
Tasneem Alsultan, Wedding Party, 2015. Source: artsy.net
كان المشهد ليروق لك لو رأيته. ساعة بالكاد مرت على عودتنا – لم يستقر الغبار على البلاط، ولم يُفرد جديد الأغطية والملاءات، ونقر الباب، وأعلنت الغرابة عن حضورها: “محسوبكم رمضان الحدق آسف لو طبّيت عليكم من غير ميعاد، ألا تتذكرونني؟” صرختْ في مظهره لكنّا لم نستطع تحديد من أين؛ أهي ربطة العنق فاقعة اللون أم الوردة الصناعية المشبوكة في سترة البذلة الضيقة؟ قال لم ألبس هذه العفريتة منذ زفافي. سألناه على المناسبة السعيدة التي كانت تنتظره بعد زيارتنا فاضطجعت الحيرة بين حاجبيه – ربما كان تدلّي رأسه إلى صدره حين يتكلم. ربما هي ابتسامته التي رقصت على السلم بين الصدق والخبث؛ تجادلنا بعد ذهابه، هل كانت الوردة الصناعية هناك في حفل الزفاف أم سحبها قبل مجيئه من مزهرية ثم بتر ساقها؟ “ألا تتذكرونني، اعتدتُ اللعب في طرقات هذا البيت؟ أمكم كانت كويّسة معي، قالت لي خليك في المدرسة، وكانت تقدم لي الينسون دائمًا”.
لم نتذكره. الينسون كان أول شئ حطّت عليه الأيادي في كيس المشروبات، قلنا لازم يكذب، لو وقعت أيادينا على شاي أخضر أو بلا أزرق لقال الشئ نفسه. “لا بد أنكم تتذكرونني”. كان مرتاحًا، يقرع الطاولة بقعر الكوب بعد كل رشفة، ويلمس الجدار بأنامله في الطريق للباب. “لو احتجتم أي خدمة أنا موجود”. لبس حذاءه وقال: “لا تفهموني خطأً، ما كان ينبغي أن تعودوا إلى المكان (أشار إلى ممسحة الأحذية) ابن الوسخة هذا”. ضحكنا، ثم لاحقًا، ونحن نحدد من تعيس الحظ الذي سينام في سرير الأب والأم، تذكرنا ما قاله دون ضحك.
كنّا نقابله في الدخول والخروج، راكنًا على سيارته السوزوكي، نقول “سلام عليكم يا حدق”، يضع يده على صدره: “وعليكم السلام يا بهوات، أي خدمة يا هوانم؟ طيب أي أوامر؟” الناس على المقهى، عند فرشات الخضار والفاكهة وفي السوبرماركت قالوا لنا حمد الله على السلامة الحدق؟ الحدق ماذا فعل؟ لم نقل كلمة عن المكان ابن الوسخة هذا، قلنا كبّ زجاجة زيت على شعره وحلف علينا أن يخلع حذاءه على الباب. ابتسموا وهزّوا رؤوسهم.
نقول “سلام عليكم يا حدق”، وهو يسلّك الفراغات إطارات سيارته بمفتاحها أو يشد آذان أولاده، ينتفض: “وعليكم السلام يا بهوات، والله أؤمروا، أوديكم أي مكان، أي حتة، طيب اتفضلوا اشربوا ينسون” الناس عند عتبات البيوت الواطئة، على النواصي حيث أكشاك القهوة والإندومي، وفي ورش تصليح الغسّالات والمراوح، قالوا لنا الحدق؟ حكينا كيف مشى على كعبيه بالجوارب البيضاء، وكيف حين جلس انحسر بنطال البذلة عن الثقوب في جواربه. نظروا لنا كما لو كنّا أطفالًا عبطا: “حمد الله على السلامة، الحدق؟”
لم يشاركونا الاهتمام بغرابته في الأول، اعتبروه عاديًا يفعل أفعالًا عادية. هكذا كان غريبًا حين فجأة استيقظوا إليه بعد صباح ذلك اليوم.
انفتحوا، ثرثروا وسردوا زيارته لنا فوق كل شئ. الزجاجة أمست برميل زيت، والثقوب في الجوارب صارت بطول البنطال. غريب الحدق صحيح – الناس في محلّات الملابس، وأمام المخابز، وفي مطاعم الفطائر الصغيرة، يسلّمون علينا ويحكون كيف كان يبول في صغره في القلل الفخارية ويضاجع الحيوانات، كيف ولع منزله بسبب لمبة جاز وكيف حاول تحضير الجن والعفاريت.
نمر من أمامه ولا نقول شيئًا، يمشي جوارنا “وعليكم السلام يا بهوات، أنتم غاضبون منّي أو حاجة؟ طيّب اتفضّلوا، اشربوا ينسون. طيب قهوة؟ زوجتى تصنع أجمل قهوة في البلد”. نفتش في وجهه عن وحش ذلك الصباح وعن الولد الذي حب راقصة وسرق لأجلها مصروف البيت وهرب ليومين؟ الناس يقولون: حمد الله على السلامة، لقد وضع أمه في دار مسنين وله ابن وُلِد دون فتحة شرج. نسألهم أي واحد فيهم؟ يقولون الكبير.
