
Mummy of a Cat, Abydos. Source: britishmuseum.org
-١-
صار مألوفًا لي أن أعود نهاية اليوم إلى شقتي وأجدها كما تركتها، خاويةً وتعمها الفوضى.
بقايا طعام الغداء الباردة. الملابس المتسخة المتناثرة بين الكنب والسرير. العتمة التي تملأ المكان إلا من ضوء الحمام الخافت. الصمت الثقيل الذي يعم الأرجاء. والأسوأ من هذا كله، لا أحد في انتظاري.
بعدما أغلق الباب من خلفي، وأغرق في الظلام لثوانٍ قبل أن ينبلج ضوء المصابيح، يداهمني شعور عميق بالوحدة، وفي كل مرة يكون أعمق من سابقتها.
-٢-
تأقلمًا مع الروتين الجديد، عودت نفسي على إنجاز المهام المنزلية بأقل جهد وأسرع وقت.
مثلًا، صرت أكتفي بطبخ وجبةٍ واحدةٍ في اليوم. كوب قهوة أو شاي مع تفاحة للإفطار. نصف دجاجة أو سمكة كاملة مع كمية وافرة من الأرز على الغداء. والباقي أحتفظ به في الثلاجة للعشاء.
أما ما يتعلق بالنظافة، مثل ترتيب الشقة وكنسها، وغسل الملابس وكيّها، فقد وضعت جولة تنظيف دورية أقوم بها مرةً في الأسبوع خلال يوم إجازتي.
وبالرغم من ساعات العمل التي تشغل معظم اليوم، فقد صارت حياة العازب التي عدت إليها بعد سنوات طويلة (تبدو لي قصيرةً بعد أن انقضت) معتادةً تمامًا بمرور الأيام، عدا أن الوحدة هي الشيء الوحيد الذي لم أعتده بعد.
وبسبب الوحدة، لم أتردد وأنا عائد من العمل تلك الليلة في إيواء قط صغير أجرب، عثرت عليه يموء بوهنٍ بحثًا عن أمه في مكب نفاياتٍ عموميٍ.
-٣-
إنه قطٌ برتقالي اللون، باستثناء بعض البقع البيضاء على ظهره وصدره وقوائمه الأربعة. له عينان براقتان بلونٍ أخضر هما ما تميزانه عن أي قط رأيته، وتعكسان دومًا شعوره بالامتنان والراحة.
خلال أسابيع قليلة، وبفضل التطعيمات الدورية المضادة للأمراض والنظام الغذائي المنتظم، أخذت صحته تتحسن بسرعة. وشيئًا فشيئًا راح الجرب يخفُّ من جلده حتى تلاشى تمامًا.
كان قد كفّ عن عضعضة مواضع الحكة، وكسى الفراء الناعم بقع الصلع المنتشرة في جسده. عندها صار قطًا جديدًا آخر غير الذي كان عليه في مكب النفايات.
-٤-
في البداية، كنت أودعه عيادة بيطرية أثناء ساعات عملي.
هناك، كانوا يطعمونه ويعتنون به جيدًا. وقد كلفني ذلك مالًا كثيرًا، كما لو كنت أدفع تكاليف مجالسة طفل في الحضانة. وبعد أن كبر بما فيه الكفاية، صرت أتركه وحده في الشقة عندما أكون خارج البيت مع كمية كافية من الطعام والماء في صحنه.
لم أعد أشعر بالوحدة عندما أعود لشقتي، فدائمًا ما أجد فيها من ينتظرني، وعاد غيابي ملحوظًا كالسابق.
عندما أدير مقبض الباب وأدخل، أهز سلسلة المفاتيح ليصدر منها خشخشة مبهجة، كما كان يفعل أبي حين يعود للبيت وأنا صغير، فيهرع القط إلي (كما كنت أهرع لأبي) مرقصًا ذيله وهو يموء مواءً متقطعًا متغنجًا يظهر به سعادته بعودتي.
-٥-
ملأ القط فراغًا عميقًا لم أكتشف عمقه إلا بعد أن أدخلته إلى حياتي.
