مينا ناجي في عيد ميلاده: مُصالحة خَاسر جيّد

By Youssef Rakha

— في بداية كلامي أحب أن أؤكد على شيءٍ. مهما بدا الأمر فأنا لم أُرد أن أوجِّه لكِ تلك الأشياء التي قُلتها. كنتُ مجرَّد أحمق بنسبة ذكاء أتوبيس نهري. وكانت تلك أول مرّة أدخل فيها هذا المول. مرّة قبل سنوات دخلتُ ‘سيتي ستارز’ مع صديق ليبي وهَاله منظري. المهم، حين وصلتُ يوم الجمعة المُشمِس على غير المتوقع إلى المول، كنتِ باردة معي. أتيتُ متأخرًا لأني أوصلت بابا إلي هايبر-ماركت جديد وتركته هناك ليرجع وحده. صعدنا على عجل، وحدث أن السلم الكهربائي كان مُعطلاً، وعلينا الصعود بالمصعد، وأنتِ تعرفين أني لا أحب المصاعد. اندفعتُ خارجًا لما تردّد الباب في الانغلاق وطلعت على السلم المُعطل ليوبخني عمال الصيانة. تجاهلت الأمر لوقتٍ لاحق. كان الفيلم الكوميدي سخيفًا وساذجًا بشكل غريب. لم أضحك ولا مرة. فقط ابتسمت مرتين أو ثلاثا، وأنتِ تضحكين بشعور خفيف بالذنب جانبي وما زالت باردة. في الاستراحة تحجّجتُ بأني أريد أن أرى طلاء أظافرك الجديد ولكنك سحبتِ يدكِ بحزم وبان عليك الضيق أكثر من الخجل. تحمَّلتُ إلى ما ظننته نهاية الفيلم ونزلت متجمدًا من هواء التكييف المبالغ فيه لتمكثي نصف ساعة أخرى بالداخل.
— اصبري. حسبتك ستنصتين إلىّ أخيرًا. ما أنا راغب في قوله إن تلك العبارات التي خرجت من فمي لم يكن أبدًا في نيتيّ توجيهها إليكِ. لكن أختي وزوجها واليويو كانوا قد أتوا. وأنتِ نزلتِ وأنا أهمّ بالاتصال. بعدها حدث أن أشرتي لحذائك الرياضي الأبيض استعدادًا لدخول قسم الألعاب، كما لو كنت تفصليني بحذائي الأسود عن خططكِ. كأنك ترفسيني به. فانقضَّت عليَّ كل ذكرياتي المهينة. ما دخل ذلك فيما قلته لكِ من كلام لا يصح؟ أنا أحاول أن أشرح لكِ لا أكثر وأنت تقاطعينني بنفاد صبرك. إذا انتبهتِ ستعرفين أني انقضَّت علىّ ذكرياتي المُهينة، وأني لم آت للسينما منذ خمسة عشر عامًا، لكني أتيتُ من أجل ألا أرفض لكِ طلبًا. لم أرفض لكِ طلبًا واحدًا وإذا قلتِ غير ذلك فأنتِ غير صادقة. حسنًا، حسنًا، سأرجع للموضوع. قلتُ سأنتظر مع أختي وزوجها واليويو، وفي تلك اللحظة تفتّق ذهني الأحمق كأتوبيس نهري بعد ضيقي من تركي لبابا والمول لأول مرة وموقف المصعد والعمال والفيلم السخيف وسحب يدكِ المُنزعِج والحذاء الرياضي الأبيض، أن أطلب منك كلمة على جنب. حقيقي، كم أنا غبي! كنتُ أريد عقد هُدنة سلام تحفظ كرامتي، ومشغولاً بألا يُلاحِظ الآخرون أن هناك خَطبٌ ما بيننا، حتى أني لم أنتبه كم أنتِ مشحونة ومتحفزة ضدي. لا أحاول إلقاء أي لومٍ عليكِ، أنا جئتُ هنا مجرد لأشرح الأمر وأعتذر. ما أودُّ قوله إني استكملتُ كلامي وردودك العصبية المُقاطِعة ترمي الشرر فيما هو بالأساس ينتظر الانفجار. ثم هوب! انطلقت من فمي تلك الإهانات التي رددتها على مسامعك. والتي أنبني عليها ضميري ليلتها وأرسلتُ معتذرًا.
— ما حدث قبل ذلك؟ ما حدث قبل ذلك يستحق بعض الشرح. فيبدو أنك تفهميه بشكل مختلف عما أفهمه: تكلمتِ عن رفضك أن تنزلي لنأكل سويًا وأني غضبتُ من ذلك أو شيء من هذا القبيل، لم أفهم قصدك حينها. لكني أحب أن أؤكد مرّة أخرى أنه بغض النظر عما فعلته فأنا نادم عليه الآن، فأنا أتظاهر بكوني أحمد التبّاع وعندي قطتان يزعقان فيّ حين يجوعا. بالتأكيد تعرفين هذا. ولذلك استغربتُ جدًا اتهامك لي بالغرور! كم من المرّات أسررتُ لكِ أني مجرد أحاول حماية هشاشتي من الكسر؟ أني لا أحتمل حتى لكمة عادية من أحدٍ قريبٍ منّي؟ ثواني فقط، ما أبغي قوله هو أني أخذتُ ثلاث ضربات منكِ: ضربة تدريبيّة، كما أخبرتني فيما بعد، ثم ضربة سوء فهم كما أتضح حينما تحادثنا، ثم ضربة ثالثة لا استيعاب لي لأسبابها على الإطلاق. وكانت في نفس يوم عتابنا وتصالحنا على الضربة الثانية! كنتُ موجوعًا منكِ، ولا أفهم ماذا يحدث، فقررتُ أن أكتفي وأبتعد. لكني رجعتُ بعدها وضعفتُ حين تقابلنا في المول، وبدلاً من َعقد هُدنة عبرّتُ عن ضيقي بجمل قاسية وجرحتكِ. أعرف الآن أني مخطئ. كان يجب فقط أن أصمت وأتجاهل الأمر.
