
David Reinfeld, “About Face #5”, 2018. Source: artsy.net
-١-
أمام البوتجاز، أقف مرتديا فانلة قطنية بيضاء يحتضنها بعناية بوكسر كحلي، وشراب أسود اللون يخنق قصبة ساقي. ذقني الحليقة تجعل وجهي ضخم وأبله، مما يليق بدوري الجديد كموظف تخرج منذ ثلاثة شهور فقط من الجامعة. رائحة الصابون تفوح مني وتثير داخلي قرفًا محتملًا، تناسيته مع رائحة البن المحوج التي تحتل فضاء المطبخ. سيجارة ميريت أصفر بين شفتي، وأصابع يدي تتأهب لكنكة القهوة حتى لا تفور وتفسد صباح يومي الأول في العمل. قطرات عرق في سباق مستمر على جبيني، بلا قواعد أو خط نهاية محدد: تمتزج قطرتان مع بعضهما وتشكلان قطرة كبيرة، تسقط في النهاية على الفانلة وتصنع بقعة شفافة ضخمة، سرعان ما تجف. قطرة صغيرة ينتهي مصيرها عند حواجبي الكثيفة. بعض القطرات تفضل النهايات الدرامية، فتسلك طريقها باتجاه عيني قبل أن أقضي عليها بمنديل.
سكبتُ القهوة في الفنجان، وضعتها على السفرة، اتجهت للحمام، غسلت وجهي بالماء وجففته معلنًا نهاية سباق قطرات العرق، وبداية سباق جديد: اللحاق بأتوبيس العمل بعد نصف ساعة.
-٢-
في طريقي للعمل، لأنهم يريدون مني الذهاب للعمل.
بعد الحصول على شهادة التخرج، أجروا اتصالاتهم الهاتفية في البيت وحددوا مصيري، وضعوني على بداية طريق السباق وأطلقوا صافرة البداية، وبما أنني قضيت سنوات الجامعة أمارس رياضتي الكسل والفشل (الممتعتين للغاية) على جميع المستويات، لم أمتلك سلطة على مستقبلي بعد التخرج، فقبلت وظيفتهم.
في طريقي للعمل، لأنهم يعملون.
غفوت لدقائق في الأتوبيس، واستيقظت على سباق قطرات العرق وهو يعلن بدايته على جبيني مرة أخرى. تعطل التكييف لأسباب غامضة، وازدحم الطريق بسبب أحد المشاريع اللانهائية لبناء الكباري في مدينة نصر. العمال غارقون في عملهم وعرقهم تمامًا، لكن ملامح وجوههم تتمني الفرار وترك كل شيء، تخيلتهم في لحظة واحدة سيقررون الجري عائدين لبيوتهم، وعندما يصلون، سيخلدون إلى نوم عميق، بعيدًا عن المشروع الذي سيظهر للجميع عند الانتهاء منه كأنه انبثق من الأرض فجأة بدون تدخلٍ منهم.
كل ما أريده هو الفرار من العمل، لكنني في الطريق إليه على كل حال.
الكل في حالة انضباط وأناقة مسرحية: قمصان مكوية، بناطيل من الصعب أن تعثر فيها على كسرة هربت من بطش حرارة المكواة أو فتلة خيط تمردت على النسيج القماشي المتماسك، ساعات حول المعاصم، خليط من العطور ومزيلات العرق تداعب أنفي. كنت على نفس مستوى الانضباط، كما طلبوا مني في البيت، لكن وجبة العشاء التي تناولتها أمس قبل النوم، دفعتني إلى إطلاق ضرطة في الخفاء، عكرت انضباط المشهد ودفعت الجميع لفتح الشبابيك. كأنهم انتظروا ضرطتي حتى تحررهم من وضع المومياوات، عادوا بشرًا مرة أخرى وبدأو في التواصل مع بعضهم البعض، حتى سألني أحدهم، توقعت أنه موظف جديد مثلي، نظرًا لطزاجة البلاهة على وجهه، عن منديل لإنهاء سباق العرق الذي بدأ على جبهته.
في طريقي للعمل، أحلم بالنوم، ولقاء العمال بعد فرارهم من المشروع، في عالم بلا عمل، حيث يمكنني إطلاق الضراط بحرية أكثر من ذلك.
-٣-
غفوت مرة أخرى، واستيقظت على الأتوبيس خاليًا تمامًا إلا من كرش ضخم يهتز أمامي قائلا: يا أستاذ، وصلنا، اصحى يا أستاذ.
تداركت بعدها أن الكرش بالطبع يتصل بجسد أكثر ضخامة، كان جسد السائق.
