أحمد الفخراني: معطف المعجزات

Isidor Kaufmannc, “Man With Fur Hat”, 1910. Source: Wikipedia

على مشجب رأسه علق أملا، لكن في قرارة نفسه كان يعلم أنه أمل ضعيف وباهت، وأن ما يحتاجه حقا هو معجزة.
رافقه ذلك الشعور طيلة الطريق إلى العزاء، لكن صوت وردة، المنبعث رائقا من كاسيت سيارة الأجرة مكيفة الهواء، أنعش مزاجه وألقى في روعه أن كل شيء جيد، كل شيء قابل للحدوث، وأن الكارثة التي على وشك الوقوع، جحيم الخواء، اليأس، آلاف النسخ المكرورة منه والمحشورة في زحام الأتوبيسات والمترو والشوارع هي أشياء خارج العالم، يحجبها عنه زجاج أسود كثيف.
سرحت أغنية  لولا الملامة يا هوى لولا الملامةفي شرايين دماغه، فدندنها بصوت مرتفع رغم بهجتها التي لا تتناسب مع وجهته.
لم يشارك سائق التاكسي الحديث، لكنه علم عنه الكثير، فهو مثله متيم بوردة التي طالما اعتبرها المؤرخة السرية لحياته، أغانيها تصور آلاف الانفعالات التي يكابدها طيلة اليوم، كالبهجة والحزن والعتاب والخذلان الغائر الذي يثقب الروح، التأسي من غدر الناس، الخسارات التي يكابدها المتمسكون بقيم الإخلاص والوفاء. تلك المشاعر تربكه ما إن يحاول الإمساك بتلابيبها، توجعه عاديتها وتفاهة الأسباب التي نشأت من أجلها، لكن ما أن يستمع إلى صاحبة الصوت الشهواني المنكسر كعزيز قوم ذل، المنطلق كملكة مخلوعة اكتشفت السعادة في الحياة كشخص عادي، حتى تكتسب انفعالاته المعنى، الشيء الشاعري المفقود، فتستعيد ذاته شيئا من الاحترام والتوازن.
طالما كره تطبيق أوبر وسائقيه وتردد كثيرا قبل أن يستعمله تلك الليلة، بسبب نبرة التباهي الفارغ التي يرددها المتغطرسون في محل عمله وهم يخوضون معركة استخدام التطبيق ضد التاكسي الأبيض، نبرة مصحوبة باحتقار، تشبه الطريقة التي يعاملونه بها. هو الذي أفنى حياته من أجل تلك المؤسسة، بناها حجرا حجرا مع صاحبها إبراهيم الزعفراني منذ أن كانت دكانا بائسا في الفجالة لا مبنى من ثلاثين طابقا. الآن يأتون في غفلة من الزمان ليتجاوزوه في كل ترقية ويهددونه بالطرد.
تخطط ابنة الزعفراني منذ زمن لاستبدال الحرس القديم بآخرين يدعون أنهم الأكثر كفاءة وموهبة، لم يمنعها سوى وجود الحاج، وقد مات.
كان يتوق ليرى النظرة المندهشة على أوجه المتغطرسين عندما يهبط من سيارة مرسيدس حديثة الطراز، بعدها سيخطو إلى أقارب الحاج  اللذين يقفون أمام الصوان لتلقي العزاء، سيباغتهم بوجه مكلوم، معصور بحزن حقيقي يميزه عن مئات المتملقين، فيعجبون من أن حزنا أصيلا كهذا ومنزها عن الغرض يشرق بين الوجوه المعتمة بالرياء، ثم سرعان ما يتوقف العجب لتعتريهم رعشة دافئة، فصاحب الوجه ليس شخصا عاديا، بل واحدا منهم، سمير الرحيمي، الذي دخل بيوتهم فردا فردا، شاركهم الطعام على الموائد والصعلكة في الشوارع، قاسمهم سماجة المراهقة ورهافة الأحلام الأولى.
سيتذكرون أبو سمرة، المتحول ذي الألف وجه، أخ وصديق ومرمطون، مرسال غرام، قواد وديلر مخدرات، الولد الذي استعملته أمهاتهم كصبي مشاوير وصنايعي يدخل البيوت لأن الآباء ظنوه مخصيا كعبد، كم أنبوبة بوتاجاز رفعها فوق كتفه، كم طابقا صعد ليصلح أريكة أو شباكا أو حنفية أو بالوعة مسدودة، كم طابقا هبط مكسور الخاطر حينا أو شبعانا في أحيان أخرى بهذا الشعور النبيل أنه يرد الدين لولي نعمته، مجبور بالأمل الذي يلوح من بعيد أن يصير واحدا من تلك العائلة، التي أحبها حقا.
