
Vincent Van Gogh, “Shoes”, 1886. Source: gallery30.ru
لا أذكر من يومي الأول في ورشة الأسطى خليل، سوى سؤالي له: “ما هو أجمل حذاء فصّلته يا أسطى؟” لا أعرف لماذا انزلق مني سؤال كهذا؛ ربما بسبب رؤيتي طيلة اليوم لتشكيلات محدودة تتسم نوعاً ما بالقبح، من جلود الفُندي (وجه الحذاء) التي يطبِّعها الصنايعية بمسامير فوق القوالب الخشبية، قبل التعريش واللصق على النعال باستخدام الكُلّة الحمراء.
كنا في آخر الليل، الصنايعية غادروا، والشارع قبالنا مظلم بلا قدم، والرائحة الصافية لجلود الحيوانات تضرب أنفي بعد زوال غبار النهار وعرقه، فيما أتنقل مقرفصاً فوق بلاطات منقورة باهتة؛ مهزومة بفعل الزمن والأحذية، أفرز مخلفات اليوم، أنتقي ما يصلح لإعادة استخدامه، وأكوّم التالف في جوال من خيش.
كان الأسطى جالساً على كرسي خشبي، عند عتبة الدكان، تحت كلوب يشع بضوء خفيف أصفر، يتزاحم حوله ناموس وعثث، يرتشف من كوب شاي تتصاعد أبخرته، يستقر بين أصابعه المعبَّأة بالصبغة وبكدمات سوداء في أظافره الشائهة، التي تعدني بمستقبل مماثل حال الترقي في الصنعة.
بدت عليه المفاجأة لوهلة، قبل أن يسرح ببصره في الشارع، يومئ برأسه ويبتسم فيما يشبه رضى، كسمت من يستعيد ذكريات محببة، ليس انطلاقاً من كونها ذكريات عذبة فعلاً، بل تحت تأثير حنين طاريء للفالت من عمره.
في تؤدة خلع نظارته الطبية، طواها في حجره داخل مريلته الكحلية. كانت عيناه الثعلبيتان مصوبتين تجاه ساقيه المفرودتين، مشدوهتين وتكتسيان ببراءة، لن تتبدى ثانية طيلة سنوات عملي في ورشته، رغم وشيجة السر المنعقدة بيننا ليلتئذٍ.
“لم أصنع في حياتي غير حذاء جميل واحد. وربما كان أجمل حذاء في العالم”، هكذا همس، كأنما يحدِّث نفسَه، قبل أن يردف بحسٍّ أعلى كأنما يستفيق وهو يلتفت تجاهي: “كنتُ تقريباً في مثل سنك، لكني خضت الصنعة مبكرّاً، جدّاً، بحكم الوراثة. أبي كان معلما كبيرا لكن بلا دكان، جزمجي سريح، يركب البغلة وأركب معه، عدتنا بسيطة: خيط ومخرز وجلود وقالب، وندخل من قرية إلى قرية، لكل قرية يوم معلوم، ولنا فيها مكان محفوظ”. مصمص رشفة الشاي ثم مدّ ذراعه ليضع الكوب الفارغ فيما خلف عضادة المدخل. “كانت الدنيا تسير براحتها وشغل الأرياف يختلف. أغلب أيامنا ينقضي في رتق خفاف وأحذية ذائبة التعب، بقروش عجاف، لكن كذلك لا تخلو المسألة من طلبات لتفصيل الجديد في المواسم والأعياد؛ حينئذ نأخذ المقاس والمواصفات بهمّة مع عربون بسيط، ونسلمه بعد أسبوعين أو ثلاثة حسب التساهيل، عند دخولنا التالي للبلدة”.
كنتُ أتسحب هاملاً واجب الفرز تحت تأثير الحكاية، أقعي قباله فوق العتبة وظهري مستند إلى الباب الخشبي، ويضرب أعضائي المخدلة تيارٌ مُسكر خفيف. “لكن في مرة وبعيداً عن موسم ولا في وقت عيد، جاءتنا عجوز حافية، بثوب مشغول بخيوط ألوان وفي أذنيها قرط ذهبي محترم. تسحب في يدها صبية يمكن في نهاية عقدها الثاني، وطلبت حذاءً للبنت. بدا لي أن العجوز غجرية تعيش على أطراف البلدة، ويمكن لذلك كانت غير مألوفة لنا، وانحنيت لقياس القدم”. كانت راحتاه تلتصقان في صدغيه. “كنتُ آخذ المقاس وأقول يا ربي! ليس في الدنيا قدم كهذه، أو للدقة، ليس في دنياي قدم كهذه: كعب متورد كقطعة فراولة، دقة بيض الحمام، أصابع في غواية حبّ العنب، قوس موزون على الشعرة، وجلد نضر لرضيع كأنه غير ممتحن لا بمعاينة ولا بلمسة من قبل”.
