حليمة الدرباشي: عزلةٌ خاليةٌ من العزلةِ

Alex Majoli, Covid 19 in Sicily, April, 2020. Source: magnumphotos.com

فرصةٌ هبطت من السّماء، فرصةٌ تاريخيّةٌ لن تتكرر، وكأنّي قُذفت من نافذة قطارٍ سريع، انقطع التّيارُ الكهربائيُّ فخرجت من خلّاط، انتشلتني يدٌ خفيّةٌ من بين موجتين متلاطمتين؛ فارتطم الجسدُ المهشّمُ بجذع شجرةٍ فهوى على الرّأس فُتاتُ الطّبيعة.
أَرعى زوج حمامٍ حطّ على كتف النّافذة، أُنصُت طويلًا إلى موسيقى الطّبيعة الّتي انداحت في الفراغ الّذي خلّفناه، أَتتبّعُ سرب نمل يتبختر في الأرض الّتي عادت له، فأنسحبُ على مهل؛ مُطأطأةَ الرّأس، خجلى من هول الدّمار الّذي ألحقه الإنسانُ الوحشُ بهذا الكوكب، وأَعودُ إلى الفرصةِ الّتي هبطت من السّماء…
…فرصةٌ لنثر الكثير من القُصاصات على مقاعد المنزل، أَرفعُ جِبالًا من الكتب المقروءة وأَمدّ بينها سلاسل من الأفلام الّتي تَحفرُ في المخِّ وتُعيدُ تشكيله، وسلاسلَ أُخرى من الموسيقى الّتي تنقلك إلى عوالمَ فريدةٍ أعمت عينيّ عنها انشغالاتٌ كثيرة؛ من بينها لقمةُ العيش.
أَخوضُ حواراتٍ عن الحبِّ والحربِ والخوفِ والمتعةِ والحياةِ والكتابةِ عنها وفيها ومنها، عن الهواجسِ والأحلامِ والآمال، عن الحزبِ والسّاحاتِ والشّوارعِ والأفكارِ والحبكةِ والعقدةِ والحلِّ والصّراع، كلُّ ذلك صارَ ويصيرُ مع كائنٍ عجائبيٍّ متفرّد؛ اقتحم العزلةَ الّتي أردتُها تقليديّةً وطوّح بها وأعاد بناءها، حتى صارت عُزلةً خاليةً من العُزلةِ، لم ولن تتكرر.
وفي خضمّ كلّ تلك التّفاصيل، مازلت أواصل العمل عبر هذا الجهاز، أُلوّحُ للأطفال عبر الشّاشة الّتي خرج صوت أحدهم منها في لحظةٍ تاريخيّةٍ: “هذا التّعلّمُ لا مشاعرَ فيه!”، ولعن الكورونا المستجدّة وغاب في لجّة الألياف الضّوئيّة آخذًا قلبي معه، تاركًا جسدي الّذي تُفزعه صافراتُ الإنذارِ مُنكمشًا على نفسه.
ويسألونني، بوصفيَ مثقفةً، عمّا فعلته يدُ الأزمةِ في تلافيفِ دماغي، فأُفكّرُ في الأدمغة الكثيرة الّتي كانت تنتشر في الطّرق والسّاحات، في المعامل والشوارع، في المقاهي والحانات، قُرب أفواه المدافع، وأطراف المخيمات، وأَعود مُهرولة إلى السّؤال واقترح أن تُحذف مقدّمته، فهل يقتصر التغيير الّذي يأتي على يد أحداث راهنة على المثقّفين؟ وقد أَسألُ: هل يحتاج “المثقّف العربي” دومًا إلى أزمةٍ وأحداثٍ راهنةٍ كي يتغيّرَ ويغيّرَ مفاهيمه تجاه الحياة والعصر والصّراعات؟ ولعلّني أتمادى لأسأل سؤالًا أخيرًا: من هو “المثقّف”؟
أجد نفسي دومًا بعيدةً عن هذا الوصف: “المثقّف”؛ ما زلت أحفر في هذا الكون بحثًا عن وصف ما لمن يعرفون كيف يكون الغَوص في البركان.
أزماتٌ كثيرةٌ عصفت في البلاد الشّاسعة منذ بدء التّاريخ شكّلت وعي الإنسان على مرّ العصور. وأقول الإنسان؛ فلا يمكن اختصار مجمل الإنسانية بالمثقّفين الّذين يقفون على المنصّات ويرشقون مريديهم برذاذ لُعابهم الّذي يسيلُ حيثُ المَصلحة.
أمّا أنا؛ الّتي هي جزء من هذه الإنسانيّة، فلم تتغيّر مفاهيمي؛ بل تطوّر ونما فهم ما يدور في الحلبات، أُراقبُ التّراكمَ الكمّيّ والنّوعيّ في الشّوارع والحارات المسحوقة والأسواق المكتظّة بالمفزوعين، أُتابعُ الدّخانَ الصّاعد من الجُثث المحروقة، والغُبارَ المنبعث من القبور المردومة للتوّ، عمليّاتِ السّطوِ على المعدّات الطبيّة، وعمليّات فرض السّيطرة من جماعات تأخذ شكل العصابة وتلعب دور السّلطة، وأُشفق على السّواعد الّتي كبّلتها الأبوابُ الموصدة؛ تلك الأبوابُ الّتي ازداد عددها واحدًا: بابُ الوباء.