لا نعرفه، يشبهون بعضهم بعضًا، رنوا الجرس رنّة قصيرة وأحنوا رؤوسهم أمام الباب بعد يوم أو يومين. ما هذا يا أولاد؟ حمل أوسطهم صينية مغطّاة: “الحدق يقول لكم مساء الخير، اقبلوا الهدية، نتصالح”. كشفنا الغطاء. كعكة اسفنجية دون إضافات. مشرحة وناقصة. اقتربنا منهم، كان فتات الكعك على حواف أفواههم. من فيكم أكبر واحد يا أولاد؟ غاصت رؤوسهم في صدورهم أكثر، وضعوا الصينية على الأرض وجروا.
الصباح التالي: “أعجبتكم الكعكة يا بهوات؟” قلنا “جميلة لكن لم يكن لها لزوم”. ابتسم “لا سمح الله، زوجتي عملتها، أرادت أن ترسل بسبوسة قلت لها لا، لازم كعكة، تفضّلوا، تفضّلوا اشربوا ينسون والله؟ انتم… انتم زعلانون منّي؟” ضع نفسك مكاننا، ما الذي كنت ستفعله؟
تصحو الصبح من النوم على دوشة كما لو كانت صادرة من التليفزيون ثم تتذكر أنه لا يوجد عندك تليفزيون فتدرك أنها آتية من الخارج، تفتح النافذة، يعميك الضوء المشوِّك لحظات، تسمع فقط زعيق، ثم عندما تتضح بقية الموجودات ترى الرؤوس دمامل في النوافذ والأبواب، كلها تتجه صوب بقعة معينة، اعتلاها قدر من فضول وإثارة متفرجي الدرجة الثالثة، هكذا تميل نحو ما ينظرون فتجده، أجل، من غيره؟ أنت متعب ومصدّع، لم تنم جيدًا، تفرك عينيك وتكذّب ما تراه، تقول لنفسك لا يمكن، لا يمكن، ثم يفزعك صوت الصفعة وصريخ المرأة. يضرب زوجته وفي منتصف الشارع والأطفال حولهما يبكون. يا بنت الكلب. يا بنت الشرموطة. يقفز في الهواء كي يتمكن من ضربها. إنها أول مرة تراها، حافية القدمين، ارتدت جلباب بيتي باهت وانحسرت طرحتها عن مقدمة شعرها المحني. هي أطول منه وأعرض، ولو دفعته في صدره لكوّمته على الرصيف، لكنها لا تفعل ذلك، تظل تتلقى الصفعات واللكمات وتبكي. يا بنت الشرموطة. تصرخ في زوجها أن يتوقّف تارة، وتستغيث بالناس تارة، لكن لا زوجها يتوقف ولا الناس تتدخل، أولاده فقط يقتربون فيسحق وجوههم ويعود يركلها في فخذها وينغزها في بطنها. يا بنت الكلب. خداها أحمران وترتعش. أنت غاضب، غاضب جدًا، تلعن الرجل وتلعن الناس وتلعن نفسك ومن حولك، واليوم الذي قررت فيه العودة إلى المكان الوسخ هذا، هكذا تقرر أن تتدخل فتفتح النافذة أكثر فتصطدم درفتها بالحائط وتصدر صوتًا، يا بنت الـ.. يلتفت الرجل ناحيتك وتتوقف يده في الهواء “لا مؤاخذة” ينظر إلى الأرض، يلم الليلة من نفسه ويدخل البيت ثم يأتي ويقول لك انت زعلان مني؟
لا، لسنا زعلانين يا سيدي. كذبنا؛ لقد حملنا الكعكة من عند العتبة ورميناها في الزبالة. كان الناس يوقفوننا ويقولون أرأيتم ما فعله الحدق؟ آه كنّا هناك، شئ فظيع. يقولون شئ غريب ويضحكون: لقد ضربها لأنها لم تسمع كلامه، لأنها ضربت بتحذيراته عرض الحائط وخرجت من دون أن تقول له، آه والله، أولادهم أخبرونا، أعطينا الواحد منهم نصف جنيه فقالوا الحكاية، ضربها في الصالون فجرت إلى الشارع.
