هرمس: يوميات الوباء

Julian Schnabel, “Formal Painting and His Dog”, 1974. Source: julianschnabel.com

لقد مضت حوالي الخمسة أسابيع على بداية هذا المكان الغريب الذي وُضِعَ فيه العالم، وإن وضعنا بالحسبان الركود الاجتماعي السابق لهذه الأسابيع صار مجموع أيام الحظر النفسي والاجتماعي هنا في الولايات المتحدة إلى شهر ونصف الشهر. أمشي يوميا في فترة الصباح إلى بحيرة مشجن، منفقا التبغ والقنب والخمر، أنا عاطل عن العمل، وهنا في شكاجو وتحديدا في ضاحيتها الشمالية آفنستن، مسألة البطالة وضع نادر، وفي أمة كبيرة ومتقدمة مثل الأمة الأميركية، فإن قيمة العمل العام والخاص قيمة كبيرة، الاجتماعيون في أميركا اليوم يرثون لانسحاب برني سندرز من الانتخابات أمام دونلد ترمب…… وأنا أرثى لانسحاب المال من حياتي، وفي عطلة كهذه، أقفلت فيها الأسواق والمكاتب الحكومية، لا بد أن يرسب المرء في قاع الخذلان، أنا لستُ رجلَ أعمالٍ لكنني أراهن بكل الدولارات الستة التي في جيبي على أن رجال الأعمال يولولون في بيوتهم، بعد إغلاق أعمالهم، أما عملي أنا، فكوني طبيب آبق عن المهنة، وكاتبٌ من جيلٍ مهترئ الأخلاق، وحداد مبتدئ، فهو – عملي – لم يوفَ حقه. أصلي الفجر وأسمع الموسيقا الصباحية بينما تبدأ حياة الحظر الصحي، ما معنى هذا؟ أن يبقى الناس في بيوتهم هو ضرب خيال، فآفنستن وشوارعها مكتظة بالمتنزهين والماضين وسط الخضرة النابتة في نيسان، أما العربي الذي هو أنا فيبحث بين الأرصفة والنجيل عن زهورٍ طبيعية النمو، لم تغرسها يد، بل ستكون الطيور هي مصدر تلك البذور المستوردة، النراجس والبنفسجات، وبعض الزهور لم أتعرف عليها. المرأة، امرأتي تبدو سعيدة في الحظر، وتتمنى أن يطول، وهذا أمر طبيعي وبالنسبة لمعلمة مدرسة مثلها فإن العطلة هذه مصدر للارتياح. أما بالنسبة لعاطل عن العمل مثلي فإن انغلاق المكتبات والمقاهي والأسواق يبدو مضنيا، إلا أنني أحب أن أسمي ذهابي للأسواق في حالة التبطل بشراء المال، وهو ببساطة أن تشتري الحظ، فربما يأتي الحظ بالمال. مثلا، اشتريت مباشرة قبل هذا الوباء، وباء الكورونا الشهير الذي ضرب العالم في نهاية الشتاء في عام ألفين وعشرين، اشتريت أربعة حجارة نرد، أحمر وأزرق وأخضر وأزرق آخر. الأحمر والأزرق الأول بعشرة وجوه، والأخضر بثمانية وجوه، والأزرق الثاني بستة وجوه. إن المشي بزهرٍ، في يدك ودحرجته على حجارة الرصيف، والبحث عمن يلعب معك النرد، أمر مسلٍ عموما. لكن الوباء القيامي هذا ضرب العالم بعد حصولي على نرد بعدة أيام، وهو وباء أنفلونزا ظهر كالعادة في الصين الشعبية وانطلق قاتلا آلاف البشر وهذه هي الأرقام اليوم. لكنني لست مؤمنا به، لأن الجميع مؤمن بالوباء، ومؤمن بالحظر، ورغما من كون اتقاء العدوى أمر متعارف عليه طبيا، ومنصوص عليه في مراجع الصحة العامة التي درستها في مصر، إلا إن رجلا ثوري الأفكار مثلي لن يؤمن بوجوب حظر الحياة. وحين أفكر، في بنيتي وصحتي التي لا بد وقد رفضت الإصابة بالوباء، أقول لماذا لا يخوض المجتمع غمار تجربة القصف بالوباء. من المدهش أن نجم الطاعون كان قد ظهر في سماء الأرض- مذنب هالي، في الصيف قبل الماضي، هذا المذنب ذو الذيلين، وقتها ولجهلي بتقويم السماء ظننته نيزكا سيضرب الكوكب. أما الطريقة التي أفكر بها في انشغالي بتبطلي وهذه العطلة التي صرت مضطرا فيها لإرضاء الجميع، بسوى نفسي، فهي ببساطة أن العالم التي تعتنق الوباء هي عالمٌ غبية. وانظر مثلا لكم الغثيان الذي أشعر به، من اعتناق الناس لكمامة الوجه هذه، أو ما سمي بشكل مثير للعطف بالمسافة الاجتماعية، وهنا في أميركا قد اتخذ الجميع مسافة اجتماعية من الجميع. والمسافة الاجتماعية هي أن تبتعد عن جارك في الطريق ستة أقدام على الأقل، وهكذا لم يعد لأحدٍ أن يصافح أحدا، والمدهش، وهو ما لاحظته قبل هذه الأحداث، أن السطحية الشعبية الأميركية في تناول الأخبار العمومية وأحداث الإعلام والسياسة، تتخذ دوما مجرًى من التسلق الاجتماعي والثقافي والسياسي والشعبي والاقتصادي، وبكل بساطة صارت عادات الحظر، مدعاة لادعاء الفخر الاجتماعي والصحي، وهو أمر مثير للتقزز بالنسبة لي، ومن لا يضع كمامة الوباء، فهو شخص إما فقير أو متهور، وارتباط الفقر والتدني الاجتماعي بتجاهل معايير الصحة العامة هو أمر مضحك، هذا وإما أن تكون حالة اللا مبالاة التي أصابتني بحيال تلك المعايير نابعة من عدم تصديقي لهول هذا الوباء، وكلما أتت فرصة للتفكير بهذا أتذكر ما قرأته عن أنفلونزا اليابان والصين منذ مئة عام تقريبا وهي التي قضت على سبعة عشر مليون إنسان. ومع تاريخي المرضي في باب أمراض الرئة والزكام، فإنني أشعر أن مناعتي ستتصدى لكافة أنواع الأنفلونزا بشكل فعال. أما الوجوه المكممة في الطريق، وظهور الشباب بكمامات ملونة ومرسمة، فهو أمر غريب.