
Colm Tóibín by Phoebe Ling. Source: colmtoibin.com
يطلّ القمر من قرب على تكساس. القمر هو أمي. هي مكتملةٌ الليلة، وأكثر سطوعًا من أسطع مصباح نيون؛ هناك تعاريج من الأحمر في لونها العنبري المنبسط. ربما كانت قمر حصاد، قمر كومانتش، لا أعلم. لم أر أبدا قُمْرة بهذا القرب، وحريصة لهذه الدرجة على بريقها العميق. الليلة، ستكون أمي قد توفيت منذ ست سنوات، وأيرلندا على بعد ست ساعات وأنت نائم.
أسير. لا أحد يسير سواي. من الصعب عبور شارع جودالوب؛ تمرق السيارات مسرعة. في متجر الجُملة للسلع الغذائية كلنا مرحب بنا، تسألني الفتاة عند المخرج إن كنت أود الحصول على عضوية المتجر. لو دفعت سبعين دولاراً، عضويتي لن تنقضي كما تقول، وسأحصل على سبعة في المئة خصم على كل المشتريات.
ست سنوات. ست ساعات. سبعون دولاراً. سبعة في المئة. أقول لها إني هنا لبضعة أشهر فقط، تبتسم وتقول مرحبا بك. أبتسم بالمقابل. مازلت أستطيع أن أبتسم. لو اتصلت بك الآن، ستكون الثانية والنصف صباحا؛ على الأرجح ستكون مستيقظا.
إن اتصلت، سأستطيع الخوض في كل ما حدث منذ ست سنوات. لأن هذا ما يدور برأسي الليلة، وكأن الوقت لم ينقض. وكأن قوة ضوء القمر قد اختارت الليلة، بسحر عنيف، لترجع بي لآخر شئ حقيقي حدث لي. على الهاتف معك عبر الأطلنطي، قد استرجع الأيام حول جنازة أمي. قد استرجع كل التفاصيل، كأني في خطر نسيانها. قد أذكّرك، على سبيل المثال، أنّك ارتديت قميصًا أبيض في الجنازة. لابد وأن الجو كان دافئا حتى لا ترتدي سترة فوقه. أذكر أنني استطعت رؤيتك وأنا أقول كلمتي عنها عند المذبح، كنتَ بالصف الجانبي، على اليسار. أذكر أنّك، أو شخص آخر، قلتَ إنك أوقفت سيارتك تقريبا أمام الكاتدرائية لأنك وصلت متأخرًا من دبلن ولم تستطع العثور على مكان آخر لإيقافها. أعلم أنك حركت سيارتك قبل أن تصل عربة الموتى بعد القداس لتنقل تابوت أمي إلى المقابر، وكلنا سرنا خلفها. جئتَ إلى الفندق فور دفنها، وبقيت من أجل وجبة معي أنا وسوزي، أختي. جو، زوجها، وكان قريبا لابد وكاثال، أخي. لكني لا أذكر ماذا فعلوا بعد إنتهاء الوجبة وتفرُّق الجمع. أعرف أن بالقرب من إنتهاء الوجبة اقتربت صديقةٌ لأمي، لاحظت كل شئ، ونظرت إليك وهمست لي بأنه كرم من صديقك أن يحضر. استخدمت كلمة “صديق” بنبرة تلميح عذبة. لم أقل لها إن ما لاحظته لم يعد قائمًا، إنه أصبح جزءً من الماضي. قلت ببساطة: نعم، كرم منه أن يحضر.
تعلم أنّك الوحيد الذي يهزّ رأسه في نفاد صبر عندما أصرُّ على اختلاق النكات والأحاديث التافهة، عندما أرفض أن أكون مباشرا. لم يهتم أحد بهذا مثلك. أنت الوحيد الذي يريدني دوما أن أقول شيئا حقيقيا. أعرف الآن، أثناء اتجاهي للمنزل الذي استأجرته هنا، أنني لو اتصلت وأخبرتك أن الماضي المرير استيقظ الليلة في هذه الشوارع الغريبة بقوة أشبه بالعنف، ستقول إنك لست متفاجئا. ستتساءَل فقط لماذا استغرق ست سنوات.
