هيا المويل: شلون

Aleppo, 1919. Source: Wikipedia

شلون يعني؟ قال الأب بعد أن قطب حاجبيه وفغر فمه. تن .. تن .. تيرن، تن .. تن .. تيرن. بدأت شارة mission impossible  من التلفزيون الذي خلفه. تيرا رااا، تيرا رااا، تيرن. ضحكتْ فزم شفتيه وأغلق التلفزيون ليسحبها إلى جدية الموقف.
شلون بتعملي شي من دون ما تقوليلي؟ ولا بعرف بس يجوا ياخدوكي؟
تلاشى كل الكلام الذي حضرتْه وحفظتْه لكسب الحوار. وقالت أول ما تبادر إلى ذهنها:
بابا الموضوع من برا ببين أكبر مما هو عليه.
يعني إذا عرفوا بصفقولك؟ كتّف الأب يديه وأمال جذعه تجاهها، ما أربكها: شلون يعني أكبر وأصغر؟ اتفضلي اشرحيلي.
يعني أنت لو بتكون هنيك …
أنا ما بطلع لأنو بعرف العواقب. صاح الأب وصمت صمتًا بدا عميقًا جدًا.
يا بابا أنا ما قصدي أنك تطلع، قصدي أنو الأمور أبسط مما منتخيلها. جملة ضعيفة، لا القصص المروية بهمس، ولا الأصوات الصاخبة التي بدأت تُسمَعُ حديثًا في حلب تؤيد ذلك، فكرتْ والغضب ينمو بداخلها كصبارة.
لم يرتح لنبرة ابنته التي أوحت أنها متفهمة لعدم خروجه، وأحس بالضيق.
قال وبدأ صوته يزداد زخمًا وانفعالا: يا بنتييي .. يا بنتيي
علا صوتها: “بس أنت بأول طلعتك ما فكرت بهي الطريقة”
أي؟ بدا متفاجئًا، كأنه نسي أنها ابنته وتعرف تفاصيل حياته أو كأنه انتبه إلى أنهما يتحدثان عن موضوع متشابه. حاول بينه وبين نفسه تذكر ما قاله أمام ابنته على مر السنوات.
يعني قصدي يمكن تكون تجربتي مختلفة، اتركني اكتشف هالشي بنفسي
 ضحك وقال بهدوء: يا بابا أول شي أنا كنت شب …
تأهبت لتقول إن ما يتعرض له الشباب والبنات واحد، بل إنها قرأت أن المعتقلات الإسلاميات تكثر نسب زواجهن بعد الخروج إذا كان هذا ما يهم. فما حال الأكثر تحررًا. لكنها تركت الفكرة لتعود لها لاحقًا بعد أن قاطعها الأب بحسم: اسمعيني وخليني كمل
تاني شي هاد الموضوع بالنسبة إلي ما كان هامشي، كان صلب حياتي …
عاد لمشاهد من الثمانينات كأنها الآن، حين دخل مقهى الكلية ورأى أفراداً ذوي انتماءات مختلفة، احتلت كل شلة من نفس الانتماء طاولة. استحضر شعوره بالثقة حين فكر أنه من هذا الجو، له انتماء في إحدى تلك الشلل ورأي في البقية.
عاوده شعور الحب المتزامن مع تلك الفترة. حبه لـ”أحلى بنت في العالم وما حوله” كما كان يصفها لابنته رافعًا إصبعه. تذكّر طلتها، شعرها الذهبي المربوط نصفه بشريطة بيضاء، ثوبها الخمري، أنفها المدقق المشمور، عينيها السوداوين اللتين تتوهجان، وشفتيها الرقيقتين اللتين تنتفخان كلما بكت وهي تحكي عن أهلها الذين رفضوا تزويجهما لأنه من دين مختلف.
