصٌ، كنت أشاطرهم فردوسي ليلة كل سبع ليال، نقضيها جميعا كملوك ولا أحد يملك، لا أحد يملك لكن كنا ملوكا.
وكان بينهم عرافة عجوز عمياء، سألتها أن تتنبأ لي على سبيل التسلية، فأخبرتني بجلافة ودون اعتبار لكرمي أني سأضيع الجنة، سخرت من نبوءتها فكففت من يومها عن مجالسة الحاقدين والأسافل.
سكرت باللذات الطيبة، لكن أجملها كان شرابا حلوا، لم أعرف اسمه فسميته الشراب الحلو، يبزغ من العدم بجوار فراشي كل صباح في فنجان صغير.
كان للشراب أثر غريب، يُجلي الروح بطريقة أقوى من أي شراب آخر خبرته في الدنيا أو الجنة، شعرت معه أن المسافة النهائية لرؤية وجه الله، أعظم اللذات، والتي مازالت بعيدة تقترب رويدا رويدا مع كل دفقة.
كان الشراب الحلو يغرس بذرة اللهب في جوفي، نار الشوق إلى الجائزة الكبرى، أعلى عليين. فقلت: ربما لو شربت أكثر من دفقة صغيرة في اليوم لقصرت المسافة. ظللت لا أشرب منه، بل أصبه في إبريق كبير، فلما امتلأ، قلت أشرب، لكني لم أستطع، قلت لو ملأت إبريقا آخر، حتى صار لدي عشرة أباريق من الشراب الحلو، فقلت آن الأوان، سأشربها كلها دفعة واحدة فأرى وجه الله. لكني لم أذق إلا قطرة واحدة وجبنت أن أفقد ما كدسته، قلت فلأجعلها أحد عشر إبريقا.
أصبح تأمل الأباريق وهي تزيد يوما بعد يوم أشهى من شربها، وغلبت كل متعة أخرى.
حتى جاء ذلك اليوم عندما رفت الذبابة الأولى داخل جنتي، حطت بلؤم على أحد الأباريق، غارقة في شرابه الحلو، ملوثة إياه إلى الأبد. دلقت الشراب بحسرة، ثم رأيت عشر ذبابات يصعدن من داخل الأباريق، يتضاعفن في ثوان إلى مئات، آلاف، ملايين، شكلن دوامة ابتلعتني داخلها، صرخت، هدأت، ثم صرخت، تضرعت إلى الله والشيطان الذي ينهش ذبابه لحمي ولا يزيده بكائي من الألم إلا شراهة. عذاب لا يمكن وصفه، وعندما توقف، عاد لحمي إلي سالما كأنه لم يمس، مع نسيان كامل للألم، حتى أني واصلت ممارسة كل متعة متاحة داخل الجنة بأريحية.
في صباح اليوم التالي، تصاعدت دوامة الأزيز الوحشي ذاتها، دون أن أميز مكمنها تلك المرة، لأدرك أن ذلك ما سأخوضه كل يوم. جحيم أبدي داخل أسوار من اللذات.