المرأة اليابانية: ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة ميسرة عفيفي

Hiroshige Utagawa, Good-tempered (Otonashiki), from the series “Money Trees for Virtuous Women”, 1847-52. Source: ukiyo-e.org

١
هذا كتابٌ في منتهى التشويق. عنوان الكتاب “Japan​” (اليابان)، وقد صدر عام ١٨٥٢. مؤلفه يدعى تشارلز ​ماكفارلين، ولم يسبق للمؤلف زيارة اليابان أبدًا، ولكنه يحمل اهتمامًا شديدًا للغاية باليابان. أو على الأقل يدَّعي هو ذلك. وفي كتاب “Japan” جمَّع المؤلف المقالات والأجزاء التي تتعلق باليابان في الكتب باللغات اللاتينية والبرتغالية والإسبانية والإيطالية والفرنسية والهولندية والألمانية والإنجليزية … إلخ، وألف منها هذا الكتاب الضخم. وقد جمع الكتب التي صدرت في الفترة ما بين عام ١٥٦٠ وعام ​١٨٥٠، ويذكر المؤلف أنه بدأ الاهتمام الشديد بهذا الموضوع، أي بالشأن الياباني بفضل الجنرال جيمس ​دروموند. وذكر أن دروموند هذا كان يعمل في شبابه بالتجارة والمشروعات، ورغم أن دروموند إنجليزي الأصل، إلا أنه عاش في اليابان لعدد من السنين متخفيًّا باسم هولندي. وقد قابل المؤلفُ ماكفارلين الجنرالَ دروموند في مدينة برايتون وأطلعه دروموندُ على مقتنياته من الكتب والمؤلفات النادرة التي تتعلق باليابان. ولم يقتصر دروموند على إعارة تلك الكتب للمؤلف بل زاده بأحاديث عديدة ومتنوعة عن أحوال اليابان. قام المؤلف بجعل تلك الأحاديث أحد مراجعه في الانتهاء من تأليف كتابه “Japan”. وأضاف المؤلف أن دروموند متزوج من حفيدة الروائي المشهور ​سموليت، وكانت زوجته من كبار العاشقين للأدب والكتب.
وبسبب ظروف تأليف هذا الكتاب السالفة الذكر، فهو ليس دقيقًا في محتواه كالدقة التي في كتب الرحالة الذين زاروا اليابان وعرفوها بالفعل. وفي الواقع عدم الدقة يصل لدرجة أنه عند وضع الرسومات التوضيحية التي تتخلل الكتاب، تظهر اللوحات الخاصة بكوريا على أنها من اليابان. ومع ذلك، لا يمنعنا هذا نحن المعاصرون الآن من الاهتمام بهذا الكتاب. فعلى سبيل المثال، لابد من القول إن كون الكتاب يقول جدياً إن إمبراطور اليابان يملك أعدادا كبيرة من غليون التبغ وأنه يستخدم واحدة مختلفة منها كل يوم لتدخين التبغ هو أمر في غاية الفكاهة والظرف.
في هذا الكتاب فصلٌ يعمد إلى التعريف بالمرأة اليابانية ويقدم دراسة عنها.
وأريد هنا أن أقدم لكم تعريفًا سريعًا بهذا الفصل.
يقول المؤلف ماكفارلين:
“المكانة التي تشغلها المرأة في المجتمع، هي المقياس الحقيقي لارتفاع أو انخفاض حضارة ذلك المجتمع، ومكانة المرأة اليابانية في المجتمع أعلى بدرجات عدة منها في أية دولة شرقية أخرى. فلا تعاني المرأة اليابانية ما تعانيه المرأة في الدول الشرقية الأخرى من متاعب وحظ سيء كالحبس في المنزل. ليس فقط تمتع بمعاملة راقية بدرجة كبيرة من المجتمع، ولكن أيضا تستطيع الاشتراك في اللهو والترفيه مع أبيها وزوجها.