— صحيح، وأنا لم أرد أن أصالحكِ الفترة الحاليّة نهائيًا. لكن في اليوم الثاني لانسحابك بعد يوم المول، رأيتك مصادفة من وراء زجاج الكافيه الذي أعمل داخله، واقفة بالكمامة تنتظرين دورك أمام ماكينة سحب النقود، لا أعرف ماذا دهاني لكني جمعتُ أشيائي دون تفكير وخرجت، لم أعرف ماذا ينبغي أن أفعل، فكرتُ أن ألقي عليكِ التحيّة، لكنك كنتِ تستديرين إلى الماكينة لحظتها فتراجعت. بكيتُ كثيرًا في البيت. كنتُ في حالة غير مفهومة من عدم التوازن هذه الأيام، حتى بالنسبة إليّ. يأتيني شعور عنيف ومؤلم بالحَسْرة يجثم على صدري إلى أن أبكي. أحيانًا حتى دون أنتبه، فقط أشعر بخدي مُبللاً لأكتشف أن عيني ممتلئة بالدموع. من أجل التعامل مع تلك الحالات القاسية كنتُ أمشي لمسافات طويلة حتى ينهكني التعب. بالتدريج استوعبتُ أني أمرُّ بنوع من الانهيار العاطفي، بعد كل ضغوط وجروح السنة الماضية التي فتحت فمها مرّة واحدة داخلي، ووجدتُ نفسي أنزف من كل ناحية كضحية حادث أتوبيس نهري اصطدم بحزنٍ هائل. جروحٌ تجاهلتها مُداعبًا شاربًا وهميًا أبدو به ‘شبَه ظُباط الشرطة’. كان مجرد كبتًا نموذجيًا لم أستطع الاستمرار فيه. وكما كنتُ أحمقًا في اندفاعي الأرعن، كنتُ أحمقًا أيضًا أن أنزل ذراعيّ في بداية مباراة ظننتُ شريكي فيها قد سلم لي رقبته، وبغطرسة المتفوقين تركت وجهي في العراء ليوجّه لي لكمة قاضية وأجدني مطروح أرضًا والشارب الهزلي قد طار.
— اليوم التالي. جلستُ بعد انتهائي من العمل في الحديقة أمام بيتي لعل شمس الشتاء تخفِّف عني. رأيتكِ تنزلين من التاكسي. لا أعرف إن كنتِ قد رأيتني أم لا. فكرتُ للحظة أن أناديكِ وأقترب منك لكني خفت من ردَّة فعلك، وأنا لن أحتمل أوهي شيء. نعم، بالضبط، ذلك هو اليوم الذي أرسلت لكِ فيه رسالة أقول إن رؤيتك مرتين متتاليتين علامة، وأنا رجل أحترم العلامات والصُدَف، على أنه الوقت المناسب للاعتذار. لم تردّي بالطبع. والباقي تعرفينه. كما تعرفي تمامًا أني لم أفعل هذا مع أحد غيرك. أني أتفاخر بقدرتي على القطيعة والتمادي. أني لا أحتمل أن أترجّى أحدًا. مع ذلك، فقد عرفتُ خطأي، لدرجة أني لما صادفتُ أحمد الذي قاطعته أربع سنوات، تحادثنا لساعة نسترجع ما فاتنا كأن ليس بيننا ضغينة. وأرسلت لأدهم أطمأن عليه بعد خصام بيننا منذ شهر. وحتى جارنا الذي مرّ شهران لم يزورنا وتقطّعت بنا السُبُل أرسلت له وتقابلنا.
— بالمناسبة، تذكرتُ شيئًا جيدًا فعلته لأجلك، برغم نفيك التام الغاضب باتصالنا الأخير. لا. ليس تربيت الظهر والمواساة في ليال بكاءك على المقاعد الحجريّة البيضاء في الحديقة أمام الكافيه، بل وقت اتصلتِ بي وأنت تمرين بنوبة فزع، وأنا طمأنتك وأخرجتك لبر الأمان سالمة. تذكرتُ ذلك اليوم، حين انتابتني نوبة قلق وعَنّ لي أن أتصل بكِ.
— لمَ ألححتُ على مقابلتك وأصرّيت على قول كل هذا لكِ؟ لأني لستُ إنسانًا سيئًا إلى هذه الدرجة. لأنك أوحشتني. ولأني آسف حقًا. هل تتصورين ‘بيشو’ بهذا السوء فعلاً؟ لا، أنا لستُ مريضًا. فقط كورونا خفيفة. الكمامة تخنقني كما تعرفين.