سيتذكرون، سمير الرحيمي، الحكيم إذا ما استغفلتهم الدنيا واستغلقت عليهم كما تفعل مع الأفندية، المهرج، مُلقي النكات البارع ومتلقي النكات البارع، حتى أنه كان يسمح لهم أن يعبروا الخط الفاصل بين كونه يضحكهم وبين كونه مُسخة يسخرون منها دون حساب لغضب أو مقاومة، بل لا يتركهم إلا بعد أن يصفو مزاجهم ويصير ودودا كنسيم الصيف.
سيتذكرون، وعاء القمامة الذي طالما ألقوا فيه المآسي الجسام والتافهة والأسرار والفضائح والحكايات والهراء، حتى صار قعر قلبه داكنا من كثرة ما استقبل وكتم، دون أن يفكروا ولو لمرة أن يسألوه عن حاله.
ربما يشككون في ذاكرتهم للحظة، سيربكهم أثر الزمن على وجهه، وكيف مصه ونخره وعجنه وأعاد تشكيله، ليحوله إلى دمية من رماد وريش، إلى شخص آخر غير الذي خلفوه ورائهم، بأحزان أخرى، تافهة ورهيبة.
لكن نظرة واحدة إلى عينيه المبللتين بالأشواق والأسى ستخبرهم:
بلى، أنا سمير، سمير القديم الذي كان الحاج يأتمنه على عمله، ويعتبره ساعده الأيمن في محل الفجالة، بل كاد أن يزوجه ابنته لولا الحظ أو القدر أو إنفتكم من مصاهرة رجل المعجزات الفقير، لولا تراجع كريمة المباغت والحاسم. لم تكلف نفسها حتى عناء إبداء الأسباب، أهانني ذلك وحيرني أكثر من الرفض، لكن لم تعد الأسباب تعنيني، ما فات مات، دون أن يبكيه أحد، دون جلبة أو عزاء أو صوان في مسجد كبير.
حينها، سيتراجعون إلى الوراء في إكبار خطوة واحدة وهمية ثم تتغرغر أعينهم بالدموع قبل أن تفيض جارفة  مخلوطة بالحنين وشيء من الخجل، سيأخذونه بين أحضانهم، يشدون على يديه في حرارة، بطريقة لن يفهمها إلا أفراد عائلة يتشاركون نفس المصاب، ثم يفسحون له مكانا كي يتلقى معهم العزاء.
تلك اللحظة الكبرى، البسيطة والمدهشة، هي كل ما يطلبه من القدر، هدية يحتاجها حقا، دافئة وممكنة الحدوث، وسيحسبها ممتنا كمعجزة قد تفتح ثقبا في جوف الحوت الذي ابتلعه في ظلماته، ترمم صدعا في كبريائه، عندما يرى المتغطرسون ومديره الشاب أحمد المالكي مكانته الحقيقية لدى العائلة.
وقد يحدث ما هو أكثر، فترى كريمة المعطف الثقيل الذي يرتديه رغم حرارة الطقس، فتسأله عن السبب فينطق بإجابته المثالية: لأنه من رائحة المرحوم، ستتذكر هذا المعطف دون شك، فهي لن تنس أبدا شيئا يخص ممتلكات العائلة، فبخلها أسطوري، بخل تؤسس به القلاع.
ستكون الإجابة كافية لتنبيهها إلى أن صفاته الأصيلة لم تتبدل: الوفاء، حفظ الأمانة، وسيخفي عنها بالطبع أنه كان قد نسي بشأن وجود المعطف أصلا، لولا أنه عثر عليه صدفة أثناء تفتيشه في أغراض قديمة.
لن تفلته، فتلك الصفات نادرة الوجود في عالم يرفع المنافقين درجات ويحط بالخيرين أسفل سافلين.