بالطبع يضع اليابانيون عفة الزوجة وعذريتها مقياسًا للشرف، ولكن على الأغلب يمكننا القول إنه ما من امرأة واحدة تصبح زوجة خائنة. وذلك بسبب حقيقة أنها إذا وقعت في الخطيئة مرة، تكون الأخيرة ويكون الموت مصيرها. والحقيقة أن ذلك مطبّقٌ بدرجة عالية من الحزم والصرامة.
في اليابان، يتعلم كل أفراد المجتمع من أعلى الطبقات الاجتماعية إلى أدناها. ومن خلال المعلومات المتاحة لنا، فعدد المدارس في اليابان يفوق عدد المدارس في أية دولة أخرى من دول العالم. بل ويستطيع حتى الفقراء والفلاحون القراءة والكتابة على أقل تقدير. وبالتالي فالنساء متاح لهن التعليم مثل الرجال تمامًا. وبالتالي أيضا ففرصة التعليم مهيأة تماما للمرأة مثل الرجل. وعلى أرض الواقع يوجد عدد كبير من النساء في اليابان من بين أشهر الشعراء والمؤرخين وغيرهم من الكُتّاب والمؤلفين.
أمّا بين الأغنياء والنبلاء، فالرجل عامة لا يحافظ على العفة بدرجة المرأة. ولكن عندما تكون المرأة، أُمّا أو زوجة فهذا أضمن لها في توفير حياة شريفة وعفيفة على مدى حياتها. ويجب القول إن ذلك الأمر ليس به أدنى شك أو ريب، إنْ عرضناه على الحكايات المتنوعة التي وصلت إلينا من اليابان أو من الحقائق التي أبلغنا بها عدد كبير من الرحالة الذين زاروا اليابان.
تعتبر المرأة اليابانية العار من أكثر الأمور التي تستوجب الخجل. لدرجة أنه يصعب علينا ذكر كل الأمثلة على انتحار المرأة بسبب احتقارها أو إذلالها، ولكن تكفي الحكاية التالية لكي تبرهن على هذه الحقيقة.
سافر رجل من الوجهاء في رحلة، وأثناء غيابه وقع رجل من طبقة النبلاء في حب محظور لزوجته (أي زوجة ذلك الوجيه الغائب)، ولكن تلك الزوجة لم تقع فريسة لإغواء ذلك النبيل، ليس هذا فقط بل أنها أيضا وجهت له العديد من الإهانات لفعله ذلك. ولكن يبدو أن ذلك النبيل استخدم العنف أو ربما استخدم الحيلة والمكر في التعدي على عفة تلك المرأة. وعندما عاد زوجها استقبلته الزوجة كما هي عادتها دائما بكل حب. ولكن كان في سلوكها ذلك تمنعا لا يمكن خرقه. فاستعجب زوجها من سلوكها، وحاول استنطاقها عدة مرات عما حدث، ولكن كانت إجابتها كالتالي:
(أرجوك لا تسألني عن شيء أكثر من ذلك حتى الغد. وفي الغد أرجو منك دعوة أهلي وكل وجهاء ونبلاء المدينة، وأمامهم جميعا سأحكي كل ما حدث.)
في اليوم التالي تجمع الزوار جماعات وافرادا في منزل الزوج. وكان من ضمنهم ذلك النبيل الذي ألحق العار بالزوجة. وقُدِّم الطعام والشراب للزوار في الشرفة المفتوحة التي توجد فوق سطح المنزل. وبعد أن انتهت المأدبة، وقفت زوجته، وأعلنت على الملأ ما لاقته من عار. ليس هذا فقط، بل قالت لزوجها في بحماس وعزيمة:
(لم أعد استحق أن أكون زوجة لك. أرجوك … أتوسل إليك أن تقتلني حالا.)
حاول جميع الحضور بما فيهم زوجها تهدئتها بالقول إنه ليس عليها أي ذنب وإنها كانت مجرد ضحية لذلك النبيل الآثم. فأظهرت الزوجة شكرها وامتنانها العميق لهم جميعا. ثم بعد ذلك تشبثت بكتف زوجها وبدأت في النواح والبكاء لدرجة ينخلع لها القلب. ولكن بعد أن قبّلت زوجها بغتة، وفي اللحظة التالية دفعت يد زوجها بعيدا وفي لمح البصر هرعت إلى حافة الشرفة، وألقت بنفسها من ذلك المكان العالي إلى سطح الأرض.
