
M. C. Escher, “Relativity”, 1953. Source: .justcolor.net
الحياة، إن كان ثمة بداية فعلية لحياة المدينة، لا تبدأ في طوكيو قبل العاشرة. إلا أن الناس تستيقظ باكرا لتسعى في المدينة. وهو ما يعني أن لدي فسحة من صباح أصرفها في شرب القهوة والقراءة، قبل أن أبدأ جدولي السياحي في طوكيو.
كالمتردد، قضيت الثلاث صباحات الأولى على الطرف القصي من محطة ميترو وقطارات “شينجوكو” في طوكيو، وبالأحرى في مقهى “القنينة الزرقاء”.
اليوم الرابع كان فارغا، والحقيقة أن ذلك لم يكن مجرد خيار مسبق فحسب، بل ضرورة. فالأفكار التي تراودني عن “الصياد غراخوس” لكافكا، كانت تسعى في عقلي، حتى لم تعد هناك شهية في ذلك الصباح لسعي آخر. غراخوس، الصياد الذي مات، ما زال يهيم في سفينة الموت داخل تابوته في بحارنا، وسفينته تنزل أحيانا على موانئ المدن ليلا، وتغادرها صباحا. وفي تلك الليالي النادرة، تتسنى له لحظات من الحياة يخرج فيها من التابوت، لكنه لا يستطيع إلا أن يعود له، حينما يصيح بوق الباخرة قبل الفجر. لا يعلم لماذا لا يموت مطلقا، ولماذا لا يعيش مطلقا، وأنا أيضا لا أعلم. لكنني أود جدا لو أعلم، إن كان تراخوس قد مر بميناء طوكيو البارحة ولم ألتقه. و إلا ماذا كان بوق الباخرة الذي أيقظني فجرا؟
كالخجول، قضيت الثلاث صباحات الأولى على الطرف القصي من شينجوكو، دون أن أفكر في دخول المحطة. إن أسراب البشر التي تلتحم ببعضها فلا تصطدم، ذهابا وإيابا من شينجوكو وفي دهاليزها، في هارمونية ساحرة لا تجيدها إلا أسراب السردين، تجعلك في حالة من الخجل من أن تقذف بتيهك فيها. فمن منا يريد أن يكون الحصاة التي تسقط في أتراس برج ساعة المدينة؟
يبدو أن شينجوكو تستبدل الوجوه!
إنه اليوم الرابع، ولم أر وجها يتكرر قط. مقعدي في “القنينة الزرقاء” لم يتغير، وساعتي اليومية لم تتغير، ولكن وجها واحدا لم يتكرر. إما أن ذاكرتي عاجزة عن استيعاب العدد المهول للوجوه، أو أنني أتأمل ساقية ضخمة تغرف من نهر المدينة، بانتظار قطرة تتكرر!
إن الراعي الذي يحصي أغنامه غدوة وعشيا، لن يستوعب الزمن كبعد محسوس وليس نظرية فيزيائية، حتى يجرب إحصاء البشر في شينجوكو. ففي ٢٠٠٧ ميلادية، تم تقدير ثلاثة ملايين وستمائة ألف عابر كل يوم في شينجوكو، وتم تقدير ٢٠٠ باب ومخرج. يبدو أنه لا معنى لإحصاء البشر والأبواب في شينجوكو بدون اقتناص لحظة زمنية مفتعلة، ففي الوقت الذي تعد فيه آخر رجل وآخر باب، يختفي ويجيء رجال، وتُفتح وتُردم أبواب، وستجد أنك تتجرأ على معرفة لا تليق إلا بالرب.
أواجه معضلة سمكة التونة أمام أسراب السردين، إن ظلت مبهورة برقصة السردين لم تأكل، وإن دفعها النهم لإحصاء أعداد فرائسها ماتت جوعا. الخيار الوحيد المنطقي، أن أقتحم السرب بدلا من الجلوس في الطرف القصي من شينجوكو، فالجوع سيدلني – كما تستدل التونة – إلى حانة سوشي داخل المحطة.
السلم الكهربائي لم ينزل بي إلى جوف شينجوكو فحسب، بل أدخلني إلى مخيلة الرسام (إيشير)*. وأظنني كنت أنزل من قلمه الرصاص إلى عالم لوحته “النسبية”. مواز لي سلالم كهربائية ترتقي بالبشر (أو تنزل، من يعلم فالمشهد نسبي). وأمامي سلالم كهربائية تصعد وتهبط بالبشر. وكان علي أن أخفض رأسي حتى لا يرتطم برأس رجل طويل، يتعامد سلّمه الكهربائي مع سلّمي. وحينما نظرت إلى الأعلى لأتبين موقعي من الدنيا، كان هناك رجل في السقف يمتطي سلما كهربائيا بين الحشود، ينظر إلى الأسفل نحوي بدهشة، ولكنني لم أميز وجهه.
تيه السلالم ضاع بين تيه الطوابق، وأدوار شينجوكو لا بد أن تصيبك بالدوار. ولا يمحو ذاك الشعور بالتيه إلا دهشة المحلات والأكشاك التي لا تنتهي، فكم كنت سعيدا أن أتعثر بذاك الطابور البشري الطويل المنتهي في حانة سوشي في قبو من أقبية شينجوكو. لا أذكر كيف وجدت مقعدي على منضدة حانة السوشي، المقاعد الممتلئة على يميني ويساري لا أستطيع إحصاءها، وفي الطرفين مرآتين تعكس كل منهما مقاعدنا، وأرى انعكاسنا في الجهتين متكررا مثل دمية ماتريوشكا روسية لا تمل التضاؤل. أمامي – على المنضدة – سير صغير متحرك يحمل أطباق السوشي المتنوعة: قطعتين من التونة الدهنية فوق وسادتين من الرز، قطعتين من التونة ذات الزعنفة الصفراء، قطعتين من الروبيان، قطعتين من الروبيان الصغير الحلو… دواليك، دواليك.
