
James Hooper (Taxi Meter Man). Source: hiveminer.com
عدتُ وحدي في التاكسي نفسه الذي ذهبنا فيه جماعةً، سيارة قديمة متهالكة قذرةٌ من الداخل، من النمط القديم لأجرة القاهرة بالأبيض والأسود، طراز فيات ١٢٥ المُصَنّع في بولندا الاشتراكية، تسكنها رائحة دخان العادم المتسرِّب من مكان ما في هيكلها. السائق كان على نفس الدرجة من التداعي، وإن بدا مغتبطًا راضيًا، بلحيةٍ شيباء تبلغ من العمر أربعة أيام، وملابس لم يغيرّها ربما من نفس التاريخ.
في رحلة العودة ضاعت بوصلتي الذهنية، حين خرج السائق عن المسار المتوقع، ثم استعدت حسّي بالاتجاهات ثانيةً بعد أن مرقنا من نفق شارع مصر والسودان، فهذا هو شارع رمسيس، ونحن منطلقان في اتجاه العباسية، ثم هذا هو شارع الجيش وسينتهي بنا إلى ميدان العتبة. أعرف جيدًا أن هذه الشوارع الرئيسية معبّدة بأسفلت لا بأس بنعومته، وتلك الرجرجة العنيفة لا علاقة لها بحال الطريق، وإنما حتمًا ناجمة عن تضعضع آليات امتصاص الصدمات في بنية العربة التي تعود لسبعينات القرن الماضي.
قبل أن نخرج من ذاك النفق، انحرف السائق يمينًا نحو منطقة “دير الملاك”، وأنا لا أعرف تلك الجهة نهائيا. فوق ذلك، كان الشارع الذي دخلنا فيه خاليًا من أعمدة الإنارة مُعتمدًا على قمر شحيح الضوء جعل البنايات على الجانبين في تلك الساعات الهادئة كُتلاً متقاربة بالكاد تظهر لها ملامح عيون نوافذ وشرفات أفواه أشباح تبتسم عن أسنان من قطع الغسيل على أحبال غير مرئية. قال السائق إن البنزين كاد أن ينفد ولا بد وأن يملأ خزّان الوقود، وهو يعرف طلمبة بنزين تقف وحدها دون محطة خلف مبنى حكومي قريب. الطُلمبة مخصّصة لسيارات وحافلات تلك المؤسسة، وهو طالما ملأ سيارته منها مجانًا. فالموظفون لا يغلقونها، وما من حارس ليلي يسهر على حمايتها.
في منتصف نهار اليوم نفسه، كان هذا السائق هو الوحيد الذي قَبِل أن يأخذنا إلى ذلك الحيّ العشوائي، على حدود محافظة القليوبية، والذي كان مرافقيّ الإيطاليون الثلاثة يرغبون في زيارته في مهمّة عمل تخصّ الجمعية التي يعملون بها في نابولي والمتآخية مع الجمعية التي أعمل بها في الجيزة في إطار ما يعرف بـ “التشبيك بين الفاعلين عبر ضفّتي المتوسط”. شابان وفتاة يصغرونني ببضع سنوات: نيكولو وݘيوڨاني وݘينا. بالطبع ݘينا كانت هي موضوعي لا الرحلة ولا المهمة ولا جمعيتهم ولا جمعيتنا ذاتها. كنت أجلس بجوار السائق بصفتي دليلهم ومرشدهم المصري، وإن كنت لم أذهب إلى تلك النواحي قبل ذلك قطّ. شرحت للسائق الاتجاه بالتقريب وذكرت اسم الحي/القرية الذي راح من ذاكرتي تماما بينما أكتب الآن. ركب الزملاء الإيطاليون في الكنبة الخلفية، ووركبت بجوار السائق كديل حقيقي، وأخذت أسترق النظر لݘينا في المرآة وأتابع اندهاشها واتساع عينيها وهي تتفرج من نافذة السيارة على مشاهد الشوارع التي تتوغل في الضواحي لتغادر العمران المديني بالتدريج لتتماهى مع الريف دون فواصل واضحة. ظهرت التُرع والحقول في مساحات متقطعة بين بيوت الطوب الأحمر العارية، وبدأنا نشم ريح الغيطان رويدًا رويدًا يمتصُّ قليلا من التلوث الميكانيكي الذي لا يفارقنا وإن فارقنا الشوارع المكتظّة بالسيارات صادرًا من أعماق سيارتنا نفسها. ما إن اعتادت ݘينا على المشهد الجديد حتى اعتدلت بجذعها في جلستها ناظرةً للأمام، وإذ تعبر عيناها فوق مرآة السيارة لمحتني أتطلع إلى وجهها والتقت عينانا لوهلة، فتبادلنا ابتسامة خفيفة أطرقت بعدها فيما يشبه الخجل.
