كريم محسن: حلم كبير

Richard Hableton, from “Shadowmen”. Source: acagalleries.com

للغرفة مخرَجان، مخرج آمن: الشباك. ومخرج خطر: الباب.
كيف سأواجه من يجلسون في الصالة بحقيقة أنه لم يعد لدي حلم كبير؟
صباح اليوم، بعد وجبة إفطار تجمع بين بيضة مسلوقة، طبق جبن أبيض بالطماطم، رغيف عيش بلدي محروق نصفه، شعرت أن حلمي الكبير هو ضرطة كريهة الرائحة.
ضرطة كنت أطلقها لسنوات في وجه العالم.
أجلس إلى المكتب محدقًا في بقعة زيتية جافة على سطحه، من حين لآخر أحك البقعة بإصبعي محاولًا إزالتها. بداخلي تتردد جملة أسمع صداها في كل مكان أتجول فيه: كل شيء انتهى. أغلقت باب الغرفة بالمفتاح ووضعته داخل جيبي، بصراحة كنت أفضل رميه من الشباك، تحاشيًا لمواجهة من يجلسون خارج الغرفة، هربًا من لقاء الأعين والأحاديث في الطرقة المظلمة التي تفصل بين الحمام والمطبخ. سينظرون إلي نظرة احتقار لاذعة، نظرة أشخاص يمتلكون أحلاماً كبيرة لشخص فقد حلمه منذ ساعات. سيبصقون نصائحهم على وجهي ويصفعون خدي بجملهم الحكيمة. مجرد التفكير في الأمر، يجعلني أتمنى لو كانت حدود العالم هي حوائط غرفتي المدهونة باللون الأبيض، بدون نقش أو لون مختلف، صفحة ناصعة، تشعر بالغباء والراحة إذا تركت نفسك تتأمل فيها أكثر من اللازم.
أشعلت سيجارة، فتحت الشباك ورميتها بعد أول نفس، سقطت على رأس أحد السائرين وبدأ يتلفت حوله بحثًا عن طوبة في الشارع وهو يتمتم بنفس لاهث “يا ولاد الشرموطة” أكثر من مرة، راقبته من وراء الزجاج، بدا كأنه في انتظار ما يستفز أعصابه الهشة، حتى يطلق العنان للثور الهائج المختبئ داخل كرشه السمين. كأنه انتبه للوجود فجأة، حياته كانت نومًا عميقًا في العمل والمنزل والشارع.
مع الوقت كنت أتسأل، هل أنا من حبس نفسه داخل الغرفة خوفًا من لقائهم أم هم من حبسوني عقابًا على انهيار حلمي الكبير صباح اليوم؟ مفتاح الغرفة مازال في جيبي، لكنه ليس إجابة وافية على سؤالي الذي أظنه لا يبحث عن إجابة قاطعة هو الآخر.
طرقة حادة على الباب، ذابت على إثرها أفكاري في حبيبات العرق التي تغطي جبيني.
من بالخارج أخبرني: “الغدا خلص”.
لم أرد.
اتجهت للسرير، تكومت عليه وحاولت النوم.
نمت رغمًا عني، حشرت نفسي داخل عالم النوم، لفظني كثيرا، لكنه في النهاية استسلم لي.

بقعة حمراء، تنتشر في السماء.
بدأت كنقطة، جرح في الأفق، لاحظته من نافذة غرفتي عندما استيقظت ليلًا. تنتشر البقعة ببطء لا تلاحظه العين، لكن مع مرور الوقت تزداد اتساعًا.
السائرون في الشوارع لم ينظر أحد منهم إلى أعلى، ليشاهد ما يحدث على سماء كوكبهم. الكل ينظر أمام قدميه، يخشى أن تعترض طريقه طوبة فيسقط أو يمشي في الطين فتتسخ قدماه. الكل حريص على خطواته، الكل لديه أحلام كبرى.
قررت الاحتفاظ بذلك السر لنفسي. مرت ساعتين ولم ينتبه أحد. السماء تزداد حمرة واشتعالاً، ومن بالصالة، يشاهدون التلفزيون ويحتسون الشاي مع أطباق البسبوسة بالمكسرات.
أصوات ملاعق وشوك، أفواه مليئة بالحلوى تتحدث بصخب، ضحكات مبتذلة وأخرى حقيقية لا داعي لها، نكتة يلقيها أحدهم، يتجاهلونها ويتحدثون عن مسلسل ما. تحتشد كل تلك الأصوات والكلمات في ذهني، تخترق باب الغرفة السميك وتضاجع أذنيّ.
لا، لا لن أخبرهم، لن أفتح باب الغرفة حتى تغطي البقعة السماء، ويهرول الجميع في الشوارع، ويمتزج من بالخارج مع المختبئين في الداخل. سيزحف الجميع على الجميع، ويفر الجميع من الجميع. لن يبحثوا عن مستقر لهم أو نقطة نهاية للتوقف، سينهمرون كشلال في الشوارع والحواري والميادين.
ساعتها سأخرج من غرفتي، أتمشى في الصالة وآكل قطعة بسبوسة مع رشفة شاي. أضع إصبعي في أعين هؤلاء، سأخبرهم ببساطة أن أحلامهم الكبيرة هي ضراط أشم رائحته من غرفتي، أنصحهم بعد إشعال آخر سيجارة في العلبة: اغسلوا مؤخراتكم واحلموا من جديد.
أسندت كتفى إلى حافة النافذة ناظرا بشاعرية إلى سمائنا وهي تولد من جديد أمام عيني.
راقبت تحولاتها بحرص. لم يعد يهمني مراقبة الوقت، لم يعد يهمني مرور الزمن أو توقفه أو العودة به إلى الوراء.
بالطبع لم أكترث لطرقات الباب ورنات الموبايل وآلام المعدة وحرقان الحموضة، لكن تدريجيًا تصاعد صوت طرقات الباب ليصل إلى صوت ارتطام عنيف بالكتف ثم صوت آلة ما تحاول فتحه.