ولكن رغم أن الزوجة أعلنت على الملأ ما تعرضت له من مهانة وعار، إلا أنها لم تعلن عن اسم النبيل الذي قام بذلك. ولذلك هبط النبيل الذي ألحق بها الخزي والعار درجات السلم، أثناء الهرج والمرج الذي حدث بين الحاضرين، ثم قام ببقر بطنه كمحارب عظيم بجوار جثة الزوجة المنتحرة. وطريقة بقر البطن هي الطريقة القومية للانتحار في اليابان، يقوم فيها المنتحر بقطع بطنه طولا عرضا على شكل علامة زائد.”
طبقا لماكفارلين مؤلف كتاب “Japan” فهذه القصة مذكورة في كتاب ذكريات ​راندال. وأنا شخصيا (أكوتاغاوا) لا أدري هل ثمَّة قصة شبيهة بهذه الحكاية في اليابان أم لا. ولكن عند البحث والتفكير قليلا، لا أجد أي أثر في روايات أو مسرحيات عصر توكوغاوا لشيء يشبه هذه القصة. ولكن ربما تكون حدثت في أحد أقاليم اليابان الريفية مثل كيوشو أو غيرها. ولكن إقامة مأدبة طعام في شرفة فوق سطح المنزل، وتقبيل زوجة ساموراي لزوجها على الملأ، هي أمور مضحكة ذات طابع غربي لا تمت لليابان بصلة. فمن السهل أن نضحك ونمرر الأمر على أنه حكاية فكاهية مسلية. ولكن لو فكرنا أن ما وصلنا في اليابان عن العالم الغربي منذ القدم به كذلك نفس الكمية من الأخطاء والأغلاط، يجعلنا ذلك نشعر بالأسى والحزن، والحقيقة أننا لا نستطيع السخرية من الغربيين فقط. لا ليس الغرب فقط، بل وحتى الصين جارتنا، مثل هذه الأخطاء موجودة بكثرة لا حد لها. أقرب مثال هو عندما نقرأ رواية “كوكوسنيا” للمؤلف مونزائمون تشيكاماتسو، أوصاف الشخصيات والأماكن نجد أنها شديدة الغرابة ولن تفرق هل هو يكتب عن الصين أم اليابان.
يعطي ماكفارلين مثالا آخر ليوضح إلى أي درجة المرأة اليابانية عظيمة.
“كان أحد أكابر قادة الساموراي اسمه تشويا، يدبر مع صديق له اسمه جوشيتسو مؤامرة ضد الإمبراطور. وكانت زوجة تشويا امرأة في غاية الجمال والذكاء معا. وبعد أن خُطِّط للمؤامرة سرا على مدى خمسين عاما، افتضحت على الملأ بسبب أخطاء وقع فيها تشويا. وعندها أصدرت الحكومة أمرا بالقبض على تشويا وجوشيتسو معا، وطبقا لظروف ذلك الوقت، كان من الضروري جدًا لدى الحكومة القبض على تشويا على الأقل حيّا بأي شكل. ولذلك كان يجب خداعه وأخذه على حين غرة. عندئذ جاء الجنود المكلفون بالقبض على تشويا إلى منزله وصاحوا بصوت عال أمام البوابة (حريق، حريق). فهرع تشويا خارجا من البوابة ليرى أين الحريق. وهنا هجم عليه الجنود، ولكن تشويا قاتلهم بشجاعة وذبح منهم اثنين، ولكن في النهاية بسبب كثرة الجنود وقلة أعوانه أُلقِيَ القبض عليه. وفي تلك الأثناء كانت زوجته التي سمعت أصوات القتال، وأدركت أن زوجها مصيره القبض عليه، تقوم بالتخلص من كل أوراق زوجها الهامة برميها في النار. وكانت تلك الأوراق بها أسماء النبلاء والساموراي المتورطين في المؤامرة. تصرف زوجة تشويا العاقل هذا لا يزال موضع دهشة وإعجاب اليابانيين جميعا حتى اليوم. لدرجة أنه عند مدح شخص لحسن تقديره الموقف وحسن اتخاذ القرار، تستخدم كلمة: مثل زوجة تشويا”