ولاحقًا، اكتشفت أن هذا الفراغ كان أعمق مما كنت أظن، فعندما لاحظت محاولات القط المترددة في التسلل إلى الشارع، صارت فكرة غياب القط، وعودة الفراغ والوحدة، تشغل تفكيري لدرجة أرهقت أعصابي.
-٦-
بما أنني أتيت به من الشارع، بيته الأول، فمن الطبيعي أن يحنّ للعودة إليه، خصوصًا أن الحبسة في بيتي لابد أنها تثير ملله.
ورغم أنني أتفهم هذا جيدًا، إلا أنني لم أتمالك نفسي عندما وجدته ينسل من فرجة الباب الموارب ويخرج منه.
انتفضت من مكاني، وتناثر الطعام المعلب منتشرًا على أرضية المطبخ بعدما أفلته من يدي، ورحت ألحق القط هلعًا.
وقبل أن يقفز إلى السلالم، قبضت على ذيله وجذبته إليّ بعنف، وعدت به فورًا إلى الداخل.
أغلقت الباب من خلفي، وصرخت به كما لو كان طفلًا ارتكب أول خطأٍ له:
“لن تتركني وتذهب إلى أي مكان، مكانك هنا.”
لكنه ظل يحدق فيّ بعينيه البراقتين، إلا أن بريقهما كان أخف بكثير من المعتاد في تلك المرة، وشعرت أن شيئًا ما قد تغير فيهما.
-٧-
وضعت أقفالا على الباب، وأغلقت الشبابيك بقضبان معدنية حتى صارت مثل شبابيك السجن.
قيدت القط من رقبته بسلسلة طويلة (تمكنه من الحركة داخل دائرة قطرها متران) بإحدى قوائم الطاولة في المطبخ.
ويومًا بعد آخر، لاحظت ازدياد كمية الطعام المتبقية في صحنه، حتى جاءت أيام لم أعد أعيد ملئ الصحن له قبل الخروج للعمل. كان قد فقد شهيته تمامًا، وصار يقضي معظم وقته وهو مستلقٍ على بطنه، مهما نخسته أو داعبته فإنه يظل مستلقيًا بكسلٍ دون استجابة، كما أنه لم يعد يستجيب لخشخشة مفاتيحي على الإطلاق.
وقبل أن أدرك حتى، استيقظت ذات يوم لأجده هامدًا، لا نفس فيه.
-٨-
حتى بعد أن فارق الحياة، لم أسمح له بالمغادرة.
ذهبت به من فوري للعيادة البيطرية إياها على أمل أن يعيدوه لي، لكنه كان قد مات بالفعل. وفور أن علمت بذلك، غرقت في نوبة بكاء هستيرية أمام طاقم العمل.
لم أبكِ هكذا من قبل، حتى يوم وفاة أبي. وبعد أن جفّت عيناي من الدموع، أخبرني واحد منهم أن العيادة تقدم خدمة مميزة لا تقدمها أي عيادة أخرى، ألا وهي تحنيط الحيوانات الأليفة الميتة للذكرى.
دون تفكير، دفعت له تكاليف التحنيط، والتي كانت باهظةً أيضًا، وأعطاني وصلًا حتى آتي وأستلمه بعد عدة أيام.
-٩-
عاد الفراغ مجددًا ليملأ حياتي عدة أيام، إلى أن استلمت جسد قطي المحنط.
بطريقة ما، أعاد الرجل البريق لعينيه مجددًا، كما لو كانت الجزء الوحيد الحي في جسده.
وضعته فوق الطاولة في الصالة حتى يكون أول ما أراه عندما أعود للشقة، وحتى أكون أول ما يراه بعد أن ينبلج ضوء المصابيح.
-١٠-
لازلت حتى الآن أهز مفاتيحي عندما أعود لشقتي، متخيلًا أنه في مرة ما سيقفز من فوق الطاولة، ويهرع لي مرقصًا ذيله ترحيبًا بعودتي.
Like this:
Like Loading...
тнє ѕυℓтαη’ѕ ѕєαℓ. Cairo's coolest cosmopolitan hotel.