Ceci N’est Pas Un Memoir

Harry Gruyaert, Paris. Roissy/Charles-de-Gaulle airport. 2017. Source: magnumphotos.com
“خلال الساعة القادمة، كل شيء ستسمعونه منّا حقيقي ومبني على وقائع”
أورسن ويلز – F FOR FAKE
مونتاج سريع لوداع عائلي، بوابات أمن، متاجر للابتزاز معفاة من الرسوم الجمركية، طوابير المغادرة، حروب المقصورة في الأعلى، إعلان للسلامة ينقله مشروفون زومبيون، عيون تحدق في أقرب مخرج للطوارئ، ربط حزام الأمان، ينتقل العقل للبطن لمّا يُشاط الممر الجوي بعيدًا عن المدرّج، حبوب تُبتلع خلال نوبة اضطراب فوق الأرغواي، إيماءات رأس قبيل أن تصير القارة ذكرى، ثم آلاف الكيلومترات وعدّة أحلام هذيانية وبعدها وقفة قصيرة في ميلان مالبينسا.
هنا في منطقة المدخنين التي وصلت إليها هامدًا، أتخلص من السجائر والعملات المعدنية الأرجنتينية، في محاولة مبالغ فيها للاستئناف، للبدء من الأول، لسفك بعض الكيلوغرامات الوجودية، ولتفريغ بقايا الماضي في منفضة، جالسًا بالقرب من رجل محطم له أصابع أطرافها مصفرّة. وهكذا كانت الأحداث في الأول سريعة ومتتالية ومن ثم يتباطأ هذا التدفق فيستعيد الوقت الشكل الذي اعتاده خلال الشهور الماضية: وقتُ انتظار. سبع ساعات. ثم رحلة “طيران لنغس” إلى دبلن.
بعدها سيكون هناك مكان آخر من هذه الأماكن التي تشبه مراكز التسوّق، بأناس يجرّون الحقائب، ويدفعون العربات، ويتدافعون إلى أقرب مخرج، نتنينَ بعرق الإبط، والأنفاس الكريهة، والخمرة، وخمّة السفر. وهناك، نتنٌ أيضًا ودائخ، سأنتظر فْريد، والذي لم يعد فريدريكو، والذي يعيش على هذا الجانب من المحيط الأطلسي منذ ١٩٩٨. سيأتي متأخرًا، وسيكون لديّ الوقت الكافي للتفكير في معنى الأرضيات المشمعة، وأعقاب السجائر المسحوقة، وأحزمة الأمتعة المنطلقة في رحلاتها الطويلة على بعد أمتار قليلة من البوابات إلى يساري، واللافتات باللغتين الإنكليزية والإيرلندية، والأصوات التي تعلن أشياء في أجهزة الإعلانات الصوتية، وتبدلات اللهجة في هذه الأصوات – أول ما يخطر على البال حول ما تنطوي عليه إعلانات الوافدين والمغادرين. وفْريد وأنا أخيرًا سيعانق أحدنا الآخر بعد عدّة سنوات كنّا فيها بعادا. وكل شيء سيكون كالمعتاد. حتى بشرته البيضاء، وأسنانه الصفراء، وانحسار شعره. وأي شيء يراهُ فيّ كعلامة على الوقت الذي فقدناه.
لكن كل هذا لا أعرفه بعد.
الآن يوجد فقط السجائر والعملات المعدنية في منفضة، بميلان مالبينسا. الرجل المحطم وأطراف أصابعه الصفراء. الإنتظار. المستقبل ككتلة مجهولة ستلي هذا الإنتظار.
سيدخل الدخان لعينيّ في موقف السيارات، بعد أن يعرض عليّ فْريد واحدة من سجائره مالبورو لايت.
بعد رحلة قصيرة بحافلة المطار، وبعد وضع أغراضي في غرفته بمكان ما شمال دبلن، سنتجول في شارع أوكونيلز. لن أنتبه لأي شيء على وجه الخصوص، محاولاً استيعاب كل شيء دفعة واحدة، بالكاد مركّزًا في همهمات فْريد الحادة، وغير قادر على طبع ذكريات تتجاوز إحداثيات الأسماء ذات الصدى في رأسي: أيرلندا، دبلن، فْريد، شارع أوكونيلز.