النّزاع والصّراع على الثّروات بكلّ أشكالها بات في أوجه، التبدّلات والتّحوّلات في الاقتصاد العالميّ، احتجاجات من النّوافذ في مكان ما، وتسليم للأمر الواقع في آخر.
كورونا المستجدّة كشفت عن الكثير من الثّغرات والجرائم والحقائق في العالم، والّتي ماعادت سرعة القطار الّذي نستقله رغمًا عنا قادرة على اخفائها. ثَمّةَ تبدّلات كثيرة في الانتظار، والانتظار هنا لا يحتمل سوى القَفزة.
ويكتبون. غيمةٌ كثيفةٌ تتلبد في الّليل لتتبدد في الصّباح، فمتى ستمطر هذه السّحابة التي تهجم في مطلع كلّ أزمة؟ فهل نكتب لنوثّق الّلحظة ونواكب الموضة؟ أم نكتب بوعي حقيقي حول ما أحدثته الأزمات بكلّ أشكالها في البشريّة من تبدّل وتغيّر أو حتى نموّ في الوعي الذّاتيّ والجمعيّ؟
إذا لم تكن الكتابة حول الأزمة كتابةً مُفكِّرةً متفحّصةً ناقدةً محلّلةً مستشرفةً المستقبل مساهمةً في إحداث التغيير؛ فهي وعدمها واحد بكلّ تأكيد.
قد تدفعني الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة الجديدة الشّكل لا المضمون التي أحدثتها كورونا المستجدّة نحو الكتابة، أما الكورونا بحدّ ذاتها؛ فقد دفعتني نحو نفسي فقط.
وهذا ما حصل بالفعل، فمنذ إعلان الحظرِ الإجباريّ الذي تماشى مع قرارٍ ذاتيّ بأخذ الاحتياطات الصّحيّة الّلازمة وأهمّها التباعد الجسديّ الّذي يؤدّي إلى نوع من التباعد الاجتماعيّ، عرفت أن الفرصة للالتفات إلى النّفس باتت مضاعفةً وخياليّةً وتاريخيّةً، وضعت نقاطًا كثيرة على حروف كانت صمّاء، أحدها وأهمّها ما يتوجّب قراءته وما يتوجّب وضعه على الرّفّ. ففي قرار أعتبره الأهمّ فيما يخصّ الأنواع الأدبيّة الّتي نقرؤها اليوم، التفتّ بوعيٍ نحو قراءة القصّة في ابتعاد جزئي عن الرّواية، ووخصّصت وقتًا لقراءة كتب ومقالات في الفكر والاقتصاد. وانتفضت ضدّ ما يطرحه السّوق بشكل بات يقلب المعدة، فلن أرضخ لسوق الأدب، ولن أقرأ كتابًا يصنف ضمن تصنيفات أخجل من كتابتها: “الأكثر مبيعًا”، “الحائز على جائزة…” وغيرها.
بين يديّ الآن رواية “وليمةٌ لأعشابِ البحر”.
وقد يمتدّ الحديث عن الأدب قليلًا؛ فمنذ بدء الأزمة، سارع “الأدباء” للكتابة حولها في سباق نحو عرش: “أدب الكورونا”، قد تكون كورونا المستجدّة فرصةً للكاتب الّذي يمسك عدسةً ويدور في حلقةٍ إهليجية الشكل باحثًا عن موضوع للكتابة، ذاك الذي لا يملك عينًا ناقدة، ولا يملك حتّى أن يرى المطمور. إلّا أنّها مِساحةٌ مستجدّةٌ يجب الكتابة عنها وفيها؛ كي لا تبقى مفرغة من المضمون؛ المضمون الذي يُحدث نقلة، أو بالأحرى صدمة/صفعة.
بعيدًا عن الأدب، وعودةً إلى الوبَاء/الخَوف/الجُوع/العُزلة، فقد هَجم الوباء بينما كان الشّتاء يلملم أمتعته، انسلخت الأجسادُ المتلاصقةُ في سراديب المدينة وحُشرت مع الصّحون الفارغة؛ فأرى المدينةَ الخاليةَ مستلقيةً على ظهرها تلهو في الفراغ الذي خلّفناه، حتى أنّني رأيتها تُلوّح طاردةً عنها أطيافنا كمن يطرد ذبابًا ثقيل الدّم، ثم تَسحبُ نفسًا عميقًا؛ فينقطعُ نفسي، تزفره؛ فأطيرُ لأرتطم في السقف، ترتاحُ؛ فأعودُ حطامًا على الأريكة الّتي حفر الجسد قالبًا ضيقًا له فيها.
مدينةٌ برائحة “الديتول” التي كان يمقتها أبي، فقد أفصح في آخر عهده قائلًا: “الديتولُ يعقّم المعتقلات فقط”؛ فمتى صارت المدينةُ معتقلًا؟ وكيف صار الوباءُ سجّانًا؟ أيةُ عُزلةٍ تلك التي أودت بنا في غَياهب المهاجع؛ تاركين الحشائشَ الربيعيةَ تأكلُها الشّمس؟