
Ocean Vuong. Source: asitoughttobe.wordpress.com
هايبون المهاجر
الطريق التي تقودني إليك آمنة
حتى وإن صَبّت في المحيطات
– إدمون جابيس
ثُم، وكأنّه يتنفس، انتفخ البحر من تحتنا. إذا كان ولابد أن تَعرف أي شيء، اعرف أنّ أصعب مُهمة هي أن تعيش مرة واحدة. أنّ امرأةً على سفينة غارقة تُصبح قارب نجاة – مهما كان جِلْدها ناعماً. بينما أنا نائم، أَحرَق كمنجته الأخيرة لتبقى قدماي دافئتين. رقد إلى جانبي ووضع كلمة على قفاي، ذابت فإذا هي قطرة ويسكي. صَدَأٌ ذهبيٌ بامتداد ظهري. لنا شهور مُبحِرون. الملح في عِباراتنا. مبحرون ولا أثر لحافة العالم.
*
حين تركناها، كانت المدينة لا تزال تُدخِّن. وخلاف ذلك صباح ربيعي خالص. شَهَقَتْ سُنْبُلات بيض وسط حشيش السِفارة. كانت السماء زرقاء بلون سبتمبر والحمام يَلقط فُتات خُبز المَخبَز المقصوف. باكيتات مُكَسّرة. كرواسون معصور. سيارات خارجةٌ أحشاؤها. لُعبة الأحصنة الدوارة وقد تفحّم خيلها. قال إنّ ظِلّ الصواريخ وهو يَكبَر على الرصيف كأنّه الله يلعب بيانو في الهواء من فوقنا. قال: كم أحتاج أن أحكي لك.
*
نجوم. أو لعلّها مصارفُ للسماء تَنتظر. ثقوب صغيرة. قرون صغيرة تنفتح فقط بما يكفي لنَنسَلّ عَبرَها. سَاطور تُرِك على سَطح المَركِب ليَجِف. ظَهري إليه. قدماي في الدوّامات. ينحني جواري ونَفَسَه أحوال جويّة ضلّت طريقها. أدعه يَسكب حفنة من ماء البحر في شَعري ثم يَعصِره لتخرج ”أصغر لالئ – لكِ وحدكِ“ فأفتح عيني. وجهه بين كَفّي مُبتلٌّ كجُرح. ”إذا تمكنّا من بلوغ الشاطئ“ – هكذا يقول – ”سأُسمّي ابننا على اسم هذه المياه. سأتعلّم كيف أُحب وَحشاً“. يبتسم. حيث يجب أن تكون شفتاه شَرْطة واصِلة بين كلمتين. ثمّة نوارس فوقَنا. ثمة أيادي ترفّ بين الكواكب، تحاول أن تَصمُد.
*
ينقشع الضباب فنرى. غاب الأفق فجأة. لمعة زبرجدية تؤدّي إلى مُنخَفَض حادّ. إنها صافية ورحيمة كما أرادها بالضبط. كما في الحواديت بالضبط. الحدوتة التي ينغلق فيها الكتاب ويتحوّل إلى ضحكات في حِجْرنا. أَشُدّ الصاري لأَنشُر الشِراع عن آخره. يُلقي باسمي في الهواء. أشاهد المقاطع الصوتيّة تتفتّت إلى حصاة على سطح المركب.
*
صرخة هائلة. البحر يَنشقّ فوق صَدْر المركب. ينفتح وهو يُشاهده مثل لِصّ يُحدّق في مُحتوى قلبه: كل تلك العِظام والأخشاب المُتَشَقِّقَة. تعلو الأمواج على الجانبين. المركب محشور في حيطان سائلة. ”انظري“ – يقول – ”أراه الآن“! يتقافز إلى أعلى وأسفل. يقبّل ظَهر رُسغي وهو يَقبض على الدفّة. يضحك لكن عينيه تكشفانه. يضحك مع أنه يعلم أنه أفسد كل ما هو جميلا فقط ليُثبت أن الجَمال لا يقوى على تغييره. لكنْ ما هي الصدمة الأكبر؟ أنّ هناك سِدَادَةً حيث يجب أن يكون الغروب. كانت دائماً هناك. هناك سفينة مصنوعة من أعواد الخِلّة والغِراء. هناك سفينة داخل وجاجة نبيذ على الرَفّ وسط حفل عيد الميلاد، والبيض بالحليب يندلق من الأكواب البلاستك الحمراء. لكننا نواصل إبحارنا على كل حال. عريس وعروس كما على رأس كعكة العُرس محشوران في زجاج. الجميع يَصيحون ويُغنّون وهو لا يعرف إن كانت الأُغنية لأجْله – أم لأجل حُجُرات مشتعلة بالحريق حَسِبها طفولته. الجميع يرقصون بينما رجل وامرأة متناهيا الصِغَر محبوسان داخل زجاجة خضراء، يفكّران أن شخصاً ما ينتظرهما في نهاية حياتهما ليقول لهما ”أنتما! ما كان عليكما أن تبتعدا كل هذه المسافة. لماذا ابتعدتما كل هذه المسافة“؟ كما يقرع العالم مضرب ”بيسبول“ بالضبط.