ولولا أنهم أخدوني بعد ما تجوزنا أنا وأمك الله يرحمها، وأهلها ما رفضوا يحكوا معها بعد ما تجوزتني وريحوها شوي، كنت طلعت وحولي جو بشجع أني كمّل، وكانت أمك ما ضلت رافضة أني .أرجع لشغلي حتى بعد ما رجعنا لحياتنا الطبيعية وجبناكي
حاولت البنت تذكر شكل حياتها الطبيعية في الصغر، أو أشياء عن أمها، لم تتذكر سوى بعض الخلافات عن أمور مادية. وأن أمها لم تكن تحكي كثيرًا، ولا تنفعل ولا تضحك كثيرًا. مرة واحدة حين تحمس أبوها لفكرة ربيع دمشق، بعد انقطاع عن السياسة لمدة ١١ عاماً، دخلت الأم غرفتها، أخرجت شنطة السفر من تحت السرير ورمت ثيابًا فيها، أغلقتها وذقنها يرتجف وشفتها مقلوبة، والأب واقف على الباب متيبس، هلأ بدنا نروح مشوار على صلنفة قالتها بين الشهقات، اتصل واسألن عن الرحلات والفنادق.
وبعد ما توفت تربطت إيدي لأنو لازم عيشك. تهدّج صوته. نجا من الانزلاق في البكاء وقال: .بس أنتِ قدامك مستقبلك ودراستك
بابا أول شي نحنا ما عاد عنا مشاكل مادية، وبعدين مين قلك أنو الموضوع بالنسبة إلي هامشي، وبالنسبة للجامعة بلاها الجامعة، اش هالقصة!
خبط رجله بالأرض وقام باتجاه المطبخ الذي يفصله حائط عن غرفة الجلوس وهو يقول هاد مو حكييي… مو حكييي. ثم توقف.
في تلك اللحظة مرت سيارة من أمام المنزل وصوت أغنية يخرج منها مزلزلًا الحارة. “نحنا ما عنا بنات تتوظف بشهادتها”، مزاح التفاصيل باهت هذه المرة.
تذكرتْ أن الأغنية منذ سنتين، والسيارات التي تمر في الموكامبو تضع غالبًا أغنيات بنت سنتها. كل شيء حول منزلهم ابن سنته، ماركات المحلات التي بجانبه بنت سنتها، اسم الموكامبو نفسه مأخوذ من فيلم ظهر في الخمسينات، نفس فترة إنشاء الحي. على مدى سنوات، مرت أنواع سيارات مختلفة أمام منزلهم، ركبتها عائلات، شباب يريدون التطبيق، صبايا يريدون الفشخرة، مراهقون، حتى أن ضباطًا في الثمانينات وقفوا بدبابتهم أمام جنينة المنزل، وحين رأى أحد ضباطها ولدًا مخالفًا لمنع التجول ضربه كفا ولولَتْ له أمه الواقفة على البلكون وترجت أن يتركه الضابط الذي بهدلها هي الأُخرى لأنها تركت ابنها ينزل، حين صعد الولد ورأت أمه آثار الكف على خده ضربته لأنه لم يسمع كلامها.
عم احكي معك ردي. نقر أبوها كتفها بإصبعيته. في حدا من الطلاب بيعرف أنك طلعتي؟
لا … لا ما حدا بيعرف. صوتها لا زال مرتفعًا.
رفع الأب شعره عن جبينه، جلس على الكنب ويده على خده، وزفر زفرة طويلة.
معقول يكون سيف منهم! سألت نفسها. مرة حكى عن أن ما يحصل الآن غالبًا لن يصل بالسوريين للصورة التي يتخيلونها، وأن الاحتمالات كثيرة، وقد يكون هذا جيد أيضًا، ثم حين انتبه لغوصها بسلسلة أفكار ستوصلها إلى الشك به، قاطعها: منبقى منزبطها على كيفك، بأمر الحلوين نحنا.
.اش اعمل فيكي … شلون اتصرف معك ما عم بعرف
استمر سيل مشاهد بدا حجمها فجأة مضروبًا بعشرة. أول السنة لم توقع على ورقة الانتساب لحزب البعث، والتي كانت إحدى أوراق التسجيل في الكلية. حذرها أحد طلاب الشؤون من عواقب ذلك وهو ممتعض أو هكذا تذكرته تلك اللحظة: إذا صارت معك أي مشكلة ما فيكي ترجعيلنا، يعني إذا دكتور دايقك أو ظلمك بالعلامات نحنا ما فينا نعمل شي.