كنت أعيش في نيويورك وقتها، والمدينة على وشك الدخول في آخر سنوات براءَتِها. حصلتُ على شقة جديدة هناك، تماما مثل حصولي على شقة جديدة في كل مكان أذهب إليه. كانت على جادة كولومبوس والشارع التاسع عشر. لم ترها. كان خطأ. أعتقد أنه كان خطأ. لم أسكن طويلا هناك – ستة أو سبعة أشهر – ولكنها أطول فترة أسكن فيها أي مكان خلال تلك السنوات أو السنوات اللاحقة . احتاجت الشقة إلى فرش، أمضيت يومين أو ثلاثة مستمتعا بحمى التبضع: مقعدان كبيران مريحان أرسلتهما لاحقا إلى أيرلندا؛ كنبة جلدية من متجر بلومينجديل، أعطيتها في النهاية لأحد تلاميذي؛ سرير كبير من متجر ٨٠٠-١ ماترز؛ طاولة وبعض الكراسي من محلّ في وسط المدينة؛ مكتب رخيص من متجر سلع مستعملة. وكل تلك الأيام – الجمعة والسبت والأحد، في بداية سبتمبر – بينما كنت مشغولا بمواعيد التوصيل، كروت الائتمان، رحلات سيارات الأجرة الخاطفة من متجر إلى متجر، كانت أمي تموت ولم يتمكن أحدٌ من العثور عليّ. لم يكن لدي محمول، ولم يكن تليفون المنزل موصلاً. كنتُ استخدم كابينة التليفون على الناصية إن احتجت للاتصال. أعطيت شركات التوصيل رقم صديقة في حال أرادوا إخباري بوقت وصولهم بالأثاث. وكنتُ أتصل بصديقتي عدة مرات في اليوم، صحبتني أحيانا أثناء التبضع وكانت مرحة واستمتعت بتلك الأيام. أيام لم يستطع أحد في أيرلندا العثور عليّ ليخبرني أن أمي تموت.
في النهاية، في ساعة متأخرة من ليلة الأحد، انزلقتُ داخلًا أحد مقاهي الانترنت وفتحت بريدي لأكتشف أن سوزي قد تركت لي رسالة تلو رسالة، بدأت منذ ثلاثة أيام، معنوّنة بـ”عاجل” أو “هل أنت هناك؟” أو “أرجوك أجب” أو “أرجوك اعلمني بوصول الرسالة” ثم “أرجوك!!!” فقط، قرأت واحدة منها، وأجبت أني سوف أتصل فور عثوري على تليفون، ثم قرأت بقيتها واحدة بعد الأخرى. كانت أمي في المستشفى. ربما اضطرت للقيام بعملية. أرادت سوزي أن أتصل بها. كانت مقيمة بمنزل أمي. لم يكن هناك المزيد بأي رسالة منها، لم تكن الحاجة الملحة في نغمة محتواها قدر ما ظهرت في وتيرتها والعناوين المختلفة التي أعطتها لكلّ رسالة الكترونية أرسلتها.
أيقظتها بالليل في أيرلندا. تخيّلتها واقفة في القاعة أسفل السلالم. كنت أود لو قالت سوزي إن أمي تسأل عني، لكنها لم تقل شيئا كهذا. تكلمت بدلا من ذلك عن التفاصيل الطبية وكيف وصلها خبر أن أمنا في المستشفى، وكيف كانت يائسة من العثور عليّ. أخبرتها أنني سأتصل بها مرة أخرى في الصباح، وقالت إنها لن تكون عرفت المزيد حينها. أمي لا تتألم الآن، قالت، على الرغم من أنها كانت تتألم قبل ذلك. لم أُخبرها أن محاضراتي ستبدأ خلال ثلاثة أيام، لم تكن هناك حاجة لذلك. تلك الليلة، بدت وكأنّها أرادت فقط أن تتحدث معي، أن تخبرني. لا شئ أكثر.
لكن عندما اتصلت في الصباح أدركت أنها فكرت قليلا بمجرد سماعها صوتي في التليفون، أنها علمت أني لن استطيع الترتيب للمغادرة إلى دبلن متأخرًا في ليلة أحد. لن تكون هناك أية رحلات حتى المساء التالي؛ قررتْ ألّا تقول شيئًا حتى الصباح. كانت تريدني أن أحظي بنومة هادئة. وفعلتُ، وفي الصباح عندما اتصلت قالت ببساطة إن قريبا جدا سوف تكون هناك لحظة تتخذ فيها العائلة قرارًا. تحدثت عن “العائلة” وكأنها شئ بعيد مثل المجلس المحلي أو الحكومة أو الأمم المتحدة، لكنها علمت وأنا علمت أنه لا يوجد سوى ثلاثتنا. كنا العائلة، وهناك شئ وحيد يطلب من العائلة تقريره في المستشفى. أخبرتها أني قادم إلى الوطن، سألحق بالرحلة القادمة. لن أكون متواجدًا بالمنزل لبعض توصيلات المفروشات، ولن أكون بالجامعة لمحاضراتي الأولى. في المقابل، سأجد رحلةً إلى دبلن، وسأراها في أقرب وقت ممكن. اتصلت صديقتي بشركة طيران إير لينجوس واكتشفت أن بعض المقاعد تركت خالية لاحتمالات كهذه. يمكنني الرحيل هذا المساء.