بالطبع تشويا هذا هو تشويا ماروباشي، وجوشيتسو هو شوسيتسو يوي. وأيضا لو اتبعنا ما يقوله ماكفارلين، فهذه القصة أيضا هي كما المتوقع مذكورة في كتاب راندال “ذكريات إمبراطورية اليابان” سابق الذكر. صورة المرأة اليابانية التي يبلغها ماكفارلين مؤلف كتاب “Japan” هي في الأغلب الأعم امرأة من “المدينة الفاضلة” أو يوتوبيا وحتى في عقد ستينات القرن التاسع عشر، من المؤكد أننا لا نستطيع الوثوق أن المرأة اليابانية كانت بهذه العظمة التي تحافظ بها على عذريتها أو الزوجة كانت تحافظ على عفتها بهذه المثالية. لو سخرنا من سذاجة ماكفارلين وضحكنا فالأمر ينتهي عند هذا الحد، ولكن الحقيقة أنه عند نقل عادات وتقاليد الدول الأجنبية من السهل وقوع تلك المآسي الكوميدية. منذ فترة بسيطة، قامت كاتبة في إحدى الصحف بالحديث عن حياة المرأة في أمريكا، ومثلتها وكأنها حياة ملائكة تمشي على الأرض، ولكن لو قرأ أحد الأمريكان تلك المقالة، بعد نصف قرن من الآن، من المؤكد أنه سيضحك ساخرا منها، مثلما نفعل الآن مع كتاب “اليابان” ومؤلفه ماكفارلين.
٢
عند مقارنة كتاب السير راذرفورد ​ألكوك “ثلاث سنوات في اليابان” بكتاب ماكفارلين، سنجد أن كتابه استطاع إيصال حقيقة اليابان إلى حدٍ ما.
الكتاب عبارة عن جزئين وصدر عن دار هارفارد للنشر في نيويورك عام ١٨٦٣. وبه العديد من الرسوم التوضيحية وبه كذلك إعادة نشر للعديد من لوحات ​كيساي.
أولا مؤلف الكتاب السير راذرفورد ألكوك، لم يقم بتخيّل اليابان وهو جالس على مكتبه مثلما فعل ماكفارلين. ولكنه وكما يوضح عنوان الكتاب عاش ثلاث سنوات في اليابان.
وثانيا لم يكن السير ألكوك غير متعلم مثل ماكفارلين، بل كان له نصيب كبير جدا من التعليم وكان بصفة خاصة على علم واسع بفلسفة جون ستيوارت ميل التي كانت على انتشار واسع في أيامه. من أجل ذلك، كان يقوم بإبداء رأيه الشخصي حتى في الأحداث والوقائع التي يراها أو يسمعها في اليابان. ومن ضمن تلك الآراء ما يثير ضحكنا وسخريتنا اليوم، ولكن لا تخلو أيضا من آراء يجب علينا الاستماع لها بجدية. وهذا أمر لا نجد له أي أثر في كتاب ماكفارلين.
كان السير ألكوك هو قنصل إنجلترا العام المقيم باليابان في نهاية عصر أسرة توكوغاوا. وفي أثناء إقامته في اليابان، تم اغتيال ​إيي كبير موظفي الحكومة العسكرية أمام بوابة ساكورادا خارج قلعة إيدو. وقتل عدد من الأجانب الغربيين.
إذا ذكرنا ذلك بهذه الطريقة فسيبدو أن الأمر لا يخصه، ولكن في منطقة شيناغاوا التي كان يسكن فيها السير ألكوك، حدثت عدة حوادث اعتداء على أجانب وقُتل وجُرح عدد منهم في معبد شوزنجي البوذي. علاوة على ذلك فقد قام السير ألكوك بالعديد من الرحلات مثل تسلق جبل فوجي، ودخل العيون الساخنة في منطقة أتامي … إلخ، وبهذا، فقد عاش في اليابان فترة انتهاء حكومة العسكريين الساموراي ذات الأحداث والوقائع الكثيرة داخليا وخارجيا، بل إنه لم يلتزم بالبقاء في مدينة إيدو فقط، بل دار ولف في العديد من الأنحاء والمدن في اليابان، ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن ينتابنا اهتمام كبير بتسجيل السير ألكوك هذا لرحلته في اليابان.