معقول يكونوا طلاب الشؤون بيكتبوا تقارير مثلما سمعت! معقول مرقوها يومها بس حطوا اسمها عالحدود!
أحست بارتخاء، ونملت ساقاها. جلست على الكنب المحاذي لأبيها وقالت بصوت أهدأ من قبل:
طيب بابا أنا جيت وحكيت لك كل شي لأنو نحنا مو متعودين نخبي شي على بعض.
حكيتيلي! … اش حكيتيلي؟ … كزبتي وقلتيلي أنك رايحة مع رفيقتك عالعزيزية. لا زال يصرخ، لكن جمله هذه المرة واثقة، متماسكة كبلوكات حجارة تنزل بالتقسيط على رأسها.
ليش قلتله؟ فكرتْ. ما كان رح يعرف لحاله، وإذا عرف، الوضع هلأ أحسن يعني!، ليش قلتله؟ لحتى أثبت لحالي أنو الموضوع عادي بصير بأحسن الأحوال، منقدر نحطه على طاولة الحوار ونتناقش! لحتى إذا صار شي قله أي أنا قلتلك من قبل! لحتى أتأكد إذا حلفانه بالرجعة بعد ما نسافر، واللي أنا كل مرة بطلب يحلفه وولا مرة صدقته، حقيقي ولا لأ!
قالت بعد أن تماسكت وشدت ظهرها: بابا أنا ما بدي سافر بعد الامتحانات، فيك تسافر وتتركني لخلص جامعتي.
.مو على كيفك … أنا ما بحط حالي بتم الناس
قالت بنية ليست صافية تمامًا: أنت على راحتك بهمك رأي الناس، مو ضروري فكر بنفس طريقتك.
أنتِ طريقة تفكيرك خرا. قالها، وقف لثوان ثم دخل المطبخ.
آلمها حلقها، وحتى لا تنهار في البكاء أمامه دخلت غرفتها. غيرت ثيابها، أخذت شنطتها، وخرجت.
لوين رايحة!
.طالعة أتمشى شوي
ماشي، لا تتأخري. قالها متجنبًا النظر إليها مباشرةً.
لم تكن قد ليّلتْ بعدُ في الخارج. السماء زرقاء غامقة، والكهرباء انقطعت بعد خروجها بدقائق. ضايقها دبيب الناس، كأن حركتهم المتململة وهم يدخلون ويخرجون من المحلات المجاورة هي سبب اكتئابها تلك اللحظة. فكرت بمكالمة سيف، لم ترتح لذلك. حاولت استحضار شعورها لحظة رأته وهو يضع يديه في جيبيه، يردد هتافًا بلا مبالغة. بدت تلك اللحظة حقيقية وقتها، وبدت أشياء كالتي حصلت معها منذ قليل عابرة، ووهْمُها أكبر منها، لكنها الآن مشوشة.
وصلت دون أن تشعر لشارع فرعي فارغ من المحلات والناس سوى بعض العمارات، صارت السماء كحلية، قررت العودة للمنزل يمكن يكون بابا لان شوي بعد الموقف اللي صار منعتها صورته وهو منفعل من الثقة بذلك، فكرت لو أنه لم يغضب لكانت الأمور أسهل ثم انتبهت إلى أنها تفكر بنفس منطقه وأن هذا محبط.
كان العالم في تلك الثانية لا يشبهه في ثواني الدقيقة السابقة، عوالِم في عوالِم في عوالِم لا يشبه أحدها الآخر، وكلها امتداد لبعضها.
بتستقبليني عندك عندك حتى إشعار آخر؟ حين وصلتها الإجابة، أخذت تاكسي إلى حيث صديقتها. لم تكن لديها صورة مسبقة عن العالم الذي ينتظرها. لم تعلم إذا كانت ستعود يومًا إلى المنزل. فقط أرادت بداية مفتوحة على احتمالات.