لا يذكر أبدا أنه ارتكب جرما واحدا تجاه أحد، لم يفوت فرصة يشغل فيها أوقات ملاك الثواب إلا وانتهزها، هو بالقطع له أخطاؤه  التي لا تضر أحدا، كالتسري بالنساء على هاتفه في عتمة الليل، لكن حتى في شيء كهذا تقوده نية صالحة، فلو كف عن ارتكاب الأخطاء لانتهت أهمية ملاك العقاب، وربما طرد من وظيفته وهو ما لا يقبله، فطالما شعر تجاه عمل الملاكين الدؤوب بشيء من الاحترام والتقدير، كما أنه في حاجة إلى التنفيس وإلا سيخر صريعا من الضغوط الرهيبة التي يتطلبها أن تظل خيرا، أن تُهزم في كل خطوة أمام الشر وأن تكف يدك عن مواجهته.
أحيانا لا يتحمل، فيتمنى لو تم استبدال ملاكي الثواب والعقاب بجوقة موسيقيين ترافق خطوات الإنسان كظل يخفف من هجير الدنيا القاسي. لا يجب أن تتوقف تلك الجوقة ولو لحظة واحدة عن العزف، يكفي أحيانا عواد واحد، شيطاني وبسيط كبليغ حمدي، لو حدث هذا ربما ارتفع عنا نير ثقيل، وشعر كل واحد منا أن وجوده ذاته هو سبب كاف للاحتفاء وإقامة حفل دائم، شيء أكبر من النتائج الكارثية لخياراتنا وأفعالنا، من عجلة الزمن، من الصواب والخطأ، الربح والخسارة، لكنه لم يعرف إلى من يتقدم باقتراحه، وشك أن أحد الملاكين قد سجله، فهو يعلم ألاعيب الموظفين عندما يتهددهم خطر ما.
وصل التاكسي إلى مسجد عمر مكرم، وما أن خرج من السيارة، حتى باغته قلق غليظ وعمودي يتصاعد من أمعائه إلى حلقومه، يكاد أن ينزع روحه، فجسده يُشوى داخل المعطف الثقيل، لم ينتبه للأمر وهو بالسيارة المكيفة، خارج المعطف عالم آخر، طقسه معتدل يعبره نسيم هواء صيفي ولا أثر فيه للصهد والعرق الغزير.
كيف ارتكب تلك الحماقة؟
عندما سمع خبر وفاة الزعفراني، وأدرك أن الكارثة قد حلت وأن لا شيء سيمنع كريمة عن طرده، هرول إلى منزله، لم يضع لقمة في فمه، لم يشرب الشاي، لم يأخذ ساعة قيلولة، جلس أمام المرآة لساعات طويلة، كأنه يستنطقها عن حل، لكن لا شيء سوى صورته البائسة، وجهه المجدور بالذعر، كرشه المتدلي كرأس ضخمة  لرجل مشنوق، في النهاية، ارتدى البذلة السوداء التي يستعملها في كل المناسبات كي يلحق بالعزاء.
عند باب الشقة، خبط رأسه خاطرا مضيئا كبرق، خطرا كشرارة تنذر بحريق، أن يلقي نظرة أخيرة على زيه، عله يستشعر تلك الهيبة التي تكسو بها البذلات أصحابها، لعلها تستشري في روحه وتجبر خاطرها المهان، لكن المرآة ألقت تجاهه نظرة متعجرفة، أبرزت له تهالك البذلة وطرازها القديم والعجوز وعدم تناسقها مع ترهل جسده، ولم يكن يملك واحدة أفضل، لكنها قدمت اقتراحا، أن يغطى فضيحته بالمعطف الصوفي الثقيل، فبدا أنيقا جدا، أنيقا وأحمق يمتثل لأمر مرآة لا تعرف شيئا عن الطقس، كاد أن يخلعها، لكن الاقتراح حمل شيئا من الوجاهة، عندما تذكر أنه هدية قديمة من الحاج، معطفه الأثير، تنازل له عنه بعد أن انتقل لحكم مؤسسة القلعة، كشيء فائض عن حاجته، مثله تماما.
عندما تنتبه كريمة لوفائه بتحويل نفسه إلى أحمق، حينها، ستعرف أنه الشخص الذي تحتاجه بالضبط، لكي تحاصر ذلك الشيء السام والمخيف، الذي أحاطت به نفسها بعد أن تولى إدارة القلعة، متغطرسون لم يخلوا من طموح وعجرفة واحتقار لكل شيء حتى هي، ستعرف أنه الرجل المناسب كشوكة في مؤخراتهم المطمئنة، سيدوخون حول أنفسهم، قبل أن يدركوا أين بالضبط تنتهي حدود قوته التي سيفاجيء بها الجميع، بقدرة لم تؤت لأمثالهم على الصبر والتكوم والانثناء والتخفي إذا ما أراد كشخص غير ملحوظ، ولن يترك أبدا زملائه من الموظفين القدامي، سيظنه الجميع خادم كريمة، بينما هو يضحي كبطل لنصب العدل.