كل شيء سيكون مضببًا إلى أن ندخل مقهى للإنترنت وداخل أكشاك الهاتف. عبر الحائط الخشبي المزيف والممتلئ بالهراء وأرقام الهواتف المنقوشة بالقرب من صور قلوب وأسماء وأزباب تقذف، سأستمع لفْريد يتحدث بالإنكليزية: يس، يس. نو، نو. تومورو، أوك، شور، أرسل لي في الصباح لو… يس، شور نو بروبلم… شور… أوفكورس… ثانكس… ثم سيسكت فْريد، وسأُترك وحدي في الكشك، وسأحاول الاتصال بالبيت، لكنّي سأنسى إضافة الرمز الدولي ولن أحصل على شي، تليها نبرة غاضبة. سأغلق الخط وأرفع السماعة مجددًا وسأدخل ٠٠٥٤، وأكرر الأرقام في رأسي لأوجّه أصابعي على لوحة المفاتيح، وأخيرًا سأسمع اللحن الخفيف المعتاد لجرس هاتف يرن في الغرفة الفارغة على الطرف الآخر من الخط، إلى أن يرفع السماعة شخص في الغرفة التي لم تعد فارغة، وبعدها ستكون هناك محادثة مع أمي لن أتذكرها جيدًا، ومع هذا فإن جميع المحادثات مع الأمهات متشابهة إلى حدٍ ما. لذلك بإمكاننا استنتاج ما قيل: التحقيق المتعلق بجودة الرحلة، التعليق المتحمس لقرب صوتينا، الفضول حول مكاني، في أي جزء من المدينة، التوصية بالاعتناء بالنفس، وأنواع أخرى من المواضيع ذات الثيمة الأمومية: دراما الشوق الأمومي الذي لا داعي له، ومصطلحات مقتبسة من مسلسلات أرجنتينية لست مدربًا على ترديدها، وعندما يطول الصمت بشعور غير مريح يحين وعدي بأن أتصل مجددًا في القريب.
سأخبر فْريد ونحن نغادر أنني لم أتذكر الرمز الدولي. سيقول فْريد هذا غريب أليس كذلك، وأنا سأوافقه. هنا سيحدث الإدراك؛ الوعي بالتغيّر وبالانقطاع، مثلما يموت شخص أو يولد آخر، مدركًا أن الأمور لم تعد كما كانت، وأنه لا يمكن أن تكون هي نفسها. بعد دقائق، أي بعد نزهة قصيرة أخرى لن أنتبه خلالها لأي شيء وسأحاول فيها استيعاب كل شيء مرة واحدة، سأجلس بجوار النافذة في فينسيمون، حانة عادية جدًا في منطقة “تمبل بار” العادية جدًا، أشربُ جيمسون وغينيس، شاعرًا بالدوار ومحاطًا بفْريد وأرجنتينيين آخرين نكرة، وأشاهد السيّاح يتجولون على الطريق، وعند هذه النقطة سيكون لإحساس الغربة الذي أحدثته واقعة الرمز الدولي ألفة اعتيادية. الإحساس بأنّي أراقب نفسي دائمًا من مكان آخر، أو كما لو كنتُ شخصًا أخر.
وغير قادر على فعل أي شيء بخصوص ذلك سأفكر: حسنًا، هذا هو مكاني الآن، هذا هو مكاني الآن، محاولاً أن أجد في ذلك نقطة صلبة أبدأ منها العيش في هذا الجزء من حياتي. هذا هو مكاني الآن، سأردد كما لو أنها تعويذة، بينما هناك أناس في سترات وأحذية صفراء يمرّون، وكاميرات. هذا هو مكاني الآن، سأفكر وأكرر منذ ذلك الحين لمرات لا تحصى، والهذا والـ الآن تقفزان ذهابًا وإيابًا. “هذا” و”الأن” استعصى عليّ أن أفهمهما.
وسنكون في حانة لها رائحة كريهة تسمى “ويلكوم إين”. سنترك الأرجنتينيين النكرة وراءنا، إذ أن معظمهم يعيشون جنوب النهر، هكذا سيشرح لي فْريد في وقت لاحق من تلك الليلة، دلالة على شيء لن أفهمه. لذلك سيكون هناك فْريد وأنا فقط في هذه الحفرة المغمورة، أمزجُ ما تبقى من الحبوب المنومة مع أقداح البيرة، وقد قضي عليّ التدخين المباشر والغير مباشر، ومحاطًا بسكارى سيبدون كنباتات فوشيا منتفخة.