تعلم أني لا أؤمن بالرب. لا أبالي كثيرا بأسرار الكون، إلا إنْ جاءت إلي على هيئة كلمات، أو ربما موسيقى، أو تشكيلة ألوان، حينها أستقبلها بترحاب لمجرد جمالها ولفترة وجيزة فقط. ولا أؤمن حتى بأيرلندا. لكنك أيضًا تعلم أن خلال هذه السنوات من الابتعاد، كانت هناك أوقات تأتي بها أيرلندا إلىّ في صورة مفاجئة، عندما أرى تلميحاً لشئ مألوف أريده وأحتاجه. أرى أحدهم قادمًا نحوي بابتسام رقيق، أو وجه عنيد متقلب، أو متحرك بحذر في مكان عام، أو تحديق بارد، وحانق تقريباً، على مسافة متوسطة. على أي حال، ذهبت إلى مطار نيويورك جيه إف كيه ذلك المساء، ورأيتهم فور نزولي من سيارة الأجرة: زوجان في منتصف العمر يدفعان بعربة حملت أمتعة أكثر من اللازم. بدا الرجل متخوفًا وضعيفًا، كأنه على وشك أن يُسأل في أية لحظة فلا يعرف كيف يدافع عن نفسه، والمرأة بدت منهكة مضجرة، ملابسها ملوّنة أكثر من اللازم، كعبها عال أكثر من اللازم، يتخذ فمها وضع الحسم القاطع، لكن عينيها مستسلمتان في تواضع.
كنت أستطيع التحدث إليهم بسهولة وإخبارهم لماذا أنا عائد للوطن وكانا ليقفا ويسألاني من أين أنا، وكانا سيومئان بتفهم أثناء حديثي. حتى الشباب في طابور الدخول، ذاهبون إلى الوطن لراحة سريعة. أن أنظر فقط لوقفتهم المؤقتة وأقف بصحبتهم دون أن أقول شيئا، سيضيف ذلك طبيعية للموقف. استطعت التنفس لوهلة بدون قلق، بدون الحاجة إلى التفكير. أنا أيضا قد أبدو مثلهم، كأني لم أملك شيئا، أو ما لا يُذكر، ومستعد للابتسام برقة أو الحفاظ على مسافة بدون عجرفة إن قال أحدهم “معذرة” أو اقترب مسؤول.
عندما استلمت تذكرتي، وذهبت إلى مكتب الدخول، قيل لي أن أذهب للمكتب الآخر المعني بدرجة رجال الأعمال. خطر لي، بينما أخذت حقيبتي، أنّها ربما تكون سياسة خطوط الطيران، تعزية الذاهبين إلى الوطن لأسباب كأسبابي، بترقية في درجة السفر، والاعتناء بهم ليلا بتعاطف وبطانية إضافية أو شيء كهذا. لكن عندما وصلت للمكتب عرفت لماذا أرسلوني إلى هناك، وتساءلت عن الرب وأيرلندا، لأن المرأة عند المكتب قد رأت اسمي يضاف للقائمة وقالت للآخرين إنّها تعرفني وتود مساعدتي الآن بما أني احتاج للمساعدة.
كان اسمها فرانسيس كيري، وكانت تقيم بالمنزل المجاور لمنزل خالتي، حيث أودعونا – أنا وكاثال – عندما مرض أبي. كنتُ بالثامنة حينها. لابد أن فرانسيس كانت أكبر بعشرة سنوات، لكني أتذكّرها جيدا، كما أتذكّر أختها وأخويها الاثنين، أحدهما كان قريبا من عمري. تملك عائلتهم المنزل الذي عاشت به خالتي، الخالة التي استضافتنا. كانوا أعظم شأنًا منها وأغنى بكثير، لكنّها صارت صديقتهم. وكان هناك، بما أن البيتين اشتركا في حديقة خلفية ضخمة وبعض المباني الخارجية، الكثير من الحركة بين الأسرتين.
كان كاثال في الرابعة حينها، لكن عقله أكبر من عمره. كان بالفعل يتعلّم القراءة، ذكيَّا وله ذاكرة هائلة، يتعاملون معه في المنزل كفتى كبير لا كطفل؛ يستطيع اختيار ما يرتدي من ملابس كل يوم وأية قناة تلفزيونية يشاهد وأية غرفة يجلس بها وأي طعام سيأكل. وعندما يتصل أصدقاؤه بالمنزل، يستطيع دعوتهم بحرية، أو الخروج معهم. وعندما يتصل أقارب أو أصدقاء لأبوَي، يسألون عنه، ويتكلمون معه ويستمعون بتشوق لما يقول.
