
Bertien van Manen Novokuznetsk (Funeral), 1991. Source: robertmorat.com
لم أجرؤ على دخول الغرفة المخصصة لعزاء النساء كما فعلت أمي، مشيت خطوات حذرة فوق الأحذية والنعالات السود المبعثرة خارج الغرفة، وقادني الممر القصير إلى باحة الدار التي تتوسطها شجرة نبق والتي تحاط تربتها وجذعها بسياج دائري واطئ من صفين من الطابوق، وحوله تنتشر أحذية النساء ونعالاتهن أيضا. شجرة النبق تهيمن على الدار بعلوها الخفيض وتتأمل مشهد الموت كاملا، كأنها تمتص الصراخ الحاد، تنشر أغصانها في كل الاتجاهات وتجثو كالكوابيس على المستيقظ المفزوع تواً، بينما تتساقط ظلالها وأوراقها الصغيرة الصفراء على ارضية الباحة ذات الطابوق الطيني، ويختلط مع ظلال عباءات النساء وثيابهن السود أثناء مرورهن من المطبخ إلى غرفة عزاء النساء. جلستُ على السياج المحيط بشجرة النبق أتفحص الدار التي تعج بالفوضى والعويل، نساء في المطبخ يتولين الإشراف على الطبخ وإعداد حلوى التمر مع الخبز والشاي ثوابا على روح الميتة. صغار يلعبون حول الشجرة كأنهم يستثمرون الصراخ العالي لزيادة صخبهم، ونسوة كثيرات يدخل صراخهن قبلهن من الباب الحديدي المشرّع. مرّ ابن عمتي مسرعا، تحت إبطه كتاب ذو غلاف لامع يختلط به الأزرق مع الأبيض، رماه عليّ قائلا:”خليه عندك، عليّ أن أحمل صينية الشاي إلى الرجال”.
كان أول تعارف لي مع يسنين الذي سأحتفظ بأشعاره المترجمة تلك دوما قريبة مني وأول تعارف لي مع حسب الشيخ جعفر الذي سأحب شعره وترجماته أيضا مثلما كان أول فقد في حياتي.
أذكر أن الملمس الناعم للغلاف أعجبني جدا، حينما فتحت الكتاب عشوائيا على:
يالفتنة هذه الترنيمة الصافية
وهي تغرق الأسى بالزوبعة الثلجية
أود أن أقف مثل شجرة
بقدم واحدة على الطريق
تراءت لي ابنة عمتي الطويلة ذات الشعر القصير خلفي وقد تحولت إلى شجرة النبق خلفي كأنها تستجير بلحاء الشجرة من ظلم الأهل ومرارة السم.
يزداد عويل النسوة، ويتضاعف عبث الصغار الذين يلعبون قريبا مني، كلّ يلعب بطريقته، وابنة عمتي شجرة النبق تراقب كل ذلك وتخشى أن يسكب أحدهم في تربتها ما تبقى من السائل الأبيض اللزج لقنينة سم الفئراسن المركونة في زاوية كأداة لفعل الانتحار.
استقرت عيني على قصيدة رسالة إلى أمي:
ألا تزالين حية يا عجوزي
حيُّ أنا سلام عليك وسلام يغمر الدار
يكتبون إلي أنك تذوبين شوقا
وأنك غالبا ما تخرجين إلى الطريق
بفستان مهتريء من طراز قديم
في عتمة الليل الزرقاء
وغالبا ما تتخيلين أن احدا ما في عركة خمارة
قد غرز في قلبي سكينا فينيقية
لا بأس يا أمي! اطمئني
هذا هذيان مؤلم لا غير
حينما أعدت قراءة القصيدة بصوت عال لنفسي، بسبب ضجيج الصغار، كانت عمتي بثوبها الأسود وشعرها الأشيب المنفوش، قد وصلت إلى حالة هيستيرية جعلتها تركض نحو باب البيت الحديدي متخيلة شبحا ما في الزقاق الضيق وتصرخ به: يمه وينچ، شوگت تجين؟ يم طول الحلو شوگت تجين؟.
بينما شجرة النبق التي تقف على ساق واحدة وسط الدار تصرخ بصوت عال:
لا بأس يا أمي اطمئني
هذا هذيان مؤلم فقط
سأعود عندما تتفتح أغصان
حديقتنا البيضاء في الربيع
شرط أن لا توقظيني عند الفجر
Like this:
Like Loading...
тнє ѕυℓтαη’ѕ ѕєαℓ. Cairo's coolest cosmopolitan hotel.