وسيكون هناك تعرج على طول الطريق لبيت فْريد، وتقيّئ في غرفته بسلة صغيرة للمهملات. النوم بعد الإنهيار على مرتبة خفيفة مرتديًا نفس الملابس. وقريبًا بالكاد سيخترق ضوء النهار الثقوب في الستار، لكنه سيكون كفيلاً بإيقاظي. ليلتي الأولى في دبلن سيتبعها صباحي الأول في دبلن، والعبور من الأولى إلى الثاني سيبدو عصياً عن التمييز، بصداع رهيب سأكتسبه بينهما.
هذه دبلن غدًا. غديَ الآن وغدُ فْريد أيضًا، الغد الذي ذكرهُ بالأمس في مقهى الإنترنت، أمس أول صباح لي في دبلن، وهذا الغد سيعني حكمًا بالعمل دواماً كاملاً. بتعبير أدق، غاسل صحون بمقصف في مبنى للمكاتب جنوب النهر، حيث عمل فْريد لعام ونصف. سيستغرق الأمر بضعة دقائق حتى يخبرني أنه لا يمزح، أنه في “دبلن نمر السِلتك” يمكن العثور على وظيفة بمجرد مكالمة هاتفية، وأنه قد عثر لي على واحدة، وأننا سنحتاج للمشي ثلاثين دقيقة، لأنه لا يبدُ أن أحدًا يستخدم الحافلات هنا. لا، ليس هنالك وقت لتناول الفطور، ولا حتى لفنجان قهوة، لا وقت لسيجارة، فقط نظّف أسنانك يا رجل، غطّ تلك الرائحة قليلاً ثم نذهب، عليك أن تكون سعيدًا، إذ تعمل في اليوم التالي لوصولك. وقريبًا سنكون في الرذاذ بالخارج.
ومن ثم سيكون المسير، وفْريد على بعد أمتار أمامي. وستكون ثمة بيوت تبدو كلها متشابهة، وأينما نظرت هنالك ظلال رمادية لم آلفها من قبل. سواتر المحلات المغلقة ستبدو مختلفة. إشارات المرور ستبدو مختلفة، ولن يكون هناك كابلات كهرباء في الأعلى، وحتى الإهمال سيبدو مختلفًا. وسرعان ما يكون هناك نهر هزيل؛ تيار كئيب من المياه الخضراء الداكنة قادمة من لا أعرف أين، تتدفق باتجاه البحر، وتلتقي بالبحر في مكان لن أتمكن من تخيّله، وسيكون ثمة حاجة لمقارنته بالنهر الآخر ذاك الذي تركته ورائي، وسأعلن عن خيبة أملي من الطريقة التي تبدو عليها هذي المدينة في الصباح، مختلفة تمامًا عن الصورة المثالية المبجلة في “دليل توماس كوك” الذي التقطته بمحل لبيع الكتب في البلاد، والذي بشكل ما قرر لي بقية حياتي. وفْريد سيقول أنني لن أكون سعيدًا في أي مكان، وقد يكون محقًا. لعلّي كنت دومًا مضطربًا، مذابًا، متمّما للّذين عاشوا وماتوا وهم ينظرون للخلف لأوطانهم؛ مكان أسطوري كانوا سيكرهونه لو تمّ اختراع الطائرات قبيل خمسين سنة، لو كانوا قادرين على العودة، ولو أفسحوا المجال للوقت والعادة كي تقتل حنينهم للوطن. لكنهم لم يعودوا، فانتشر الحنين كالمرض وصار جزءًا من الحمض النووي للعائلة. لربما أتتبع هذه الرحلات على النيغاتيف، سأتخيل، وأنني أعود إلى البداية، إلى نوع من المهد، بحثًا عن نوع من التعويض، لأن الأمر سيستغرق المزيد من ضبّاط الهجرة حتى أتخلص من الوهم بأنني أنتمي إلى هذا الجانب من المحيط.
