حازم يحيى: ما يُحيل إليه الصمت

Hesham Elsherif, from “The Way to Hell”. Source: arabdocphotography.org

١
الهواء يلُفني كظل،
والبحر عينٌ في حدقة سارحة
صديق قديم معلقٌ بحبال من السماء
يبكي طموحاتٍ خبيثة
وعيناه تلمعان حين أصمت عن جنونه
ذات ليلة، دلّى أكثر من نصفه من شرفة بيته بالطابق السابع
مد رأسه عاليًا واستنشق هواءًا باردًا،
وفي الهواء خُيل له أنه وجد شيئًا
كان قد ملّ البحث عنه
رواية السماء مختلفة عن رواية الأرض
لأنه حين كُسر باب غرفته، سهونا عن رحيله بحاجاته المبعثرة على الأرضية
بينما هو يجرّب الوقوف عاريًا من كل شيء
ولو لمرة
الآن شعور الريح على جسدي يخطر بالذكريات
الرائحة البعيدة التي تعبّئ غرفته تخطر بالفاجعة
بيته القديم
تركه أصحابه للريح بعدما تيقنوا
أنّ لا أثر هنا للصدفة،
وأنا مشاءٌ
تستوقفني الرياح عند قمة الطرق
والخيالات التائهة بين الظل والضوء
تشويش يستحيل محاولة جادة
للإفاقة من ملل التساؤلات
فأعلَق في غرفتي ليلا،
أفتش عن طريقة أقضي بها الغد
وأتعثر دائمًا في أيام خالية من الحياة.

٢
البيت بقايا ركام
والحيرة بين ظلال الواقع في المدينة  طريق
خطواتي الهائمة خلف أثر
هي كل ما فقدته في المجهول
وذكرى لم تعد تأتيني
إلا عبر محاولات النسيان.
منذ عرفته وهو يحوم حول نهايات عديدة
لأن ظله كان مطبوعًا في السماء
نسي أن المدينة غريقة،
والأحلام مجازفات خائبة
في صحراء ممتدة جهة الغرب.
وكنا فراغًا أصفر فعلاً
قاطعي طريق
بدلًا من أن نكون متتبعي أثر
مغامرة في كل مرة حين يسود الليل،
نفهم أكثر سوء التفسير الذي يُلازم النهايات
وهو لم يعد يُصفر لي من أول شارعه
أفكر لو أن اليوم يدوم يومًا
لكنت انتبهت لمرارة فقد الأيام.
وتحت إلحاح الشعور بالذنب،
أراقب خطواتي المائعة
التي تذوب في عشوائية التساؤلات
لأن لا شيء في الطريق
سوى الحيرة والصمت

٣
الصمت كان يفرغه في الحضور والغياب،
كان يقتل به لذة الاختلاسات
وعيناه تفضحانه
حياة تطفو، وحياة تختفي
وعندما تَعلّق الأمر بامرأة
كان حاضرًا
وكانت مسافة بيني وبينه
مع أنهم يقولون إني ليس لي في النساء،
وأنه صخر مدبب تتحطم عليه الكلمات،
نام فوقي ولكمني قبضتين قبل أن يفصل الناس بيننا
كنت أسفًا لما حدث، وهو لم يكن كذلك
حتى أننا نظرنا في حدقات من ضوء
تلمع لنا من البحر
تُرعش لنا من العمق الخيط الطويل للفراق
سرحنا طويلًا
وبعدها أرداني بلكمة أخيرة
وكانت ركلتي هي كل ما ملكت.
في الغياب عرفت الصمت في قرب النهايات
عرفت أن يومي أسوأ من ليلي
وأن ليلي يسع تحديقة قصيرة الأمد
كمأساة مَن لا يتيقن من خطوته على الأرض
إلا ويجدها فجأة تائهة ومائعة
الليل كان الامتنان يا صديقي،
لا يكفي أن تبدد فيه رغباتك
ولكنه يبسط الوقت لتُخفي فيه الحقائق
الضوء في النهاية كان ضائعًا في البحر
ومناجاة الشيطان دائمًا سارحة في عقلي

٤
أتدارك حدسي
وأقول في نفسي: ما ذنبه؟
ما ذنبي؟!
أسرح في وقت يمر
والليل بالنسبة لي، يطول رغم على سرعته
وحقائق مجردة لا تغادر الأرض أبدًا:
ضوء متقطع  وجسدٌ كان له،
ليل ليس له آخر،
وزحام يليق بفكرة الانتحار
وفي مخيلتي: عينان تلمعان
ونظرة حقيقية للامتنان
كدرس جديد من الخيالات!
أو رؤى كدبيب مبرح في الرأس
لكنها ليست سرابًا لأنكر حدوثها،
يلمع الأسفلت تحتها
معلنًا الاستسلام لبراح
يختنق بمرور سخيف للأيام،
ومدينة يومها هو الآخر سيء
وليلها خيالات متقطعة من الضوء.
أمشي مع الفراغ المحدق في عينيي
وأسئلة تسقط في فراغ عدمي
مرتاحًا للخفة التي يحملني بها المخدر عبر الهواء
ويخيل لي أني أقف في الهواء لحظة الانتشاء
لحظة الاستجابة لسؤال بعيد:
ما الذي يُثبت أن الرحيل هدنة؟

٥
ضيعت فرصًا عديدة؟
أعرف هذا
أني فوّتُ الكثير
وأني سأفوتُ الكثير
فأنا أتمشى للوقت
أمني نفسي بأنّ هناك فيضًا منه لا يزال
صرت لا أعرف الساعات
ولا عرفتْ كوابيسي أن تصف الفاجعة
امتزجتُ بالهواء البارد
وليلًا اطمأننت على نبض الأمل المرتخي
ونداء أسمعه ،
يصاحب فقدان أيامي
يُنبهني إلى وعورة الصمت

٦
الحديث يدور في دوامات
بيني وبين الله
وهو أيضًا صمت
لم يساعدني قط على فهم ما يحدث
لكن من قال أني أهتم،
فلمعان الفكرة الدائمة عن نظرة حقيقية للامتنان أعماني
لدرجة أني أُطيل النظر في الوجوه
دون وعي أو سبب
حبست أنفاسي وخاطبت أحدًا لا مرئيًا
ليظن الناس أني قد جننت
ولم أكن أكلم أحدًا غريبًا عن نفسي

٧
يدان عاجزتان في جيب معطفي،
ثم أتأملك
ونصف إغماضة
كنافذة على تصورات ما بعد الموت،
تبدو النهاية فيها كدائرة مفرغة من الأمل
وأنا مشاءٌ في جيبه موبايل قديم
في أحيان كثيرة تكون إلى يميني،
ولا أستطيع أن أوثّق هذا
أحثّ الخطى على الأرض
وتلاحقني بكل هدوء
تدعوني، وحين أقترب تبتعد
وذكرى تسرح في الهواء
تُغري بمزيد من الوهم
أنا ملفوفٌ كظل،
أتتبعك
ورائحة قديمة في أنفي
وطرق لا نهائية
مشوشة ولا تُنبأ بأي بداية،
دخنت نصف علبة
وببرود فكرت في حسن نية البدايات
كحدقة سارحة والتماعة عينين
كإذن أخير لفراق لم يحن حينه بعد
كبضع كلمات دون مغزى
كمحاولات للنسيان.
أتبعك
وأعلم في اللحظة التي فقدتك فيها
أني أسير النوايا الطيبة
لكنْ كي أؤمن في حدسي أكثر
التزمت الصمت.