تحية لنبل السائق وكرشه على إيقاظي من النوم، صبحت عليه بسيجارة ميريت، من “الغالي”، كما قال بعد أن وضعها خلف أذنه وعاد إلى مقعد القيادة.
نزلت من الأتوبيس فوجدتني في صحراء مترامية، تنتشر في جوها برودة تكييف لا أعرف مصدرها.
حضور الشمس لا يمكن تمييزه عن الغياب. حرارة مرخية التأثير، جعلتني أتخيل الشمس الحقيقية وقد رحلت إلى مكان آخر، وما يوجد هنا ما هو إلا مجسم ثلاثي الأبعاد.
تحرك الأتوبيس أثناء سرحاني. ارتديت جاكت البدلة، أشعلت سيجارة وبدأت في التمشية بحثًا عن أحد الموظفين أو فرد أمن ليدلني على مقر الشركة. صوت الرياح يدوي كأنه موسيقى في خلفية المكان، اسمع صوت الريح فيقشعر جسدي وأنكمش استعدادًا له، لكن فجأة يختفي الصوت ثم يتكرر بعدها بدقائق بنفس الطريقة، ورمال الصحراء لا تترك أثرًا على حذائي، كأنني أتمشى على سيراميك مثلًا.
تداركت بعد دقائق أنني في مقر الشركة بالفعل، عندما رأيت المكاتب على بعد.
غرف زجاجية شفافة تنبثق من الرمال، تتوزع على مساحات متباعدة لكنها تتصل بشبكة طرق كهربائية، تعمل بالطريقة الآتية: يخرج الموظف من غرفة المكتب ويقف على بداية الطريق ثم يختار أحد الأرقام من شاشة مثبتة على حامل، تظهر له رسالة يوضح فيها غرضه من الذهاب لذلك المكتب تحديدًا، ثم تصله رسالة أخرى بعدها بالقبول أو الرفض، وفي حالة القبول، يبدأ الطريق بسحبه حتى يصل إلى مقصده.
وقفت عند بداية الطريق، لم أعرف رقم المكتب المفترض اختياره، لكن الشاشة تعرفت على وجهي فورًا وطلبت منى إنشاء حساب “موظف جديد” في البداية، ثم طلبت مني الصعود على الطريق حتى يقودني بمعرفته.
-٤-
وجدتني أتجه إلى غرفة يقف فيها عجوز ستيني يمسك بعصا جولف، ويرتدي شورت أبيض، تيشيرت بولو أسود، حذاء رياضي أبيض وشراب أسود يصل حتى السمانة، التي برزت في رشاقة خالية من الدهن على عكس جسده المترهل بفعل السن.
أرضية الغرفة يغطيها العشب الأخضر، حيث يقف العجوز في وضع تأهب بالعصا أمام شاشة ضخمة تغطي الحائط الزجاجي بأكمله، تعرض الشاشة ملعبًا للجولف، وتظهر أمامه كرة بيضاء مجسدة بتقنية ثلاثية الأبعاد، يضربها وينظر للشاشة متابعًا حركتها داخلها، وتتراوح انفعالاته بين الفرح والأسى المبالغ فيهما.
من بعيد ظننت أنه يضرب الهواء، لم تظهر الكرة بوضوح إلا عندما اقتربت من الغرفة.
طرقت الباب فلم ينظر من الطارق، ظل يتابع حركة الكرة في الشاشة وأشار لي بأصابعه أن أدخل.
بدأ الحديث بيننا.
هو يلعب وأنا أقف عند الباب.
لا ينظر إلى وجهي مع أنه أول لقاء بيننا.
أنظر إليه ويشعر بثقل نظرتي على جسده، لكنه يتجاهل النظر إلىَّ تمامًا.
-ازيك؟ كله كويس؟ مبسوط معانا في الشركة؟
-أكيد..
-أنا واثق إنك هتقوم بالدور بتاعك بأفضل شكل ممكن، عشان كده اختاراتك، أنت عارف قد ايه شركتنا دورها حساس ومؤثر في السوق؟ مش محتاج أقولك، أكيد أنت عارف
-طبعًا..
استمر في اللعب دون أن يوجه إلى كلمات أخرى، فعرفت أن اللقاء قد انتهى.
-٥-
خرجت فسحبني الطريق الكهربائي إلى غرفة أخرى، لا أعلم عنها شيئًا. تسارعت حركة الطريق قليلًا، لكنها حافظت على إيقاع مناسب للتعرف على المكان وتشكيل صورة ذهنية عنه.