كل هذا الحوار الذهني بإيحاءاته الوجودية الخطرة سينتهي بعبور نهر ليفي ببطء ريثما أعتادُ حاضرًا ينطوي على عبور النهر سيرًا على الأقدام، ريثما أتوقف للحظة لأبصق وأشاهد بصقتي تصل إلى الماء بعد رقصة وجيزة في مهب الريح، والتحديق في عربة تسوق مازال عليها اسم السوبرماركت – الذي سيُنسى قريبًا – مرئيًا تحت الماء. ستكون هنالك دراجة أيضًا تحت الماء، والكثير من النفايات المش مفهومة، والتي لم يفلح النهر في دفعها إلى البحر، وفي رأسي سيكون هنالك سرد حول أنواع الأشياء التي يلقي بها الناس في النهر في أجزاء مختلفة من العالم، ونزوة مع أفكار “هيراكليتوس”. لكن لا شيء يأتي بنتيجة من هذه المحاولات الفلسفية، إذ أنه من السابق لأوانه فعل ذلك في الصباح.
وقريبًا سيكون هذا الجزء من مشاهدة النهر خلفنا، حتى لو أن كل هذا في المستقبل، وأنني الآن ما زلت في المطار بميلانو، وترك المستقبل وراءك فكرة بعيدة عن كل الاحتمالات. الآن هنالك فقط هذا المقهى حيث يقدمون قهوة أبتاعها ذهنيًا بالعُملة الأرجنتينية لتكون بذلك أغلى قهوة أتناولها في حياتي. أنا الآن مجرد غير مدخن حديث، مع رحلة طيران بعد أربع ساعات. الآنَ مازلتُ غافلاً عن حقيقة أنني غدًا، وبعد فترة وجيزة من عبور نهر ليفي، وبعد أن يُهدى لي زوج قفازات ومريول وقبعة بيضاء سخيفة، وخمس دقائق تعريفية – معظمها يخصّ الصحة والسلامة وبعض أساسيات استخدام غسالة الصحون – سأقضي معظم اليوم أنظف طنجرة بإسفنجة معدنية.
بعض الأشياء – الأطباق والملاعق والكؤوس – ستدخل في غسالة الصحون، أما الطناجر والمقالي فمن المتوجب التعامل معها باليد. مرتان، ثلاث، مائة مرة سأغسل فيها نفس الطنجرة الكبيرة، وذلك قبل العاشرة صباحًا، والطنجرة الكبيرة ستذهب مرتين وثلاثا ومائة مرة إلى الشيف، والذي سيجعلها قذرة مرتين وثلاثا ومائة مرة، ومن ثم سيعيدها لي، وهكذا، في إعادة تمثيل مطبخي لمحنة سيزيف. الأطباق ومعدّات المائدة والكؤوس والطناجر وكل شيء سيبدأ في التراكم لأن غسالة الصحون بطيئة للغاية، ثم لماذا الحاجة لغسل الطنجرة نفسها مرارًا وتكرارًا لو أنه سيجعلها متسخة مرة أخرى؟
وقد يصير المطبخ مكانًا موحشًا لو احتجت فيه لبعض المساعدة، وفْريد سيكون في قاعة الأكل، يُحضر المستلزمات للغذاء، يأخذ وقته في ترتيب الطعام بدقّة، دون أن تنال منه غضاضة زخم الحركة، فالمهم هو أن يقومَ بأقل ما يمكن. هيّا الأن، ألا انتهيت من تنظيف الـ (fuckin) صحون، لن نجعلهم يأكلون من الـ (fuckin) سُفرة مباشرة، أو شيئًا من هذا القبيل، بلكنة ونحوٍ يثيران القلق، وبلسان فيه صوت أقرب للإنكليزية لكن لا علاقة لها بما باعته لي الأنسة “أويتافن”، مدرّسة اللغة الإنكليزية في منتصف الثمانينيات. لا شيء فيها يشبه “سام على راديو ٣،٢،١” أو “سام على القناة التاسعة” أو “سام على الستالايت” وبقية المناهج التعليمية في تلك الأيام، والتي كانت بريطانية جدًا، بي بي سيئيّة جدًا، تلقينية النطق، وحيث كل متحدّث إنكليزي يعني إما ليدي أو جنتلمان. گو أون، نظّف هذه الأشياء وأنا سأنظف هذه الأشياء كي ننتهي من كل هذا، (fuck’s sake)، سايمون الشيف سيصرخ فيّ مجددًا، (fuckin) ينتزع الشيء من يدي و(fuckin) يدفع بي بعيدًا عن حوض الغسيل، وثم ينقض على الشيء بالإسفنجة المعدنية، بينما أغسلُ الصحون بيديْ، إلى أن تنتهي دورة الغسالة، فيعود إلى الموقد حاملاً طنجرته العزيزة.
