أمنية منصور: حتى في الجنة تَنفَق الغربان

Mark Rothko, Blue, Green, and Brown, 1952. Source: mark-rothko.org

وجدتني في مصعد بأربعة أبواب، باب على كل جانب. صعد بي دون أن أضغط زرًا. يختار هو الطابق ويترك لي اختيار باب أخرج منه. توقف. أنا لا أعرف أين أنا فربما عليّ اختيار أكثر الاحتمالات وضوحًا. نزلت من الباب المواجه لي. أحسست جسدي يصطدم بلوح زجاجي لم أره، فارتددت إلى الخلف واقعة.
أحرق عيني لثوانٍ خضارٌ مشع امتد تحتي. أرسلتهما بعيدًا فوجدته يغطي كل شيء على امتداد الأفق. تضاريس برزت عن الأرض، وحفر. كأنه بساط فرشه كائن عملاق وألصقه بغراء. مر أمامي زوجان، مشيا ناظرين أمامهما كغريبين على رصيف ضيق جمعتهما وجهة واحدة. قطعا الطريق وما إن أشحت بنظري عنهما حتى اختفيا، ليظهر في البعيد أشخاص آخرون. رأيت بعضهم يستلقي على البساط، والبعض الآخر يستحم في بركة خضراء هي الأخرى. الضوء هنا ليس أبيض، وليس ساطعًا يعكس الألوان. فقط خضارٌ مُشع.
عيناي يوجِدان الأشياء متى ضربتُ بهما أي بقعة من المكان. كان يشبه شيئا قد حُكي لي عنه وتخيلته. وكما رأيته في عقلي من قبل، ظهر أمامي وأدركته كصورة داخل إطار.
إنها الجنة! صحت. ليرد عليّ نعيق غرابٍ صارخ أسكتني.
من أين أتى الصوت؟ لا وجود لحيوانات في المكان، ربما فُصلوا في طابق آخر. أحسست على وجهي ارتجافاً. رُدت إلى رجلي قدرتهما على الحركة ككرة قُذقت عليهما من بعيد. وقفت وبدأت المشي. غطيت المساحة طولًا وعرضًا. لاحظت في أشكال تضاريسها انتظامًا هندسيًا غريبًا، وفي لونها وحدة كلوحة لطفل لا يمتلك من الأخضر إلا درجة واحدة.
لم أشعر بألفة الناس حولي. كل منهم يحوم كأنه وحيد في صحراء. لا تظهر على وجوههم علامات الفرح، أو أية علامات أخرى. أحسستني غريبة. هم مقيمون وأنا في زيارة.
“لو سمحتِ،” صرخ صوت طفلة من خلفي فاستدرت. هجمت قابضةً على يدي وهي تلهث وتبكي.”ساعديني،” قالت. أنا لست من المقيمين ولا أعرف إن كنت جديرة بتقديم المساعدة. “أرجوكِ،” استمالتني بفزعها. لا أحد آخر هنا تبدو عليه مشاعره. “أنا قصيرة وهو مش عايز يوطّي عشان أعضّه.” شددت يدي من قبضتها. “ماتخافيش، أنا عايزة أعضه هو بس.” وأشارت بإصبعها نحو شاب طويل أسمر البشرة يقف عاريًا. “أنا هو. ولازم أعضه عشان أرجع.” إلى أين؟ استفهمت. “مكان ما جينا أنا وأنتِ.”
ظننتها طفلة تخرف فحسب ولن تهدأ إلا بمساومتها. أومأت برأسي وتبعتها. وقفت أمام الشاب وقد احمر وجهي من الحرج. “وشك أخضر ليه؟” سألني الشاب وعَجِبت، ثم تذكرت أنني أيضًا لا أرى إلا الأخضر من حولي.
تلعثمت: “ممكن تخليها تعضك؟”
“هي لا. أما أنتِ ماشي.”
صعقني رده وكدت أضربه حتى صرخت الفتاة أن أهدأ “أرجوك.” فكرت. إنها الجنة. لعل المهين على الأرض لا يكون كذلك هنا. ولكن لمَ شعرت بالإهانة؟ بدا الشاب مسالمًا. وبدت الطفلة مستاءة. قررت أن أفعلها. لن يحاسبني أحد فقد تمت محاسبتي بالفعل وها أنا هنا. هجمت على رقبته بوجهي وتنفست عميقًا. أغمضت ثم أطبقت بأسناني عليها.
سمعت نعيقًا وفزعت فاتحةً عيني. اختفت الطفلة وهوى جسم الشاب على الأرض يُخرج هواءً من فتحتين صنعتهما أنا في رقبته. حتى فرغ تماما وأصبح ككيس دهسته عربة. وقعت على ركبتي. وضعت وجهي بين يدي وفركته. وما إن أزلتهما حتى حال كل الخضار إلى سواد. نهضت وجريت أبحث عن ضوء أو مخرج. لا أرى أمامي ولا أدري أين تضرب رجلي. فجأة هبشني جسم أزغب وباصطدامنا انفلق الضوء.
لم أجد إلا سيدة عجوزاً تقف أمامي عارية.غرابٌ نافقٌ تحتي.