السير يمر على مُقطّعي السمك ومُعدّي الرز، ثم على أيدي طباخين – أو لاعبي خفة، لا فرق! – فيوزعا القطع على الصحون الملونة، ثم يدور بين الزبائن كسكة حديد متعرجة، فيغادرهم فارغا نحو نافذة صغيرة إلى الحجرة الخلفية من المطبخ. لا يمنعني من رؤية ما وراء النافذة إلا ستارتان سوداوان. وأحيانا تمتد يد أحد النُدّل لترفع إحدى الستارتين، أو تنفخ المروحة الكهربائية المتلفّتة – بحيرة – إحدى الستارتين، فأرى في الأفق، حيث يمتد بصري ما يمتد، السير المتحرك يختفي في المحيط الهادئ، ثم يعود عابرا بمزارع الرز في “أوياما” نحو حانتنا، محمّلا بثمار البحر وأكوام الرز.
تيه السلالم ضاع بين تيه الطوابق، وأدوار شينجوكو لا بد أن تصيبك بالدوار، ولا يمحو ذاك الشعور بالتيه إلا دهشة المحلات والأكشاك التي لا تنتهي. ساءلت نفسي حينما بادرتني الباريستا اليابانية الحسناء من كشك القهوة الصغير، إن كنت أحب أن أجرب الاسبرسو بالحليب بطريقة “جبل طارق”، إذا كانت تعرف اسمي. إلا أنها نظرت لي ببلاهة حينما سألتها – باستظراف – إن كانت قد زارت جبل طارق من قبل.
لم أعد أعرف في أي مكان أو زمان أنا، لم أسمع قبلا بقهوة بطريقة جبل طارق، ولا أعلم من أي برزخ خرجت لي تلك الباريستا التي لم تعرف أن جبل طارق اسم جزيرة. إلا أن القهوة التي أذاقتني إياها كانت لذيذة، وكأنها من عالم آخر. (لاحقا، اشتهيت القهوة وحاولت العودة للكشك، فوجدت مكانه حفرة محاطة بمخاريط السلامة ولوحات التحذير. حاولت أن أطل في قعرها فلم أر إلا ظلاما يتردد منه صوت الموج. لم يحرق طارق بن زياد السفن وراء جيشه، بل فقدها في حفرة مشابهة. وفي اللحظة التي ترجّل فيها جيشه أرض أيبيريا، ظهرت سفن مهجورة في خليج طوكيو!).
انتهت حاجتي في شينجوكو: أكلت، احتسيت القهوة، ومللت من اللعب في صالة الألعاب الالكترونية داخلها. أحتاج العودة للفندق للاسترخاء. أتتبع اللوحات بحثا عن مخرج فتنزل بي السلالم إلى أقبية مترو جديدة، أو تصعد بي إلى منصات قطار متجهة إلى مدن أخرى أو إلى المطار. بعض المخارج التي ألاحقها أجدها مسدودة، وبعضها ليست سوى أبواب داورة تعود بك من حيث أتيت. لا أعرف من أين أتيت، ولا أعرف في أي طابق كنت، وكلما بحثت عن محلات مألوفة حتى لا أتوه، أصابتني حالة من الديجافو والشك. ورغم أن الكل مشغول باستكشاف طريقه، ويحاول اللحاق بقطار متخيل، إلا أنني أستوقف أحيانا من يبدو أنه يجيد الإنجليزية، وأتبع الطريق التي يشيرون بها، فأتوه. ولا أظن أنهم أقل تيها مني.
لقد أصابني التعب ووجدت أحد فنادق الكبسولات داخل المحطة، تلك التي يستأجرها بالساعة من لديه رحلة بعد بضع ساعات من شينجوكو. استأجرت إحداها، وأغلقت بابها على جسدي مثل سمكة سردين معلبة تتلحف غطاءا من صفيح.
في عام ١٩٦٧ م، خرج هارولد هولت، رئيس وزراء أستراليا، لوحده للشاطئ دون أن يخبر حرسه. في الصباح، ظلت الأوراق الرسمية على مكتبه تنتظر توقيعه، واستفاقت الأمة على خبر اختفائه، وقررت أن تقيم أكبر حملة بحث وتقصي في البر والبحر في تاريخها. وبعد خمسة أيام، افترض الأستراليون أن هارولد هولت – السباح الماهر – لم يكن سوى مكعب سكر ذاب في البحر دون أن يترك أثراً، فأقامت عزاءاً بلا جثة يمكن توديعها.
لو أستطيع أن أخرج من شينجوكو، لشهدت للناس أنني التقيت بهارولد هولت في المقعد المجاور بحانة السوشي، يستمتع بعقده الأول بعد المائة، معتمدا على حمية من السمك النيء، الساكي، والحديث مع الغرباء في شينجوكو.
إنه اليوم الرابع، ولم أر وجها أو بابا يتكرر قط في شينجوكو. قضيت الثلاث الأيام الأولى في المتاهة الضخمة المسماة شينجوكو، وما عادت لي رغبة في الخروج منها، فمن يضمن لي أن الرياض ليست سوى طرفا قصيا من شينجوكو، أو أن السبع سنواتٍ التي قضيتها في مونتريال، لم تكن سوى تيها في نفق يمتد من ميترو شينجوكو إلى ميترو مونتريال!
Like this:
Like Loading...
тнє ѕυℓтαη’ѕ ѕєαℓ. Cairo's coolest cosmopolitan hotel.