قبل بضعة أيام فقط كنت أجلس في مقهى دون قبعة ولا مريول وأنا مسترخ بلا هموم، هكذا سأفكر وأنا أجفف الكؤوس بقطعة كبيرة من لفافة محارم زرقاء. سأفكر أيضًا أن الأشياء التي أحبها ستكون دائمًا هي نفسها أينما ذهبت، إذ صحيح أن البلاد كلها كانت تغرق في الخراء: الكل غادر، أو يغادر، أو يفكر في المغادرة، أو أنهم يحاولون إيجاد طرق لسحب نقودهم من المصرف؛ لو مازال المصرف موجودًا، وصحيح أن الكل يفكر في المغادرة أو في مَن غادروا، وأغلبهم قد ذهبوا حقًا للاختباء في برشلونة ريثما يمرّ الأسوأ، في جولة سياحية في القارة العجوز، يكتسبون خلالها أمراضًا جنسية مستوردة ويجمعون الذكريات الجميلة. كنت أيضًا منهمرًا في الحديث عن الرحيل، رفقة جمع من الأصدقاء الذين كانوا هناك، والذين سيظلون هناك إلى الأبد لأن هذا دومًا ما كانوا عليه ولم يكونوا ليتحملوا الموت بعيدًا عن المكان الذي أخرجوا فيه إلى العدم، لكنّني ألقيتُ خطبة وداع، وكما الممثل الذي يلقي مونولوجًا تدرّب عليه جيدًا، كان ثمة نفحة حُب في كلماتي. وفي رأسي حينها كان الأمر لعبة أكثر من كونه قفزة نحو المجهول، عطلة ممتدة، بلا وجهة سير واضحة – مغامرة – كسطر افتتاحي في قصة بلوغ لها خاتمة سعيدة.
ربما في أعماقي كنت أعلم جيدًا أنني أخادع نفسي، ولكن لم أرغب في التفكير مطولاً بالأمر، لذلك سأذهب أولاً إلى دبلن، وسأحصل على وظيفة جيدة، أي شي، لستُ نقّاقًا، مرشد سياحي ربما، أو في متحف، أو كمترجم في مكان ما، شيء على هذا المنوال، وسيكون بإمكان فْريد أن يساعدني في ذلك، لأنهم بحاجة لأناس في مصلحة السياحة، ناس يتحدثون الإنكليزية بالإضافة للغات أخرى، لن يطرح أحد أسئلة كثيرة حول أوراقك طالما تعمل بجد. لذلك فقط قُم بالعمل، ووفّر المال، وسافر قليلاً حول البلاد. إبق لأطول فترة ممكنة كي تفهم طريقة سير الأمور هنا، واكسب بعض الثقة، ثم انتقل إلى لندن، حيث ستحصل على تأشيرة سياحية لمدة ستة شهور، واستخدم خبرة العمل في دبلن للحصول على وظيفة أفضل، وعندما تنتهي مدة التأشيرة انضمّ لدورة لغات رخيصة وابق لفترة أطول، كطالب، وانتظر. ربما أحضرُ حصص الدورة وأحصل على شهادة في اللغة الإنكليزية معتمدة من كامبردج، بينما أنتظر أوراقي الإيطالية لتصل؛ إنها مسألة وقت فقط، هكذا سيخبرني الرجل في القنصلية الإيطالية. وبعدها قد أذهب إلى مدريد، وقد أعود لمقاعد الجامعة وأنال شهادة في اللغات أو الأدب المقارن، شيء فيه نبرة ذكية، أي شيء يعوّض السنوات الستّ الماضية التي قضيتها أدرس الموسيقى الكلاسيكية في معهد