
David Hockney, “The Shop Window of a Tobacco Store” (Alexandria), 1966. Source: tate.org.uk
ليس كل عام يقتل رجل من عائلتي، يقتل مسموما، هذا هو الخال الكبير. عاما بعد عام وفي المناسبات، كانت عائلتي تطور من حكاياتهم عن الموتى، بترديد نكاتهم ومواقف الخزيان والبطولة. تضيف وتحذف وتكشف عن تفاصيل جديدة، نعوش متجددة للميت الواحد، كنقش كعك العيد، العفوي والفوضوي والمتأني، إلا ذكرهم عن خالي الكبير، كان أشبه بتجفيف الفواكه ليلا بعد نوم الجميع، أي خطأ أو تحريف لا يحتمل. لا قصة هنا تحكي لك، هرب خالك من البيت بحثاً عن الفتاة التي هجرته، وحين عثر عليها، قامت بتسميمه، حتى يكف عن مطاردته لها، وحدث ذلك في بلد غريب.
لذا انقضت فترة طفولتي بين حي القصعي وغيط العنب، على معدة تتلوى من أهون قطرة ماء، أسميها متلازمة الخال الكبير. تذكرته الآن وأنا على وشك ترك حي كليوباترا، حي الشباب، وقبل أن أهجر المكان على أن أحرقه بأكمله وسط الزيطة، ليس بأكمله تماما، تحديداً من قهوة الخان مرورا بألبان الوادي السعيد والسندويتشات الحلوة ومحل تريكو السعادة وكشك السجائر وبائعي الحشيش وحلواني مرزوق ومحل تصليح السجاد والسيبرات وصالات الجيم الضيقة حتى باب منزل جارنا خالد سعيد، والذي قامت ثورة يناير من أجله.
فيه أجمل من اسم محل بيتزا في ميدان محمد نجيب اسمه “بيتزاولني”، وأجمل من محل فول عند ستاد الجيش على طريق البرج اسمه “فول stop”، ومن محل تصنيع مفاتيح في شارع خالد بن الوليد اسمه “مفتاح علاء الدين”، فيه أسماء لمحلات مجرد أنك تلمحها وأنت على الطريق الطويل تحس براحة، مثل محل اسمه “عالم المراتب”، ويوجد محل مغلق طوال الوقت، ويفتح في أوقات غامضة اسمه محل أحذية النجاح ، وها قد فتح.
أثناء تصليح حذائي سرحت في البورتريه لصاحب محل الأحذية، حسب قوله كانت لرسام تايلاندي، بتوقيع jango 97. قصة الصورة أن الابن أثناء سفره علم بوفاة والده، فطلب من رسام متجول يرسمها له بناء على صورة أبيض وأسود كانت دائماً في جيب قميصه، أما الألوان فكانت من تصور الرسام التايلاندي، وبالنسبة لي فيها ملامح آسيوية على الخفيف أو مبطنة، كأنها ذكرى مزدوجة، للأب والرسام التايلاندي، أو لأبوين لم يتقابلا إلا في الصورة .
في الفلكلور المسيحي يقف الشيطان عند مفترق الطرق، كذلك كنت أقف في البلكونة التي تطل على تقاطع شارع الدير وكنيسة الجيزويت مع شارع بورسعيد، شاردا في الأسطى الذي يرف السجادة أمام المحل. تشككت كثيراً في وجوده من عدمه، لا أحد يعرف متى يفتح صاج المحل وأي موعد يغلق، كان يبقى جالسا بالأيام على المقعد الحديدي ذي الثلاثة قوائم، لايسنده شيء، لا كوب شاي، ولا نظرة لجارة مارة يقلبها بعينيه، يمسك بطرف السجادة على حجره، ولا أعرف هل يرفها فعلاً أم يحل خيوطها.
إذا كنا مع الاحتمال الأخير، فقد انتابني هذا اليوم نوبة غضب، نوبة فقدان طرف الخيط، كثيراً ما حذرني والد شريكي في السكن من استمرار مضغ العظام، أثناء زيارته الأخيرة قال لي هيجي يوم ويصيبك الصرع، معه حق، لذا تحولت من مضغ العظام إلى طحنها ثم استنشاقها، مع أن الأوغاد هنا كانوا يفضلون رش البنج المخدر على ياقة القمصان، واستنشاقه أثناء تمشية في الشوارع الجانبية، وهو مزاج يعجبني لكني لا أفضله. كنت أحب كوباية الشاي مع حارس الأرض المهجورة في أول كليوباترا من ناحية البحر، ليس لشئ سوي متعة الانتظار أثناء بحثه في ميدالية المفاتيح عن مفتاح البوابة. لم تكن حلقة السلسلة من معدن، بل من قماش، في كل مرة يحرك أصابعه بحثا عنه بين المفاتيح، وحين يصل إلي المفتاح المختار، يمصه بلسانه وش وضهر. حارس كليوباترا لا يأمن على الحديد من الصدأ المحتمل، أو ربما هو يوقظه من سباته.
في تمشيتي من البحر للبيت مررت على شادر منصوب، فهمت أنه من أجل مزيد من الاحتفال ببطل المصارعة، نجم كليوباترا، استوقفني مالك البيت ووالد النجم لتحصيل الإيجار، كان تعيس رغم التذاكي، لماذا ابني بطل العالم لا يحظى ببعض من سيرتكم عن خالد سعيد.
كسرت كل أبواب البيت، كانت من زجاج معشق مسرطن، أعرف أن أشباح البيوت أبدية العطش، يكفي أن تضع زجاجة ستيلا أو كوكا كولا في التجويف الذي يستقر فيه لسان طبلة الباب، لكي تنزع غطاء الزجاجة عن العنق، كان ذلك كفيل لإيقاظهم، أيقاظ أشباح مبتذلة خفيفة، قطرة ماء أو شعير بارد على أفواههم تعيد لهم الحياة. أخيراً انتبهت إلي رن جرس الباب، وحين فتحت، وجدت أمامي واحد من الأبناء الذكور لصاحب العمارة، وددت أن أخبره أن لا داعي للقلق، الكسر والهدد كان من أجل بناء قصيدة. كنت أعرف أن الشقة المؤجرة هي منزل زواجه المرتقب، تشممني عن بعد وهز سلسلة المفاتيح في يده، ككلب يتفحص عظمة، ثم أشار إلى أن أنتظره، علي الأرجح سيعود ومعه أبيه، أبيه هو صاحب العمارة، وربما يتصل بأخيه بطل العالم في المصارعة ليأتي من الصين. أثناء انتظار المعركة، فكرت أن أردد القصيدة.
طالعة من جوفي البهايم ترعي
تاكل زهر قلبي وأنا نص نايم
سامع خرفشة الحنك
سامع وساكت وهايم