ملك عفونة: تمارين قسرية

Sylvie Blum, “The Pigeon”, 2016. Source: echofinearts.com

الثّانية فجرًا
الوقتُ مثل حمامةٍ تحلّقُ برتابةٍ فوق الأطلسيّ
ما همَّ في أيّ ناحيةٍ تفرد جناحيها السّميكين
المهمُّ أن تطير، وتواصل الطيران، لكي لا تغرق.
*
يفتحُ القلبُ شبّاكه الصّغير
فتعبرهُ صورٌ مشوّهةٌ لمساحات خضراء مغسولةٍ بالمطر
مطرٍ قديمٍ يُفيحُ رائحةَ التراب، ويعبّقُ أنفَ القلب، فيسعُلُ ويعيا، ويمدّ يده فلا يقوى على
غلق دفّةِ واحدة.
والقلبُ حينَ يفتحُ شبّاكهُ يصبحُ ثقبًا
يتّسعُ في طرف الجسد القصيّ
رويدًا رويدًا
مستدعيًا أشباح الكون أن تترنّح فوق أسرّته وأشجاره وقبوره، حيث لا خوفَ يقتله، ولا
خوفَ يحييه، فيكون ماءً تتكسّر أمواجهُ دون ألمٍ تحتَ حذاءِ سيّدةٍ في الخمسينَ من
عمرها، وتتكوّنُ ثانيةً فوق الرّصيف الضّيّق، ويكونُ روحًا خفيفًة، تسكنُ حجارة الوادي، التي
تتنفّسُ هناك بعمق القيعان الراكدة.
*
هدوءٌ خفيف.
الثاّلثة فجرًا.
أصواتُ عوائلَ تنتظرُ الأذانَ الأوّل، لتُسكِتَ جوعها المؤجّل وتنامْ.
الوقتُ غابةٌ تلتهمها النّار
يصيح فيها والدي برعب: يا ملاكي الهارب… أعيدي كفّك الصغيرة المحترقة إلى يديّ
أسمع طقطقةَ النّار، غصنٌ آخرُ يسقط قرب وجهي، ولا أجيب.
أكمل السير نحو ظهيرةٍ أخرى
أصحو بين سبعة أطفالٍ يملؤون غرفتي ويتهامسون:
معلّمتنا تنام بين الأوراق الملوّنة،
يلبسون ثيابي وأحذيتي
يخربشون فوق أوراقي ويلصقون قصاصاتهم فوق الجدران ضاحكين
حين نكبرُ سنصبح معلّمةً
تنام حتّى الرّابعة.
*
أفركُ عينيَّ وأنظر إلى السّاعة مجدّدًا
إنّها الثّانية والنّصفُ فجرًا.
يتعبُ الوقت قليلًا ثمَّ يستريح فوق وسادتي،
أسمع شخيرهُ بين الصّور الشتيتةَ التي تعبر حلمي
وأرجوه أن يهذي معي.
*
ما يزالُ طعم السّيجارة الأخيرةِ عالقًا في جوفي
مثلَ جثةٍ تفحّمت على لوحٍ خشبيٍّ يعومُ فوق البحر
صديقي يغنّي لطفله الصّغير أغنيةً عن الرّيح التي أعادت حبيبًا إلى حبيبته من خلف البحار
والمحيطات،
وعن شمس توقظ الحقول والنحلات من سباتها
ويوصيه أن يكره النّاس قليلًا قبل أن يموت.
*
مشارف الثّالثة فجرًا.
والوقت يقطر كالحبر فوق جبيني وأثدائي وركبتيّ المثنيّتين تحت الغطاء،
أخي الذي كان صغيرًا وأختي الّتي تشبهني قليلًا
يركبان حافلةً خشبيّة بلا عجلات
نوافذها مدوّرةً
كنت أقرفص داخلها في الرّوضة
أمسكُ مقوَدَها الخفيَّ وأهربُ فيها وحدي من ذلك المكان الذي يدبّ فيه الرّملُ فوق
جباهنا كالنّمل المتوحّش.