ممتلئ بالحمقى. أحدهم، يُدعى آنخل، أكبر منّا سنًّا، ومحامٍ متقاعد، كان ساكتًا، يدخن، ويراقب أدائي، إلى أن لم يعد قادرًا على البقاء ساكتًا لفترة أطوال فقال أنه يجب عليك البقاء والتحلّي بالشجاعة أمام العاصفة كما نفعل كلنا؛ بدلاً من ذلك، أنت تهرب لتشتغل نادلاً عند الإنكليز. ضحكت. قلتُ أن هذا الصبي لن يعوّل على أي طاولة، مستحيل. إنهم بحاجة إلى أشخاص أذكياء هناك، إنهم بحاجة إلى أشخاص متلهفين وواسعي الحيلة مثلي، وأنني سأذهب إلى أيرلندا، قد أذهب إلى لندن أيضًا، لكنّ الشيء الوحيد الذي أعرفه بالتأكيد أنني ذاهب إلى أيرلندا، وأن الحكاية ستبدأ هناك، ومن يدري إلى أين ستأخذني بعدها. لا أستطع البقاء في الأرجنتين، لم أعد أحتمل ذلك، لم أعد قادرًا على الاستمرار في البحث عن عمل في الصحيفة كل صباح إثنين، عندما كانت كل الوظائف المتاحة هي بيع الهواتف المحمولة مقابل عمولة فقط، وكان عليك أن تقف في الطابور لساعات لتعمل مقابل لا شيء. أي مستقبل بإمكان المرء أن يبنيه هكذا؟ لو أنه كان في الخامسة والعشرين لفعل نفس الشي، لو كان بالفعل صادقًا في قوله، لوافق، لأنه لا يوجد سعيٌ ملحمي في فكرة البقاء وبيع الهواتف المحمولة، وقريبًا لن يهتم أحد أصلاً بالهواتف المحمولة. لم يكن ثمّة معركة نبيلة تستحق القتال من أجلها في ٢٠٠١، لا يوجد مجال لتقمص دور تشي غيفارا كما فعلتَ وأصحابك المحبطين في السبعينيات. قد يكون خطئي أنني لم أستمع لنصيحة جدتي عندما قالت أنني سأجوع كموسيقي، وأنه يجب أن أدرس شيئًا آخر، الإدارة أو إدارة الأعمال أو المحاسبة أو تكنولوجيا المعلومات، شيء قصير ومفيد، ربما خطئي كان الالتزام بالأمور مائة بالمائة، كل شيء أو لا شي، ولا أقبل المساومات، آخر ستّ سنوات من حياتي كانت الموسيقى، وقد حان موعد الرحيل، وأنا ملتزم بالقيام بهذا مائة في المائة، قلت، قائلاً لنفسي إن هذاالالتزام كلام فارغ، ككل التزاماتي، لكن بحلول اللحظة صرتُ متأكدًا أن ما كل ما سيحدث لم يعد لي كي أقرر. إلاّ أنني لم أقل هذا. قلت فقط إن الأمور بطريقة ما ستصير منطقية، فهي طالما فعلت ذلك، أعاجلاً أم آجلاً. سأجدُ طريقًا، ستراودني فكرة في زمن ما لتنقذني. قدري النجاة، فأنا مثل قط، أليس كذلك، سأقع لكن بطريقة ما سأقع على قدمي، لم يرد آنخل؛ ظلّ يدخن، ساكتًا.
بعدها بيومين فقط سأقوم بتنظيف المقلاة لمرة أخرى، بعد الانتهاء من الصحون والكؤوس، سأكف عن عد المرات التي حدث فيها هذا، وسأعيدُ في كل مرة الطنجرة لسايمون.
وسيمتزج كل يوم بآخر، وستتحول الأيام لأسابيع.