ماذا؟ طيب لماذا وقفت هكذا؟ لماذا لم تكمل جري أو تدخل البيت؟ ضحك الناس: هئ هئ هئ، لا نعرف. بيننا وبينكم،
رأيناهم، من النافذة نفسها، يمرون بالحدق ويغمزون بعضهم ويمطّون الحروف في السلام بميوعة والحدق لا يرد عليهم وحين يرد يتشاجر معهم، كان يحيّينا بيده وهو يعدل قميصه ويسوي شعره: سلام عليكم يا بهوات مساء الخير يا هوانم، كنّا نتظاهر أننا لم نره
-لن تصدّقوا ما عرفناه، قال الناس لن تصدقوا ما عرفناه. زوجته يومها اشترت خبزًا وهي عائدة، حملته في كيس أسود. سحب رجل أحد أولاد الحدق وأوقفه أمامنا: “قلّ لهم يا واد قل لهم ماذا فعل أبوك بعد الخناقة؟” كان اللعاب يسيل من الركن الأيمن لفم الولد، الولد نفسه الذي أمسك بالصينية، “انطق. طيب خذ، خذ قطعة الحلوى هذه، يلّا، قل لهم ماذا عمل أبوك؟” تنحنح الولد أأأأأ وقلد صوت الحدق: “قومي حضّري الفطار”. ضحك الناس فقال الرجل “هس، كمّل ما قال أبوك وهو يأكل”. الحدق قال، الحدق قال، قضم الولد من قطعة الحلوى، “الحدق قال الخبز بائت، قومي هاتي لنا من الخبز الذي أحضرتيه اليوم”. انفجروا: “غريب الحدق صحيح، هكذا أم لا؟”
لم نفهم ما كان يحدث، صاروا لا يتكلمون غير عنه. الحدق عمل هذا، الحدق سوّى ذلك. لا شئ آخر، لِم لا تضحكون؟
سألناهم وزوجته، ما رأيكم؟ هئ هئ هئ – الناس عند الحلّاق، وعند المكوجي، وعند النجار، وفي محل المنظفات، قالوا “بيننا وبينكم كان المفروض يدخل البيت لكن بصّوا، بصّوا الحدق مرة غز زبون بسكين بسبب الأجرة، آه والله”.
نمر من أمامه يقول “مساء الخير يا حضرات”، حدقنا في كفّيه، “أي خدمة؟” لم نرد. “طيّب قولوا ماذا حدث؟ طيب أنا غلطان”.
نكنس أمام البوابة يقول “مساء الخير يا هوانِم، لو احتجتم أي مساعدة زوجتي موجودة”، قلنا له ما هذا الكلام الفارغ؟
أنتم زعلا- أغلقنا الباب، جرى إلى النافذة، أغلقناها وجلسنا، كجلستنا هذه بالضبط، نرشف الشاي ونأكل البسكويت.
بعد فترة، أطلق أحدنا – مَن كان؟ أنتِ يا من تنامين في سرير أبي وأمي، أم أنت يا من قلت له حل عنّا بقى يا أخي؟ أيًا يكن، أطلق سؤالًا فحلقت فوق رؤوسنا جميعًا الإجابة. كانت صعبة وغير مستساغة. وضعنا السكر في الأكواب ونفضناها عن مناماتِنا إلى الشقوق في الجدران. زحف المساء عليها كالبرص، وانزوت الأصوات من الخارج قليلًا قليلًا. اعتقدنا أن الليلة انتهت، ففردنا اليوم وعلقناه على مسند الأريكة. تثاءبنا. الذي يعيش ياما يشوف والذي يعيش أكثر – وكما لو أن عفريتًا، كان يتلصص علينا من خلف البراويز القديمة والمزهريات، وعرف أننا لن نحتاج من العمر غير ثوانٍ لنشوف أكثر، ولهذا ضحك فارتعش الضوء في الصالون مع النقر على الباب.
قلنا مَن؟ وإحساس داخلنا يقول إنه هو، أجل، ومن غيره؟ محسوبكم الحدق. نقر مرة أخرى وأخرى: يا بهوات، يا هوانم، افتحوا الباب. لأجل خاطري افتحوا. طيب لأجل خاطر ربنا.
تملكنا الغضب، جرينا ندبدب على البلاط، انتزعنا مفصّلات الباب: ماذا تريد؟ لمحناه يعتدل في سرعة، لمع شعره على ضوء عمود الإنارة الأصفر، وزينت الوردة الصناعية بذلته الكاملة الضيقة، وبينما انتقلت أنظارنا من ابتسامته الراقصة إياها، تهدّل فك كل منّا في السقوط فأمسكناها بأيادينا كي لا تقع إلى الأرض. لقد كان يتأبط ذراع زوجته، اختفت يدها الأخرى في شعر أحد ابنائها الواقفين وأشرقت ابتسامتها عبر أطلال من الكدمات، حمراء وخجلى في فستان أبيض وطرحة بيضاء، وعلى الرغم من أن الآتي ربما من عبث وخداع الذاكرة، غير أننا، أقسم لك، سمعنا زغاريد ترفرف في البعيد، آه والله.
Like this:
Like Loading...
тнє ѕυℓтαη’ѕ ѕєαℓ. Cairo's coolest cosmopolitan hotel.