إذ طالت رحلتنا معًا، عرفتُ السائق باسم عمّ شوقي. بدا ذاهلا بعض الشيء، ذهولا من النوع الذي يُسميه الوعي الشعبي “دروشة” لكن دون محتوى صوفي أو أولياء. درويش مستقل. قال إن الله جعل له طلمبة البنزين تلك متاحةً لأن “قلبه نظيف” فأعمى عنها مسؤولي الشركة والسائقين الآخرين. أنا معه منذ أكثر من أربع ساعات. تركنا المجموعة الإيطالية في تلك القرية. أسفر الموقع عمّا يشبه القناة موصولة بترعة الإسماعيلية تغوص شمالًا في حقول مزروعة بالنعناع الأخضر، وعلى ضفتي تلك الترعة الصغيرة وقفت بيوت على المنحدر. بيوت تتواجه على الضفتين من مسافة قصيرة وبينهما خطّ الماء لا يتجاوز الأربعة أمتار. قال نيكولو إنه يتخيل قصصًا غرامية تنشأ بين مراهقين عبر شبابيك هذه البيوت. انتبهتُ لمواسير تخرج من أسافل البيوت تصبّ الصرف الصحي في الترعة. لم تكن البيوت موصولة بأي شبكة للمياه أو للمجاري، واعتمادها في الإيراد والصرفِ على الترعة ذاتها، في تدوير للمياه عبر أجساد الأهالي. قالت ݘينا: الطبيعة تستعملهم! زودت عليها: تستهلكهم! قال جيوفاني: ولماذا تترك الحكومة هذه المناطق هكذا؟ قلت له: من أجل هذا أُنشئت جمعيتكم وجمعيتنا… أليس كذلك؟ قال: نعم نعم لكن هذا يفوق الحدّ!
يحكي لي عم شوقي عن ركاب ثلاثة كانوا معه اليوم قبل أن نستأجره لهذا المشوار الطويل. رجل وزوجته وأمها، ركبوا من إمبابة إلى الدقي. الزوج في المقعد الأمامي والمرأتان في الخلف. طوال الطريق تعايران الرجل وتلقّحان عليه بإيحاءات “في منتهى الوساخة” قال. والرجل حسب وصفه كان يحاول دون جدوى الدفاع عن نفسه لكن هجوم المرأتين كان كاسحًا، وفي كل مرة يفتح فمه تُخرسه الأم “بس ياللي ما بتعرفش!” يحاول ثانيةً فتقول الزوجة “بس يا مرخي!” وعندما انفجر الرجل صارخًا بعد أن أُهدِرَت كرامته بما فيه الكفاية، خفتت نبرة المرأتين الهجومية وقالت الزوجة لعم شوقي تستشهد به: يرضيك يا حج داخلين على خمس سنين بننام جنب بعض زي الإخوات ومش عايز يطلقني أشوف حالي. وقال الرجل إن مرض السكر هو ما هدّ كيانه، وقد أصابه من عمايل الولية ذي وأمها.
ضحك عم شوقي وقال لي : العالم انجنت!
في ضوء القمر الشاحب وصلنا إلى بناية عالية تبدو من معمار الستينات الحكومي، برج كامل الاستطالة كعلبة كبريت ضخمة من نحو عشرة طوابق بشبابيك صغيرة ، وقرأت اللافتة الكبيرة التي تساقطت بعض أحرفها: شركة الإسكندرية للتبريد. دار عم شوقي بالسيارة حول البناء وفي ظهره كانت طلمبة البنزين تقف في ظل البرج وقد رُسِمت عليها الدوائر الحمر الثلاثة المتداخلة، شعار شركة التعاون للبترول وتحتها كتب رقم ٨٠. أوقف عمّ شوقي السيارة فترجرجت كرجل مسنّ من عمر عمّ شوقي يسعل حتى همد محركها تمامًا.