أفيق في الصباح مع صداع رهيب. أمشي تحت المطر، وفْريد دومًا على بعد أمتار أمامي، ساكت، يدخن، وأنا وراءه، أحاول أن ألحق به، أدخن وأشتم، غير معتاد على هذا الدفّ مشيًا على الأقدام. البيوت الرمادية، السواتر المغلقة، إشارات المرور، ولا كابلات كهرباء تتدلى في الأعلى، الإهمال، ثم الجسر، وعربة التسوّق، والدراجة، والبصاق في نهر ليفي بغضب شخص لا يبصق في نهر، بل على بلاد لم تستطع فهمه حتى الآن، مستاء، بسبب شعور غبي بالتفوق، أن هناك أمور أدنى منّي، أن ثمة أناس لا يجب أن يبيعوا الهواتف المحمولة، ناهيك عن فكرة غسل الصحون كوسيلة للعيش، حتى وإن اضطروا لذلك؛ وكل هذا مصاحب لنزعة أرجنتينية جدًا للدراما والمأساة، وميل للتفكير بأن الأمور هي كما هي ولا يمكن أن تتغير أبدًا، أن كل ما تفعله في النهاية – بطريقة ما – سجن، وأنني سأموت أمام غسالة الصحون بعد خمسين عامًا من الآن، وسايمون يعيد لي الطنجرة أو يسألني لأمدّ له الـ (fuckin) طنجرة. والفكرة العرضية حول الجنين الذي قضيَ عليه وتمّ التخص منه في النهر، والأمنية في أن يكون هنالك المزيد، أن كل من هم خارج المطبخ، في مستنقع هذه المدينة الباردة، يلقون بأنفسهم في نهر ليفي ليغرقوا والخراء يتدلى من أفواههم، لأنهم لا يفهمونني، وليس بإمكانهم أن يروا إمكانياتي الحقيقية لشيء أنا نفسي لا أعرف ما هو، لكن الإمكانية هناك. هؤلاء الأوغاد يحكمون عليّ بالحياة البائسة كغسّال صحون، بدلاً من أن يستقبلوني كعبقري، لمجرد أنني ولدت في مكان آخر، وأن لا أحد يريد أن يغسل الصحون في بلاده، ليس إذا كان بإمكانه فعل شيء آخر. وبعدها أهدأ، أمشي قليلاً، حتى نصل إلى المبنى الذي نعمل به، وتتكرر نفس العملية، مرارًا وتكرارًا، لثماني ساعات تتخللها عشرين دقيقة لاستراحة الغذاء، وسيجارتين أدخنهما خفية في الزقاق الخلفي، والجولة العادية والمعتادة للتحقق من المراحيض.
يتبع اليوم في المطبخ ليال من الشرب. سكرات الجمعة تمتد حتى ليالي الأحد. مثانتين غير معتادتين نُفرغهما على الجدران في الأزقة المظلمة. التعثر على طول الطريق إلى بيت فْريد، التوهان، الوصول بطريقة ما، ثم التوهان مرة أخرى، الوصول مرة أخرى ولكن بطريقة مختلفة، والحالات المزاجية الغريبة التي سأجد نفسي فيها، وهي غير معتادة على الخمر، جزء من هذا اللاشعور الجمعي بالذنب في كرنفال التدمير الذاتي. محاولات فاشلة للشدّ، وأرقام هواتف وهمية تُعطيها محليات هنّ أيضًا ذكيات وسكرانات. الثقة واحترام الذات يمشيان في السالب، وفْريد وأنا هيجانين وسكرانين طول الطريق للبيت، نقول ونفعل أشياءًا سنندم عليها.
وسيكون هناك سكوت أثقل في الطريق إلى العمل، وسيكون المطبخ استراحة مؤقتة. فْريد سيترك العمل مبكرًا ليقابل شخصًا بخصوص كلب أو ما يعادله بالأيرلندي، وأنا سأجد لنفسي غرفة خاصة حيث التدفئة لا تعمل، ولن أعرف أبدًا اسم أو وجه جيراني داخل البيت، هذا لو كان هناك أي إنسان آخر في البيت. على الأقل سيجيب انتقالي هذا ببعض السلام، وسوف نتحدث فْريد وأنا مجددًا، كربيع قديم يعود لشكله المعتاد.
وسيكون ثمة المزيد من غالونات البيرة ذات اللون البترولي، المزيد من الأجنتينيين بأسماء غير ذات صلة، والذين سأهرب منهم كي أتجنب الحنين الأرجنتيني في الخارج صحبة آخرين يتصرفون بسجيتهم الحنينية، والمغامرات القصيرة في قطارات بطيئة ستتركني في مكان مجهول، في محطات لن أغادرها، حيث سأقطع الطريق إلى الرصيف الآخر وأستقل القطار عائدًا إلى دبلن. المشي في “سانت ستيفنز غرين”، و”فينيكس بارك”، أو على ضفاف نهر ليفي بمكان ما قرب البحر، ومحاولة للاستمتاع ببلفاست خلال ساعتين حين زرتها مع فريد، ومكان ممتلئ بالأحجار على الضفة الغربية، وقد يكون في أي مكان آخر بإيرلندا، الوقت الذي يطير عندما تقوم بتنظيف طنجرة أو عندما تكون سكرانًا، والتأشيرة التي شارفت على النفاذ. وبعدها حفلة ذات ليلة في “سانديماوث”، حيث سأنسطل جديًا وأبدأ التفكير في أنّي بعيد عن كل من يعرفني، شاعر بالخوف وبالبهجة في آن، حرٌ لأول مرة، وحيد نعم، وسأصيرُ غير شرعي قريبًا أيضًا، إلاّ أنّي منفصل عن كل شيء وكل شخص ردّني يومًا للخلف. كل شيء وكل شخص باستثناء فْريد. ولا يمكنك البدء من الصفر ما لم تصل إلى صفحة فارغة. فارغة بالكامل. أحتاج لتفريغ بقايا الوزن الوجودي، والتخلص من الفواضل وما إلى ذلك، بينما أحصل على طابع آخر على جواز سفري وأتجنب إعادتي إلى البلاد.