استغربت وجود الحيوانات البرية في صحراء الشركة، لكن مع تدقيق النظر، اتضح أنها مجسمات ثلاثية الأبعاد هي الأخرى.
اقتربت من غرفة خالية إلا من كرسي يجلس عليه رجل ثلاثيني عار، يمارس الاستمناء بيأس. أيره مرتخى تمامًا، وكل ما يفعله هو دعكه بعنف محاولًا إيقاظه من نومه العميق، بلا أمل.
انتصب أخيرًا وقذف بسرعة في منديل، ثم فتحَ لي باب غرفته.
عندما دخلت، نظر بعيون مرتخية إلى وجهي وأشار في صمت أن أجلس على كرسيه، فشكرته كنوع من الاحترام لمكانته في الشركة التي لا أعرف عنها شيئًا.
ارتدى بدلته السوداء في بطء شديد وكسل مفجع أثناء تجوله في أنحاء الغرفة، وأخيرًا، قبل أن يربط الكرافتة، استند إلى الحائط بيده اليمنى، مرتكزًا برأسه على الزجاج، في مشهد مسرحي من شخصين بلا جمهور، حيث أنا وهو نلعب دورين لا نعلم عنهما شيئًا.
أخبرني بصوت مأساوي: نتقابل بكرة أفضل.. مش قادر النهاردة.
فرددت عليه فورًا: محتاج أي مساعدة؟
صمتَ لفترة، ثم قال: شكرًا..
تركته ليكمل دوره منفردًا، خرجت من الغرفة لاستكمال رحلتي على الطريق الكهربائي، على أمل الوصول إلى تصور واضح عن دوري الوظيفي أو حتى عن موقع مكتبي في تلك الشبكة.
-٦-
رن موبايلي، فوجدت مكالمة من أمي، لم أرد عليها بالطبع، لأنني مشغول في العمل مثلها.
دخلت الغرفة التالية.
مكدسة بالموظفين رغم ضيق مساحتها، بدا أنهم يتفاعلون مع بعضهم البعض، منخرطين في نقاشات مهمة، لكنني لم أفهم كلمة واحدة: الكلمات تضيع، تختفي فجأة، لا تصيب المعنى ولا تتشكل جملة مفهومة، فيض من الكلمات والإشارات والدلالات أشبه بالهذيان، فتملكني شعور بالحزن السطحي، لأنني لم أكتسب بعد لغة الموظفين المحترفين، لكن سرعان ما تناسيته.
مع الوقت سأتعلم. أخبرت نفسي وأنا أتجول في الغرفة واضعًا يدي في جيب بنطالي، ألتقط الكلمات، محاولًا تشكيل جملة واحدة متماسكة وسط سيولة لغوية مفرطة تتدفق في الغرفة، متظاهرًا بالاهتمام، بدون قدرة على المشاركة.
خرجت وقادني الطريق إلى غرفة أخرى جلست فيها وحيدًا أمام شاشة تعرض عليَّ تاريخ الشركة. نمت على نفسي وعندما استيقظت وجدتهم يعرضون لقاءً مسجلًا للعجوز لاعب البيسبول الذي اتضح أنه مؤسس الشركة، يتجول في غرفته الزجاجية ممسكًا بالعصا وتتحرك بجواره المذيعة ممسكة بالميكروفون، انتهى الفيلم بمشهد للعجوز وهو يسدد ضربة للكرة أمام الشاشة مع ابتسامة محسوبة، ونظرة تتجاهل الكاميرا لكنها تراوغها، فتجعله يبدو كأنه يتطلع للمستقبل المشرق القادم لا محالة.
-٧-
عرفت أن يومي الأول في العمل قد انتهى أخيرًا عندما رأيت الموظفين يخرجون في دفعات، يسحبهم الطريق باتجاه أماكن إنتظار الأتوبيسات، خرجت من الغرفة للانضمام إليهم فوجدت المطر يتساقط على رأسي وملابسي رغم سطوع الشمس، لكن كما توقعت، لم ابتَلَّ.
ابتسمت لأنني أكره المطر على أي حال.
جاء الأتوبيس المتجه لمدينة نصر، صعدت، ألقيت التحية على السائق، اخترت كرسي في نهاية الأتوبيس لتقليل احتمالية أن يجلس أحد بجواري، سيتهاوى الجميع فور صعودهم على الكراسي الأولى ويتركوني نائمًا.. أتمنى ذلك.
Like this:
Like Loading...
тнє ѕυℓтαη’ѕ ѕєαℓ. Cairo's coolest cosmopolitan hotel.