سلمى الداني: غرفة خاصة

Jacob Aue Sobol, Tokyo, 2007. Source: magnumphotos.com

المياه الدافئة تندفع نحوي بقوة، عندها تداهمني لذة العناد الطفولي، أفرك جسدي العاري بصابونة معتقة برائحة اللافندر كنت قد ابتعتها من أحد أزقة برشلونة الضيقة. أستغرق في لحظتي كأنني عارية تحت المطر، أستدعي أغاني من ذاكرتي. أشعر أن الماء والغناء مزيج باهر، لكن لذتي بالمياه الدافئة وبفرك جسدي يقطعها خوف من أن يباغتني أحد ما، ألتفت بتوجس باتجاه الباب ومع هذا التوجس بودي أن يتحقق خوفي حتى يكسره وربما أشعر بالاعتياد. لكن لا شيء يتحقق، أصبح ضجرة أستعجل الوقت فألف جسدي المنهك بفوطة بيضاء، أنعم برائحة اللافندر والمياه الدافئة لكن سؤالا باهتا يحضر ويحتل تفكيري: ما الذي يمنعهم من بناء حمامات معزولة؟ ما الفائدة من هذه الحمامات المشتركة؟
عندما قلت تلك الملاحظة للمدربة الرياضية أجابت بشيء من الاعتيادية وهي تنظر لشعري الأسود وعيني: أظن أن أصل الحمامات النسائية المشتركة من الشرق، ستعتادين على المكان، وستشعرين أنها غرفتك الخاصة، وهي تزين وجهها بابتسامة متعجبة.
غرفة الاستحمام تحتوي على ثمانية مراوش، كل أربعة تقابلها أربعة دون أن يفصل بينها شيء، وتفوح منها روائح شامبوات مختلفة. تليها صالة واسعة لتغيير الملابس بدواليب خشبية طويلة ولكنها ليست عريضة، بالكاد يمكنها احتواء الحقيبة الرياضية، وفي آخر الصالة مرآة كبيرة وعليها عدة أجهزة لتجفيف الشعر.
كان هاجس العيون الغريبة حاضرا عند تغيير ملابسي. أرتديها بسرعة الخائفين، وعندما أجد المكان مزدحمًا اضطر إلى تأجيل فكرة  الاستحمام إلى البيت، أو أخرج من حصة رقص الزومبا قبل عشرة دقائق من انتهائها لأتلافى ازدحام الأجساد العارية، كنت أتعجب كيف لا ينظر النساء لبعضهن البعض.
مرت سنوات وأنا أرتاد هذا النادي النسائي الوحيد في المنطقة حيث تسود الأندية الرياضية المختلطة. أشعر الآن بألفة مع المكان الذي لم أعتد عليه من قبل، بل تكونت في ذاكرتي البصرية صورًا لكثير من الأجساد النسائية العارية دون أن أقصد التلصص عليها، وهي تخرج جماعات من الحمامات المائية بوجوه بلا مواد تجميلية، ولا شعور مصففة كأنهن غسلن أثر العولمة عنهن ليظهرن بأجسادهن البرية. وربما منحتني هذه الذاكرة ليس فقط تصالحًا أكبر مع جسدي، بل أيضًا وعي بخفاياه. لقد كنت أقف أمام المرآة عارية حينما أعود إلى البيت، أكتشفه من جديد بمساعدة ذاكرتي البصرية الغنية بتلك الأجساد المختلفة. لم تكن أجساد مقننة في إطار عارضات الأزياء، بل كانت هناك الطويلة والقصيرة، النحيفة والبدينة. أجساد عليها آثار اسمرار من أشعة الشمس بعد رحلة بحرية، أو آثار عملية قيصرية، أووشم في أكثر الأماكن خصوصية. نهود مترهلة، وأخرى عامرة، حلمات بارزة ومتحفزة وأخرى غارقة ومسترخية. أشعر أن بعض الأجساد حرة، فتبدو بعض النساء كأنهن يملكن أجسادهن بالكامل، لا أحد يزاحمهن عليه. كانت الأجساد تحكي عن أعمارهن وتجاربهن أكثر مما كان يمكن لملامح وجوههن التي قد يملأها البوتوكس أو المكياج. كنت أحاول جاهدة أن أمنع نفسي من تخيل هذه الأجساد وهي تصل للذروة، كيف لملامح وجوههن أن تتغير وتشتد، ونهودهن ترتفع لأعلى مع أنفاسهن.
منذ سنوات كان الكل يتصرف كأنه وحده في المكان، أو هذا ما حاولت النساء جميعًا بتواطؤ عمله. لا أحد يتحدث، لا أحد يحاول مقاطعة الآخر، كن يقمن بنفس الخطوات بشكل آلي كما لو كن في غرفهن الخاصة. يجففن أجسادهن، وينحنين إلى أسفل أقدامهن وهن يمررن الكريم ذا الروائح المختلفة على سيقانهن دون أن يعرن انتباهًا لأحد. يرتدين ملابسهن الداخلية المختلفة، إحداهن تبدو دقيقة في اختيار ملابسها الداخلية المزينة بالدانتيل الرقيق، وأخريات عمليات بملابس داخلية قطنية. ينشفن شعرهن بمجفف الشعر، وإن كن على عجل يخرجن وشعورهن رطبة.
حتى الحوارات تكون مقتضبة، غالبًا ما تكون كصياغة سؤال لا ينتظر إجابة، مثل: هل يمانع أحد أن أفتح النافذة للتهوية؟ لا أحد يمانع، فلا أحد يرد. وكان هذا الصمت يمنحني شعورًا أنني وحدي، أو هكذا ظننت فتآلفت مع طبيعة المكان. أصبحت أستغرق وقتًا أطول وأنا أستحم، ومن ثم أجفف جسدي ببطء، وأرتدي ملابسي كأن لا أحد هنا، وأنسى الأخريات.
حتى حدث اليوم أن امرأة كسرت صمت المكان، خرجت من الحمام إلى صالة تغيير الملابس وهي عارية وشعرها الأسود الرطب إلى منتصف ظهرها، كانت تبدو في منتصف الأربعينات، ورغم أنها ذات خصر نحيف إلا أن وركيها ممتلئان. كانت تمشي بخفة كأنها تقفز على غيمات، وتغني بالأسبانية وتهز رأسها ووركيها. كان نهداها العامران يتحركان معها يمنة ويسرة، انحنت حتى لامست بيديها طرفي قدميها، ومن ثم رفعت رأسها بسرعة في محاولة لتجفيف شعرها بطريقة طبيعية، وأعادت الانحناء ورفع رأسها عدة مرات. ثم مدت ظهرها وكتفيها إلى الخلف وهي تأخذ نفسًا عميقًا قبل أن تغني أغنية أخرى وترقص التانجو، لكنها قطعت الأغنية وغنت أغنية ذات رتم بطيء وتخيلت أن أحدا يراقصها الفالس. فكانت ترقص ويدها ممدودة كأنها متعلقة خلف ظهر رجل أنيق، وتحني رأسها كأنها تسترخي على كتفه، وعيناها ناعستان بالحب والوله، وتدور في المكان بين النساء.
توقفت كل النساء عما كن يفعلنه، والتفتت كل الأعين نحوها شاخصة. أما أنا فشددت فوطتي بارتباك وبسرعة كإزار حول جسدي. اختفت كل الروائح العطرية المختلفة فلم يبق إلا رائحة الشعر الرطب لهذه المرأة، ربما لأنها المرأة الوحيدة فعليًا التي شعرت أنها وحيدة في هذا المكان، أن هذه غرفتها الخاصة ولا أحد.