تهتزًّ الحافلةُ وتسقطهما في حفرةٍ ما
يهويان معًا نحو كومة من الأفاعي الرقطاء
وأهوي خلفهما.
أسبقهما سقوطًا، وأمدُّ غطاءً رماديًا كنّا نفترشهُ تحت المدفأة في الشّتاء لكي لا تتسخ
سجادتنا الوحيدة بالرماد
أمدّهُ في الهواء لألتقطهما قبل أن يصلا إلى القاع
أمدّهُ وتبتلعه الأفاعي.
*
الفجرُ بحرٌ لا وقت فيه إلّا حين يظهرُ رأسُ القرش من تحت السّفينة
واليومَ تضطربُ سفينتي وتهتاج
فأبحثُ عن القرش ولا أجدُ غير سربٍ من السّلمون
يضرب أذنابه الفضّيّةَ في المياه القريبة.
مكيّفُ الهواء في الشّقةِ العليا يقطرُ فوق نافذتي
كما تدقُّ ساعةُ صديقتي الزّرقاء الدائريّة عند كلّ ثانيةٍ من ثواني اللّيل.
صديقتي ذاتُ السّاعة الزرقاء نسيت دفتَرها مطرّز الحوافّ مفتوحًا فوق الطّاولة
فعرفتُ كلّ أسرارها دفعةً واحدةً،
كنت كمن أطفؤوا عينيه بجمرة من الجحيم،
وكان الوقت حينها متّقدًا بين أشواط الصّباح المتأخر عن وقتهِ.
*
صدغي الأيسرُ يُنبئني بنوبة الألم المعتادة
وصورتي الطّفلةُ في شاشة هاتف أمّي المحمول تعلّق مشنقتي بحبلٍ طويلٍ يتأرجحُ بين
أضلاعي وينقطعُ قبل النّفَسِ الأخير
فأسقطُ بين قطيعٍ من الذّئاب،
وأسمعُ لهاثي ولهاثها يتسابقان
في انتظار مشهد الموت القبيح القادم قبل أوانه.
*
ألصقُ ورقةً صغيرةً فوق زاوية الوقت على شاشة الحاسوب
فتصبحُ السّاعةُ لفظًا مفردًا يختبئُ بين زوايا فمي وسطور الدفتر
قبل أن اكتبَ نصًّا خفيفًا عن الفكاهة الزّرقاء
وقبل أن أقتبس جملةً من “حجر الورد”
مزّقتُ سبعَ عشرةَ صفحةً من دفترٍ قديم
وأحرقتها بشعلةٍ صغيرةٍ من الولّاعة
استمرَّ احتراقها نصفَ ساعةٍ داخل علبة الحليب المعدنيّة
فاحت منها رائحة كريهة جدًّا
لم تكن تشبه رائحة الورق المحترق في خيالي الشمّيّ
قلتُ أتخلّصُ من كلِّ شيءٍ، كلِ شيء
وأبدأ “بالزّنبقة الأخرى للرّوح”
سمعت نداء الهذيان الملتاع
وتدحرجتُ نحوه كما تفعل علبةُ حليب معدنيةٌ رُكلت على منحدر
وتناثر منها رماد سبعَ عشرةَ ورقة لذاكرة حدث واحد متكرّر.
*
الآن أصطادُ ما ترامى من جناح فَراشٍ ذهبيٍ حول جسدي
وكلّما لامستُ واحدة تمزّقت البقيّة.
“في الطُّرق الواضحةِ يُضيعُ المرءُ قلبهُ.”
قالت الذّكرى وهي تفرك جفونها من قيلولة الظهيرة الحامية
ثمّ غسلتْ وجهها وجلست إلى مائدة الطعام
تنظرُ إلى الفراشات وتحتسي قهوة الصباح الثقيلة الباردة التي نسيتُ أن أشربها منذ أيام.