لا يحتوي كتاب رحلة اليابان للسير ألكوك على تنوع وإمتاع فني وأدبي مثل كتابات ​لوتي أو ​كبلينغ. فهو مثلا عندما يصف صورة لأساكوسا، فالحقيقة أنه لا يشبه أبدا ما كتبه لوتي في وصف أساكوسا الموجود في كتابه “الخريف في اليابان”، حيث تكاد أوراق شجر الجنكو الصفراء وحوائط المعبد الحمراء تظهر أمام عين القارئ. ولكن وكما ذكرت من قبل، فآرائه وتحليله للحوادث التي شاهدها أو سمعها هي في الواقع في منتهى المتعة والتشويق.
مثلا: شهد السير ألكوك في منزل بأحد الأرياف امرأة يابانية عجوز تضع لطفل إبرا صينية بها بخور، فيقول بتألم: “نهوى نحن البشر، قديما وحديثا، شرقا وغربا، إيلام أجسادنا بأنفسنا من أجل الحصول على سعادة خيالية” وأيضا أثناء عبوره لأحد الجبال، سمع فجأة صياح طائر الوقواق، نجده يقول ساخرا: “إن صوت طائر الوقواق يشبه صوت الكروان، طبقا للأساطير اليابانية فإن اليابانيين هم الذين علّموا الوقواق الموسيقى والغناء، ولكن لو كانت تلك الأسطورة حقيقة لكانت أمرا يثير الدهشة والعجب. وذلك لأن اليابانيين أنفسهم لا يفقهون شيئا في الموسيقى والغناء!”
وهذه آراء لا يمكن قراءتها دون ضحك وابتسام. ولكن أثناء كتابته أحداث الفوضى التي حدثت خارج بوابة “ساكورادا​”، أخذ السير ألكوك ينظّر عن عبادة اليابانيين للثأر، وعن الآثار التي تركتها مسرحية “تشوشينغورا” في عقلية الجماهير، وكان هذا الجزء في غاية المتعة والإثارة، ولكن عندما أنحرفُ عن الحديث الأساسي سيصعب عليّ العودة إلى الموضوع فلذا أود أن أترك التعريف بأمثلة على ذلك إلى فرصة أخرى.
 لكن قبل ذلك ومن أجل التعريف بالمضمون الرئيس لكتاب “ثلاثة أعوام في اليابان”، إذا عرضنا بشكل سريع انطباع السير ألكوك عند دخول السفينة التي استقلها إلى ميناء ناغاساكي للمرة الأولى، فهي كالتالي:
“كان دخول السفينة إلى ميناء ناغاساكي وسط هطول الأمطار في الرابع من يونية (عام ١٨٥٩). هذا الميناء تم بالفعل وصفه مرات عديدة من خلال أقلام الرحالة الذين زاروا اليابان في الماضي. ولكن، حتى لو كان النظر وسط سماء ملبدة بالغيوم، فلم يكن المشهد يخلو من الجمال مطلقا. مع دخولنا الميناء تدريجيا تظهر الجزر جميلة أيضا مثل اللوحات المرسومة.