كان الأسطى ينهج. “قلتُ في نفسي، وأنا على فكرة تعودت أن أقول لنفسي منذ زمن، منذ ترحالي مع أبي فوق البغلة، بغرض استهلاك الوقت وتناسي حرارة الشمس أو زخات المطر حسب مزاج الطقس. قلت: هذه القدم تستحق أجمل حذاء في العالم. وضربتني رغبة في انقضاء عمري هنا وأنا آخذ المقاس. يمكن غبت عن الوعي؛ فقدت الإحساس بأبي وبالعجوز وبالبنت نفسها وتنصلت من العالم، ورحت وحدي في غيبة عالم آخر من آيتين بديعتين متوهتين، وروحي ملتصقة فيهما بكُلّة غير مرئية ولا قابلة للفكّ، مثل متوسل موقن أمام ضريح”. كانت عيناه تتسعان وتبرقان في انجذاب وأنفاسه تتقطع لدرجة أني شعرت بالخوف وندمت على سؤالي. “نعم، نعم، روحي التصقت والله! وحتى بعدما ردني أبي إلى عالمه – أو هكذا حسب – منتزعاً إياي من كتفي ليستكمل هو القياس، كان كليّ ما زال هناك. وقلت هذه قدم أعجوبة وبيان بالجمال لا تتبدى سوى لقريب من الدرب، وأخذني الزهو وأنا أشعر أو أتعشم في عناية فوقية وأكملت قائلاً: مثلي، ثم تناوبني الخوف من مغبة الزهو، وأردت منه ثبات النعمة باستعطافه وتذللي، وإن كان ظاهرياً، فأكلمت قائلاً: وأنا الغلبان. وقلتُ أصنع للقدم قطعة من روح روحي أينما راحت تروح. وقلتُ إحسان بإحسان، وحسبتُ فيها إشارة؛ فمن سلّط عليّ نعمةَ معاينة صنعته أراد إدخالي كترس في ماكينة رعاية جماله. وانغمستُ أتصارع مع مهاراتي المحدودة وأحاول مرة تلو مرة، ساعات عمل مستمر، لا نوم ولا أكل ولا حتى كلام مع نفسي، هاذٍ بمهمتي وفقط، أريد تفصيل أجمل حذاء في العالم».
عبّ من الهواء بعمق وتطلع إلى العتمة المسترخية فوق أسطح البيوت والممتدة حتى حدود مئذنة كبيرة تنبعث بضوء أخضر من البعيد. كانت عين الأسطى تتلألأ وفي خلجاته تعب. “كان أجمل حذاء في العالم، قال لي أبي، وقال لي كل من رآه قبل تسليمه، وقال لي السحاب والهواء وظهر البغلة، وقال لي الجدار الذي نفترش تحت ظله في بلدة البنت. لكن البنت نفسها لم تقل لي شيئاً، تسلمته وابتسمت في بلاهة كما كانت ستبتسم مع أي حذاء جديد، طرحته سريعاً وأدخلت فيه قدميها، ثم أعطتنا العجوزُ بقيةَ الحساب، قبل أن تلتفتا وتدوسان به كومة روث كبيرة ويتلطخ مثل كل الأحذية”.
زفر الأسطى خليل طويلاً وعيناه تطقّان وحشية، فيما يتلفت متروياً في العتمة، وكأن ثمة إدراك مباغت بكائنات غير مرئية. ثم لبرهة فغر فاه في وضعية تمثال مغلوب وذاهل. همس في حنق: “كذب؛ ليس في الدنيا أيّة إشارة”.
Like this:
Like Loading...
тнє ѕυℓтαη’ѕ ѕєαℓ. Cairo's coolest cosmopolitan hotel.