كان كل شيء منطقيا ومرتبا في ذهنه حتى وصل إلى أقارب الزعفراني. لم يأخذوه بالأحضان كما ظن، بل أنكروه رغم تعرفهم عليه، وشعر بنظراتهم المتعجبة من ارتداء المعطف الثقيل، تضاعف ارتباكه وهو يصافح المحامي الشهير، ابن شقيقة الحاج، وبدلا من أن يقول: البقاء لله، تلفظ بآخر عبارة ممكنة: ما أجمل الطقس.
ودبعدهالوعضلسانه،لوتبخركآماله.
انسحب مسرعا إلى داخل المسجد، اختار كرسيا بعيدا، نظر مجددا إلى الخارج حيث يقف متلقو العزاء، ركز انتباهه على الرجل الذي يقف بينهم، في المكان عينه الذي تمناه لنفسه، يسري الحلو، مستشار رئيس مجلس الإدارة، الذي عين في غفلة من الزمان، ليتوغل نفوذه كسرطان، كان يصافح المعزين كواحد من العائلة، فكر في الشائعات التي طالما رفض تصديقها أنه على علاقة غرامية بكريمة، التي طلقت قبل أعوام، وأنهما كانا ينتظران، كما يردد الخبثاء وفاة الأب لاعلان زواجهما. كان على يقين من شيء واحد، أن يسري هو المهندس الحقيقي لتهميش الموظفين القدامي، لصالح من عينهم بنفسه.
حاول سمير استدعاء الدموع، لكن صفير أغنيةلولا الملامةكان ينخر رأسه كطنين ذبابة، لعن سائق التاكسي، ووردة والمرآة.
أحقا لم يحزن على ولي نعمته؟ أم أن تلك طريقة روحه العجيبة في الحزن؟ تأمل البكاؤون من الحرس القديم واختلط عليه الانكار بالحسد، غدا تبكون أكثر وأكثر، فقد انزاح العائق الأخير عن طردكم، ولا شيء سيوقف الطوفان.
فكر في المبنى الشاهق والمهيب ونوافذه الزجاجية المعتمة التي تخفي غرفا متساوية كقبور ذات شهية مفتوحة. بني على عجل قبل عشرين عاما كنزوة، بدا في سنواته الأولى كنتوء في جسد المدينة سرعان ما اعتاده المارة وتكيفت الطرق والمسارات حوله، ودبت الحياة في محيطه، فانتصبت حوله المقاهي وعربات الفول وبرك الصرف، ميكروباصات، بائعي الجرائد، أكشاك السجائر والقطط والكلاب الضالة، أشجار هزيلة وممصوصة الدم ممسمرة عنوة فوق أرصفة تتكوم بها أكياس القمامة ويحف حولها الذباب والبعوض، ثم صعدت من حوله المباني والأبراج التجارية والمولات والمحال والمطاعم بسرعة البرق، لتتحول الأرض الفضاء في مدينة نصر، إلى كابوس حي.
لم يتغير شيء في مبنى مؤسسة القلعة منذ قدوم الموظفين الجدد، ربما أصبح يوحي أن بركانا يغلي داخله، خلية نحل دؤوب، وأن شيئا شديد الخطورة يجري فيه، لكن لا شىء سوى العفونة والهشاشة. وهو الأمر الذي يعمل الجميع على إخفائه، بادعاء الحركة، بالشراسة والعنف وتضخيم الصراعات التي تدور كلها حول لا شيء تقريبا، التشبث بأمل تحويل أكثر المعارك تفاهة ورخصا إلى ملاحم لاتنجح إلا في إعادة ترسيم العلاقات والقوى، بناء الخصومات وتوطيد المصالح.