نظر لي عم شوقي نظرة تواطؤ، ليؤكد أنني صرتُ شريكه في تلك الجريمة الصغيرة. وقال بابتسامة: “ده بنزين حكومة… يعني قطاع عام… من الشعب وإلى الشعب.” وأطفأ سيجارته الأبدية، ونزل من السيارة استعدادًا للمغامرة. وبعد أن ذهب نحو الطلمبة عاد سريعًا ليقول لي من النافذة المفتوحة بجوار مقعد السائق، وقد وقف مستندًا إلى بابها بعد أن أشعل سيجارة جديدة: “ولاد القحبة خالعين البِك بتاع الخرطوم علشان ما نعرفش نموِّن، بس أنا عارف هو فين وهأجيبه.” لأول وهلة تساءلت ما هو بِك الخرطوم؟ كنتُ أعرف أنّ في موتور أي سيارة قطعةٌ تسمى “بِك السلانسيه” وهو صمام يعمل على تزويد المحرك بالوقود ليظل دائرًا والسيارة متوقفة حين تفكّ تعشيق التروس. ولا بد أن ذلك الصمام يشبه في شكله منقار الطائر فأخذ اسمه من بِك التي يعني مُنقارًا باللغة الفرنسية وبيك بالإنجليزية، إذن فـ”بِك الخرطوم” هو الطرف المعدني الذي يدخل في خزان وقود السيارة وينسكب منه البنزين داخلها عن طريق المضخة، مُنقار الخرطوم. والخرطوم لغويًا هو الأنف أو مقدمته. منقار الأنف… كلّ هذه العمليات اللغوية والقياسات تمت في ذهني في أقل من ثانية، فقد أدركت ما يعنيه عم شوقي ببك الخرطوم دون أن أكون سمعت هذه التركيبة من قبل. “ممكن الموبايل بتاعك يا باشا؟” طلب مني عم شوقي هاتفي فسألته إن كان يريد أن أتصل له بأحد الأرقام. فقال إنّه فقط يريد استخدامه ككشاف ضوء حتى يجيء بـ “بك الخرطوم” من غرفة في الجراج يخمِّن أنّهم يخبئونه فيها. أعطيته الهاتف مُطمْئنًا نفسي أنّه لن يسرقه طالما أنا جالس في سيارته ذاتها، وإن بدا هاتفي المتواضع أثمن من سيارته التي نكحها الزمن. وما إن اختفي عن ناظري في الظلمات التي تكتنف ظهر المبنى حتى انتابني قلق من إطلاعه على محتويات الهاتف: الصور والمحادثات المحفوظة عليه. يبدو شوقي معدوم الصلة بالتكنولوجيا فلن يستطيع الوصول لتلك المعلومات، و حتى لو وصل لها فما الضرر؟ ضبطتُ نفسي مُنساقًا في تيار الحمقى العالمي الذي يُضفي أهمية دينية على أتفه المعلومات الشخصية! لكن دقائق طوالاً مرّت ولم يظهر له أثر، فعاد قلقي مرة أخرى متعاظمًا. وأحسست أنني صرت بصدد جريمة حقيقية، لا مجرد لهو أولاد يسرقون البنزين، وأن اختفاءه طوال هذه الدقائق يخفي أمرًا مخيفًا…
بعد يومين كنت أجلس مع ݘينا في البار بسطح ذلك الفندق المتواضع بشارع عبد الحميد سعيد في وسط البلد. نجحتُ في استلالها من بين زميليها نيكولو وجيوفاني، والأهم، من بين براثن مديري في الجمعية ومؤسسها الذي حاول إغراءها بالأسلوب الطفولي لمُحدِث النعم، بسيارته الجيب شيروكي وشقته الفخمة حيث أقام حفلًا على شرفهم في الليلة السابقة، ودُعيت انا للمرة الأخيرة إلى منزل طارق الصافي، مديري، الذي سأصفه منذ اللحظة بـ”السابق”.