“عند دخول السفينة مباشرة إلى الميناء تظهر لنا مدينة ناغاساكي مترامية الأطراف على الجانب الآخر من الميناء. تقع مدينة ناغاساكي تحت سفح سلسلة جبال صغيرة. وتمتد المدينة عاليا لمسافة كبيرة داخل تلك الجبال كثيفة الأشجار. على يسار الداخل تُرى جزيرة “ديجيما”، وهي عبارة عن أرض منخفضة تأخذ شكل مروحة يدوية. ويد المروحة تتجه ناحية اليابسة، أما الجزيرة نفسها فتتجه بارزة داخل البحر. يمتد طريق وحيد طويل وواسع في ديجيما، ويصطف على جانبيه بيوت من طابقين على الطراز الأوروبي. وعلى ما تبدو فهي مدينة شديدة الصغر. (جزء محذوف بواسطة أكوتاغاوا) الانطباع الأول للميناء نفسه، أنه يشبه بدرجة كبيرة جدًا موانئ خليج النرويج، وبصفة خاصة منطقة دخول ميناء ​كريستيانا عاصمة النرويج. رغم أن المضيق هناك أجمل بكثير من خليج ناغاساكي. تقع الجبال الصغيرة عند ميناء ناغاساكي هذا أيضا على حافة البحر مباشرة عالية في شموخ، وتنبت في تلك الجبال أشجار الصنوبر في كثافة شديدة، ولكن عند النزول من الميناء نجد أن أنواع النباتات الاستوائية أكثر بكثير من النرويج. مثل الرمان والكاكا والنخيل والخيزران إلخ. ولكن أيضا تنبت نباتات مثل الغاردينيا والكاميليا. ويوجد نبات السرخس المنتشر في كل مكان. وكذلك نباتات اللبلاب تتضافر على الجدران. ويوجد الكثير من أشجار الحسك على حواف الطريق.”
الباقي على هذا المنوال. حسنا، ماذا عن آرائه عن المرأة اليابانية؟ يقول السير ألكوك:
“منذ قديم الزمان، يُمدح دائما وضع المرأة الاجتماعي وعلاقاتها مع الرجل في اليابان. ولكن على أرض الواقع هل فعلًا يستحق الوضع هذا المديح أم لا، الواقع أن ذلك أمر مشكوك فيه. وأنا (سير ألكوك)، ليس لدي أي نية إطلاقا الدخول في قضية إنْ كان الياباني منحطًا أخلاقيًّا أكثر من باقي مواطني الدول الأخرى أم لا. ولكن القانون في اليابان لا يعاقب الأب الذي يبيع ابنته أو يوظفها لكي تعمل في الدعارة. ليس هذا فقط، بل إنه يُمنح ترخيصًا بذلك. بل وعلاوة على ذلك، حتى جيرانهم لا ينتقدونهم على ذلك مطلقًا. وأنا لا أؤمن بتاتا أن دولة مثل هذه بها شعور أخلاقي طبيعي أو صحي.
بالطبع أفهم أن اليابان لا يوجد بها نظام عبودية ورق. لا يوجد عبيد أو أقنان يتم بيعهم وشراءهم مثل المواشي والبهائم. (في الأصل عدم وجودهم بتاتا هو نصف الحقيقة، والسبب أن الفتاة اليابانية وكما يسمح بذلك القانون، يمكن بيعها وشرائها في نطاق عدد محدد من السنوات. وإذا نظرنا لذلك فعلى الأرجح أيضا أنه يتم بيع وشراء الفتيان والرجال كذلك) ولكن ما دام هناك نظام الاحتفاظ بالمحظيات، فمن الواضح لكل ذي عينين أن الحفاظ على قدسية النظام الأسري، هو أمر مستحيل.
وحتى هذه اللحظة لا يمكن لنا اكتشاف الأمر الذي يخفف من مخاطر وأضرار تلك الجرائم الشنيعة للشعب الياباني عامة. ولكن يمكن اعتبار أن جزءًا من عناصر تخفيف ذلك، يبدو في وجود سلطة قوية للغاية للأم تجاه أبنائها، وهو نفس الحال في الصين أيضا.
المرأة اليابانية يتم التعامل معها مثل السلعة، فتباع لرجل يتزوجها، دون النظر مطلقا إلى إرادتها، ولا إلى حقوقها بصفتها امرأة. وكذلك يعاملها الزوج أثناء حياته مثل البهائم أو العبيد.
ولكن سلطة المرأة مطلقة تجاه أبنائها كأم، ما داموا أطفالا. وربما يتم تخفيف تلك الأضرار والمخاطر من خلال احتلال الأم في اليابان منزلة أعلى من الأب. وعلى الأرجح أن إمكانية المرأة اعتلاء العرش الإمبراطوري نفسه هو أحد الأمثلة على ذلك.