يتذكر الطريقة التي ترقى بها مديره الشاب أحمد المالكي ذو وجه الليمونة المعصورة، عندما استغل الأمر بالتلويح بتلك الحقيقة، والتهديد بفضح أن لا شيء يحدث، وأن المبنى حافل بحمقى جدد محل الحمقى القدامى، وهو الأمر الذي جعله مرهوب الجانب من يسري الحلو، فبذل كل سعي لدي كريمة، لترقيته إلى رئيس قسم الحسابات فوق سمير، أكبر موظفي القسم سنا، ليستمر الايهام بالدوران والتجدد داخل المبنى، كأنها طريقة سحرية قد تمنع انهياره.
كثيرا ما تمنى أن ينهار المبنى لتكتشف كريمة وهي تحت الأنقاض أن شخصا واحدا، أكثر شجاعة من كل من حولها، قد يضحي بحياته من أجل انقاذها.
كان الجزء المخصص للسيدات مكشوفا من موقعه في الصوان، رأى كريمة، لا أثر للحزن على وجهها الصلب والجاف كحطب بإمكانه أن يشعل العالم من أجل مكسب ضئيل وتافه. في عينيها الذابلتين كتمر معطوب تطل تلك الإرادة التي طالما حيرته، الطمع الذي لن يشبعه شيء، رغم أنهما مصبوغتين بالبلاهة، السمة الوحيدة المشتركة بينهما، لكن على عكسه، فبقدر ما تحميها تلك البلاهة وتسهل لها التهام أعدائها، فبقدر ما تعريه وتغري الجميع بالتهامه. لم تلمحه ولو مرة، فتحطمت آخر آماله.
لا أفرد جناحي يا هوى، زي اليمامةالأغنية اللعينة مجددا، تغلق شرايين دماغه بما عداها، تبسط ملامح وجهه بالبهجة، بينما يجاهد ليقبضها كرجل مكلوم، هذا التضاد بين البسط والقبض، انتهى إلى وجه متجمد على هيئة حمقاء بليدة، يعرفها جيدا، يشعر بسريانها أسفل جلده، تخذله في كل المواقف الجادة، يشك أحيانا أن تلك الهيئة، هي جوهر روحه متجسدا، لكنه على عكس الآخرين لا يجيد إخفائه.
حاول مجددا، فكر أن يبكي مصيره في القلعة، الكارثة التي يواجهها الآن بمؤخرة عارية، لكنه لم ينجح إلا في تخيل مؤخرة عارية، وكاد أن يبتسم، ما الذي يمنعه من التفاعل مع مصاب جلل كهذا، كيف صار دمية جوفاء من رماد وريش؟
وأطير وأرفرف في الفضا، بدأت قدميه تدبدب بالإيقاع المبهج للأغنية، وحلقه يكاد أن ينفجر ليصدح بها عاليا.
فكر أن يخرج من المسجد ليشرب سيجارة قبل أن تحدث فضيحة، ما أن أشعل الثقاب حتى هبت ريح قوية أطارت سيجارته من فمه، تلفت حوله معتذرا، يكاد يقسم أنه ليس هو من فعلها، لكن النظرات المتوهمة التي استقبلها رفضت أسفه، فطأطىء رأسه خجلا.
تراجع عن فكرة التدخين، لكنه ودون أن يشعر أخرج سيجارة أخرى، عض عليها بأسنانه، حتى كاد أن يقطع فلترها، وأمسك جزء منها بيده، لكنه فشل في إشعال عود الثقاب، واحدا تلو واحد، حتى نفدت الأعواد فازداد ارتباكه، كاد أن يقذفها في الأرض لكنه خشي أن يراه أحد المتغطرسين، تلفت حوله بحثا عن سلة قمامة، لم يجد، فوضع العلبة الفارغة في جيب معطفه الثقيل.
اشتدت قوة الريح، صارت عاصفة ترابية، يتدلى من فمها المفتوح على اتساعه رغبة شهوانية في اقتلاع كل شيء، اخترقت الأعين والأنوف، وأحدثت هرجا وسط الواقفين خارج الصوان، لكن سمير صمد مكانه، ممسمرا، مذهولا، أتلك هي المعجزة؟
دب الفخر في أوصاله كهواء رائق منعش ينفخ فيه الروح من جديد، نظر إلى السماء، شاكرا إياها على هديتها، وترقرق حجر الدموع خلف عينيه، ثم انجرف كسيل، كعويل مكتوم لسنوات، ثم سرعان ما ارتبك، لأن تلك الريح ميزته كالرجل الوحيد المحظوظ الذي يرتدي معطفا في مواجهة الطقس المخيف، فهرول مبتعدا ثم قفز في أول أتوبيس صادفه.