*
إذا كان ولابد أن تَعرف أي شيء، اعرف أنك وُلدت لأنّ لا أحد كان آتياً. تأرجحتْ السفينة وأنتَ تَنتفخ داخلي: صدى الحُبّ متجمّداً على هيئة صَبيّ. أحياناً أُحس أنني حَرْف عَطف كهذا & وأصحو مترقّبة ضربةً تسحقني. لعل الجسد هو السؤال الوحيد الذي لا يمكن أن تطفئه إجابة. كم قُبلةً سَحَقْناها على شِفاهنا ونحن نصلي – ولم نحظَ إلا بلملمة الأشلاء؟ إذا كان ولابد أن تعرف، فأضل طريقة لتفهم رجلاً هي أن تفهمه بأسنانك. مرّة ابتلعتُ المطر عبر عاصفة رعدية خضراء بكاملها. الساعات مستلقية على ظهري، وبُنُوتتي على مصرعيها. الحشيش من تحتي في كل مكان. كم كان حلواً ذلك المطر. شيء يعيش ليسقط لا يمكن إلا أن يكون حلواً. المياه وقد بُريت حتى صارت قَصداً، والقصد حتى صار غذاء. يُمكن للجميع أن ينسونا – طالما تتذكّر أنتَ.
*
صيفً دماغيّ.
يَفتح الله عينه الأخرى:
قَمَران في البُحيرة.
ذات يوم سأُحِب أوشان فونغ
عن فرانك أوهارا، عن روجر ريفز
لا تَخَفْ يا أوشان. نهايةُ الطريق بعيدة لدرجةِ أننا تخطّيناها سَلَفاً. لا تقلق. أبوك هو أبوك فقط حتى ينسى أحدكما. كالعمود الفَقْري لا يتذكّر جَنَاحَيه مهما قَبّلَتْ رُكَبُنا الرصيف. أوشان، هل تسمعُني؟ أجمَل جزء في جسدك هو ذلك الذي يكسوه ظِلّ أمكَ. ها هو البيت مع طفولتك المَبْريّة إلى قطعة حَمراء من سِلك تتعثّر فيه القَدَم إذا خَطَتْ. لا تقلق. فقط سَمِّه “الأفق” ولن تَبلُغَه أبداً. ها هو نهارك. اقفزْ. أَحلِف لكَ أنه ليس قارِب نجاة. ها هو الرَجُل بذراعين تتسعان لرحيلك. وها، قُبَيل انطفاء الأضواء، لحظةَ تَلمح مِشعلاً بين ساقيه. هاكَ تهتدي به مرة بعد مرة لتَعثُر على يديك. طَلَبتَ فرصة ثانية وأُعطِيتَ فَمَاً تُفرِغ فيه ما عندك. لا تخف، ليس إطلاق النار سوى جَلَبة ناسٍ تحاول أن تعيش أطول قليلاً. أوشان. قُم يا أوشان. أجمل جزء في جسدك هو ذلك الذي يتّجه جسدك إليه. وتذكّر، الوَحدة أيضاً وقتٌ تُمضِيه مع العالم. ها هي الغرفة المملوءة بالجميع. أصدقاؤك الموتى يمرون خلالَك مثل الريح خلال أجراس الزينة. ها هو مَكْتَب برِجْلٍ عَرجاء وطوبة تُبقيه صالِحاً. نعم، ها هي غرفة دافئة وقريبة إلى الدم، أحلف لك – ستصحو وتظن حيطانها بَشَرَة.
فاتنون لوَهْلَة على هذه الأرض