فقد وصلت المرأة لعرش الإمبراطورية اليابانية فعلا مرات عديدة في الماضي القريب والبعيد. وعلى الرغم من أن وضع المرأة اليابانية هي أنها تُباع وتُشترى مثل البهائم والعبيد بشكل مؤكد، إلا أن الأمر على ما يبدو لا يخلو من نقاط تعينها على التحمل بعكس المتوقع. ولكن فيما يتعلق بهذه النقطة، لا يمكننا إصدار حكم واضح ومؤكد إذا لم يتم بحث الأمر من نواح عدة. ويبدو كذلك أن علاقة المحبة والود بين الوالدين والأبناء قوية للغاية. على أي حال عاطفة حب الأبناء لدى اليابانيين عظيمة جدا بلا أي شك.”
لقد أصاب السير ألكوك كبد الحقيقة عند حديثه عن المرأة اليابانية أكثر بكثير من ماكفارلين. ويبدو أن وضع المرأة في اليابان لم يتقدم خطوة واحدة للأمام منذ عصر إقامة السير ألكوك في اليابان أي منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن.
إنه لأمر مشكوك فيه جدا أن يكون امتداح الغربيين قبل السير ألكوك للمرأة اليابانية جاء بسبب دراستهم ومعرفتهم لوضع المرأة الاجتماعي في اليابان دراسة موضوعية ومحايدة. ولكن على العكس من ذلك المؤكد أن حكمهم هذا نتيجة لتعاملهم مع النساء اليابانيات من نوع “الراشامِن​”، فكنّ صادقات ومخلصات، وربما سبَّب ذلك عندهم نوعا من أنواع الشكر والعرفان الكبيرين.
في أوائل حكم أسرة توكوغاوا، عندما رُحِّل الإنجليز من ناغاساكي، كانوا يُظهرون حبا عظيما لزوجاتهم اليابانيات ويرفضون بشكل كبير الرحيل عنهن. وإذا كان الأمر كذلك فلو كان السير ألكوك له راشامن واحدة، ربما لم يكن بالضرورة وصل احتقاره للمرأة اليابانية عند هذا الحد الذي رأيناه. ولكن ربما بسبب ذلك استطاع الوصول إلى فهم قريب جدا من الحقيقة تجاه المرأة اليابانية، وعلى الأقل يجب القول إن في ذلك “سعادة كبرى” لمحبي القراءة من الأجيال التي تلت السير ألكوك.
عندما ذهبتُ [أكوتاغاوا] لزيارة ترفيهية في الصين منذ عدة أعوام، وفي مركب يبحر في أعالي نهر اليانغتسي، كان معي راكب نرويجي. كان ذلك النرويجي في قمة الغضب من انخفاض الوضع الاجتماعي للمرأة في الصين.
فعلى حد قوله، في وقت المجاعة الكبرى التي حدثت في منطقة هينان كان الصينيون يجيئون إليهم لبيع زوجاتهم قبل أن يفكروا في بيع أبقارهم. ولكن رغم ذلك فهذا الرجل النرويجي، قد جعل الزوجة الصينية وكذلك اليابانية في أعلى عليين من المديح. لدرجة أنه في الواقع حدث بينه وبين سيدة أمريكية كانت معنا على نفس المركب معارك كلامية عنيفة بسبب ذلك. نستخلص من ذلك أن الرجل أي رجل في داخله، وعلى الرغم من كل الحجج والأسباب التي يسوقها، عندما يتعامل مع المرأة باعتبارها زوجة، لو استعارنا كلام السير ألكوك: يبدو أنه لا يستطيع منع نفسه من مدح​ المرأة التي يكون وضعها مماثلاً لوضع البهائم والعبيد. والخلاصة أن الحركة النسائية لا يمكن لها النجاح بغير الاعتماد على النساء أنفسهن.
(الشهر الخامس من العام الرابع عشر من عصر تايشو [١٩٣٢])