بعد أن تمّ إرسال كل هذا إلى الماضي، قد أكون جالسًا بمقهى في لندن. سبعة عشر عامًا ستنقضي بين ميلان مالبينسا، وبين تحريك السكر في قعر كأس اسبريسو حامض، في مكان به ملصقات لبروس سبرينغستين وأناس بأوشام كثيرة.
ربما دليل آخر لتوماس كوك سيختار وجهتي التالية. لعلّي سأجدها على طاولة بكليمور، أو حانة أخرى. أو ربما لن يكون “دليل توماس كوك” آخر وأن الفكرة خطرت في رأسي بمحل لبيع الكتب قرب ترينيتي كولج، لما عثرت بالصدفة على كتاب لكورتازار، أو علها رحلة مخفّضة أعلن عنها في نافذة وكالة سفر، أو إعلان بصحيفة، أو شخص ما يرتدي بيريه، أو رائحة خبز طازج والتفكير في رغيف الباغيت، أو وثائقي عن أيام جيم موريسن الأخيرة، أو سماع شخص يقول “أور دوفر”، فأتساءل ما الذي تعنيه، أو عن السر الذي تخفيه هذه الكلمات، وبالتالي تتبعها، أو عله الوعد بمعاملة جيدة من قبل ضوابط الجوازات؛ سيقع الاختيار على باريس، في غضون أسبوعين من تلك الليلة في سانديماوث، وفي أقل من ثلاث شهور من الأن.
ثم رحلة قصيرة مع فْريد إلى نفس المطار الذي يوشِكُ على الوصول إليه كي يستقبلني بعد قليل. وداع سريع لكنه حقيقي، حيث سأحرص على ذلك بالإسراع لبوابات الأمن بعد بضعة أعذار ضعيفة عن الطائرات والقلق والمراحيض، ثم ستكون هنالك رحلة هادئة، وصول آخر لواحد من هذه الأماكن التي تشبه مراكز التسوق، ركوب الحافلة إلى محطة، أي محطة، وسيارة أجرة باهظة الثمن إلى هوستل سيقوم أحدهم – من؟ – بحجزه لي. وبعد ذلك ببضعة أشهر في باريس، بمقهى خلاب، ستحدث الولادة الكليشيهية للكتابة. نعم، ولادة الكتابة. أي التعامل مع الأقلام والكراريس والملاحظات الغير مجدية نحو كتب لا طائل منها، بعضها سوف يُكتب، وبعضها لن.
وبعد ذلك ستصبح حياتي كلها كتلة غير متبلورة. رهينة لدى نرجسية ضمير المتكلم، وأنا الذي أكتب وأنا المكتوب، سيختلطان لدرجة عدم تمييزهما. لذا ربما أجلس في مقهى في لندن أقرأ هذه الكلمات، وقد أحاول أن أفهم ما هو حقيقي وما هو متخيّل، أو علّني سعيد بالشكوك. أو واع بالخيال، ومبسوط بالتلفيق. أو ربما سأقرأ هذه الأربعة ألاف كلمة وحاجة، لمرة أخيرة، بينما أصحح التشكيل هنا وهناك، لأجد أن كل ما كُتب هنا حياتي، حرفيًا، وأنه بغض النظر عن مقدار ما حاولت إخفاءه، فإني فشلت، وأنني عارٍ على الصفحة.
لكن كل هذا لا أعرفه بعد.
وإذا كنت أعرفه، فهل يهم؟
Like this:
Like Loading...
тнє ѕυℓтαη’ѕ ѕєαℓ. Cairo's coolest cosmopolitan hotel.