سطح الفندق شرفة متسعة تطل على حواري وممرات المنطقة المحصورة بين شارعي طلعت حرب وشامليون. أرضية الشرفة مفروشة بموكيت أخضر أشبه بالنجيل الصناعي. جلسنا إلى طاولة ملاصقة للسور. والمكان مزدحم طاولاته مشغولة في معظمها. كانت هناك مغنية تُسلي الزبائن في الشرفة بأغنيات محمد فوزي بصحبة عازف كمان. كانا قريبين من موقعنا عند طرف الشرفة، يقفان تحت مصباح مُسلّط عليهما، وفيما يتحركان اندماجًا مع اللحن جيئةً وذهابًا، يراوغان حزمة الضوء القوية الساقطة عليهما ليسكنا الظلال لوهلة ثم يعودان للضوء من جديد. العازف بارع وموسيقى فوزي جميلة، والمرأة صوتها جيّد لكنّها تخطئ في كلمات الأغنية “يا ساكن في الهوى قلب وساكن في الديار جاري…” كانت تقولها “وساكن في الديار داري”. شقراء تبدو “بنت عز” جار عليها الزمن، ترتدي فستانًا أنيقا من القطيفة السوداء كبذلة زميلها العازف. ولكن بعودتهما لحزمة الضوء يبدو جليًا اهتراء الفستان والبذلة وبلاؤهما. قلتُ: ربما يراوغان الظلال للحفاظ على المظهر الأنيق في رحابها الساتر. ثم كانت الوصلة الثانية “أول ما الحلوة فتحت شباكها… فتحت باب قلبي للشوق طوالي” أصاب الشباب المتواجدين حالة من الطرب مع ذلك اللحن الذي أدّته ببراعة لا غبار عليها، حتى الأجانب القلائل المتواجدون في البار، كانوا يتراقصون على مقاعدهم. ولمحتُ عينيّ ݘينا تبرق وتبتسم انتشاءً بالأغنية. “ليه بس يا قلبي تبص لفوق تبص لفوق… الشوق الشوق دوبني…” كانت تلك قفلةٌ جيدة استحقت تصفيق كلّ من في الشرفة، ووجدها العازف فرصةً سانحة ليفتح صندوق الكمان ويضعه على الطاولة المجاورة لهما يدعو الجالسين لـ”تنقيطهما”. كان صندوق الآلة الموسيقية المفتوح رمزًا عالميًا فهمته ݘينا وأخذت تبحث في حقيبة يدها عن أي نقود، فعثرت على ورقة من فئة العشرة يورو وذهبت وضعتها في صندوق الكمان بابتسامة سحرت المغنية قبل العازف. وكان ذلك مبلغًا يفوق أي “نقطة” وضعها الزبائن الآخرون الذين أخذوا يرمون في الصندوق أوراق الخمسات والعشرات المصرية، فاليورو بثمانية جُنيهات مما تعدون.
المكان: مسرح شقة طارق الصافي مديري السابق وزميلي الأسبق بالجامعة.
الزمن: الأمس مساءً.
الشخوص: أنا وݘينا وطارق.
وصلت مبكرًا، ولم يكن هناك سوى طارق وثلاث نساء لا أعرفهن. دعاني طارق بلطف لأن أشرب شيئًا، فاتجهت إلى طاولة جانبية وُضِعَت عليها زجاجات متنوعة، صببت كأسًا من الويسكي مع قطعتي ثلج وجلست على إحدى الأرائك أرتشف منه حتى بدأ المدعوون في التوافد والتوزع في أرجاء الشقة الواسعة. كان أكثرهم من مجال العمل التنموي مع أشخاص آخرين من مناحٍ مختلفة. وتغير نوع الموسيقى من الجاز الهادئ الذي كان في الخلفية لحظة وصولي إلى مهرجانات شعبية في صخب تزايد تدريجيًا داخل الشقة كطنين جمهور المسرح قبل رفع الستار. وعند وصول الثلاثي الإيطالي أُطفئت الأنوار في الصالة وذاب نيكولو وجيوفاني في الجمهور ليرتفع الستار عن ݘينا بحزمة ضوء مسلّطة عليها حصريًا، تقترب من الأريكة التي أجلس عليها، فأقوم لتحيتها وتجلس هي على المقعد المجاور لأريكتي يشكل معها زاوية قائمةً. ترتدي تنورة زرقاء قصيرة تظهر ساقيها الجميلتين. وتقاربت ركبتانا في جلستينا. وأخذت تحكي لي عن مغامرتها بالأمس بعد أن تركتهم في تلك القرية على الترعة، وعن الصور التي التقطتها، وحالات الأمراض من جرّاء تلوّث المياه التي وثّقتها. كان طالب جامعي من هناك قد ظهر لنا بعد وصولنا بفترة قصيرة، ولدى اكتشافنا أنّه يحسن الإنجليزية قررت أنا تركهم هناك يعملون، والعودة مع عم شوقي. وتعهّد الجامعي بأن يقوم لهم بدور الدليل في القرية، وقال إنه سيطلب لهم ميكروباصًا مكيفًّا يملكه أحد أقاربه ليعود بهم إلى الجيزة، وهو ما استحسنه ثلاثتهم رغبةً في الفرار من سيارة عم شوقي ودخّانها.
قالت ݘينا إن الشاب قادهم إلى بيوت يعرف مدى تضرر أهلها من مشكلة المياه في القرية التي تبعد كيلومترات قليلة عن مراكز حضرية ضخمة. وقالت إن بعض الأهالي اهتاجوا عليهم والتمَّت مجموعة من الملتحين كادوا أن يفتكوا بالشاب الجامعي، وظنّوا أنّهم جواسيس أو صحفيون أجانب يريدون التشهير بهم في الخارج، ولم يهدأ الجمع إلا بعد أن أثبت لهم نيكولو بالأوراق أنّهم جاءوا لمساعدة الأهالي في حلّ جذري لمشكلة المياه، وأنّهم يفعلون ذلك في مناطق مختلفة من العالم. وفرّجهم على صور لمناطق وحالات مماثلة من بلاد مختلفة، من أعمال جمعيتهم، وأطلعهم أيضًا على صور للنتائج التي تحقّقت بعد تدخلاتهم وإشراك المجتمع المدني مع الحكومات في عمليات ترميم البنى التحتية لشبكات المياه والصرف، أو إنشائها من العدم.
كانت ݘينا تتكلم بتلك اللغة السائدة في أدبيات ما يسمى بمنظّمات المجتمع المدني، لكنني كنت أُصدقها على لسانها، وأراها خاويةً بلا مضمون على لسان زملائنا في المجال، أو هي ربما الترجمة العربية السيئة لهذه المصطلحات جعلتها بلا معنى تُشير لخواء العملية كلّها. كنتُ أتابعها تحكي شغوفةً، وتفرّجني على الصور التي التقطتها بتليفونها للحالات التي وثقتها هناك لأثر تلوّث المياه على صحة الأهالي: نساء ورجال مُسنون وقد تورّمت سيقانهم وازرق لونُها من أمراض الكُلى، أطفال مصابون بالاستسقاء انتفخت بطونهم بماء تعطّل الكبد، وضروب مختلفة من البؤس والهُزال. أعرف أني تحججت بالأمس كي أهرب من رؤية تلك المناظر التي كنتُ أعرف بوجودها، وأنساها. يُفترض أن يكون عملُنا الأساسي على الأرض كعمل الجمعية الإيطالية. لكننا نكتفي بالأبحاث التي ننقل بياناتها من على الانترنت، وبإقامة ورشات العمل لتدريب باحثين شباب على العمل البحثي المكتبي واستخراج البيانات من على الانترنت، ومن ثم عقد ندوات ومؤتمرات لترديد توصيات منظمات الأمم الأمم المتحدة المختلفة، والأهم تعليمات البنك الدولي، فتظهر أوجه الإنفاق شفافةً مستوفية كل البنود التي تم إدراجها في تقرير الميزانية المقدّم للجهات المانحة! كنتُ أشعر بالخزي من تلك المناظر التي صورتها، كأنّها عورتي انكشفت في محفل برجوازي، كمن وجد نفسه حافي القدمين يسير في شوارع أحد الأحلام. وخزي مضاعف من تقاعسنا المهني الذي كشفه نشاط هذه الجمعية الإيطالية المتآخية مع جمعيتنا تحت الشعار ذاته: الحق في المياه! لحظتها دخل إلى المشهد طارق الصافي يحمل كأسًا من النبيذ الأحمر وقد تسلّطت عليه حزمة الضوء ليجلس على مسند مقعدي بابتسامة صفراء ويقول موجهًا حديثه لي بالإنجليزية كي يشرك ݘينا في تهكمه:
-
السيد كافكا عميد الاكتئاب العربي جالس يشرب ويسكي سينجل مولت ويضحك، يا للهول!
رددت عليه بالعربيه:
-
الويسكي السينجل مولت من خيرات السيد المناضل ليون تروتسكي اللي بقى ينشر توصيات البنك الدولي من باب الثورة الدائمة!