في كل السنوات اللاحقة، لم نتحدث أنا وكاثال مرة عن وقتنا في هذا المنزل الجديد مع هذه العائلة الجديدة. وذاكرتي، عادة جيدة جدا، ليست دوما نقية. لا استطيع تذكر، على سبيل المثال، كيف وصلنا إلى المنزل، من أقلَنا إلى هناك، أو ما قاله هذا الشخص. أعلم فقط أني كنت بالثامنة، لأني أذكر بأي فصل كنت في المدرسة عندما غادرت ومن كان المدرس. من المحتمل أن تكون هذه الفترة قد استمرت لشهرين أو ثلاثة أشهر فقط. ربما كانت أكثر. لم يكن صيفًا، أنا متأكد من ذلك، لأن سوزي، التي نجت من كل هذه الحكاية (أو هذا ما قالت لي، عندما سألتها مرة قبل عدة سنوات، إن كانت تذكر تلك الفترة)، كانت قد رجعت لمدرستها الداخلية. ليست لدي ذكرى لطقس بارد في ذلك المنزل الذي تم إيداعنا به، ومع ذلك أذكر أن الأمسيات كانت تُظلم مبكرا. ربما كانت من سبتمبر إلى ديسمبر. أو الشهور الأولى بعد عيد الميلاد. لست واثقا.
ما اتذكره بوضوح هي الغرف ذاتها، البهو وغرفة طعام لم تستخدم أبدًا تقريبًا، والمطبخ، كانت أكبر من غرف منزلنا، ورائحة وطعم الخبز المقلي. كرهت الشرائح الساخنة السميكة، ساخنة من المقلاة، غارقة تنز بدهن الخنزير. أذكر أن أولاد خالتنا كانوا أصغر سنا منا واضطروا للنوم خلال النهار، أو على الأقل أحدهم كان يفعل ذلك، وتوجب علينا البقاء هادئين لساعات في الجهة الأخرى بلا شيء نفعله؛ فلم تكن معنا أي من لعبنا أو كتبنا. أذكر لم يحبنا أحد، كلينا، ولا حتى كاثال الذي، قبل وبعد هذا الحدث، كان محبوبًا جدا من كل من قابله.
احتملنا المبيت في منزل خالتي وتناول طعامها على قدر استطاعتنا. لابد وأننا كنا نلهو أو نفعل شيئا ما، لكننا لم نذهب إلى المدرسة. لم يؤذنا أحدا في هذا البيت؛ لم يقترب منا أحد بالليل، أو يضرب أيًّا منا، أو يقوك بتهديده، أو يرهبنا. لم يصحب ذلك الوقت، الذي تركتنا فيه أمنا في منزل خالتنا، أية دراما. تعاملت خالتنا معنا بطريقتها الخاصة من عدم التركيز. كان زوجها دمثًا، متباعدًا، وفي مزاج معتدل غالبًا.
وكل ما أعرفه أن أمنا لم تتصل بنا بتاتا وقتها، ولا مرة واحدة، أثناء تلك الفترة. لم يكن هناك أي خطاب أو مكالمة تليفون أو زيارة. كان أبونا في المستشفى. لم نعرف إلى متى سيتركوننا هناك. في السنوات اللاحقة، لم تشرح أمي أسباب غيابها، ولم نسألها إذا كانت تساءلت عن أحوالنا، أو عن شعورنا، أثناء تلك الأشهر.
هذا يجب ألا يكون شئ، لأنه لا يعني شيئاً، تماما كما يمثل واحد ناقص واحد صفرا. بالكاد يستحق السرد لك بينما أمشي في الشوارع الخالية لتلك المدينة في الصحراء بعيدا جدًا عن حيث انتمي. أشعر وكأنني وكاثال قد أمضينا تلك الفترة في عالم الظلال، كأنهم هبطوا بنا إلى الظلام، كل ما هو مألوف لنا مفتقد، ولا شئ قلناه أو فعلناه كان يمكنه أن يغير ذلك. ولأن أحدًا لم يعطنا إشارة على كرهنا، لم نفكر بأننا في عالم لم يحبنا به أحد، أو أن أمراً كهذا قد يعنينا. لم نشتك. تم تفريغنا من كل شئ، واحتل الفراغ شئ مثل الصمت: تقريبا لا صوت على الإطلاق، مجرد بعض الأصداء الحزينة والمشاعر المعتمة.
أعدك ألا أتصل. اتصلت بك بما يكفي، وأيقظتك مرات عديدة، في تلك السنوات التي كنا فيها معا، والسنوات التي بعدها. لكن الآن، ثمة ليال تمر عليّ في هذا المكان الغريب، السطحي، والمهجور، تأتيني فيها تلك الأصداء الحزينة والمشاعر الخافتة بصوت أعلى من قبل. كالهمسات، أو أصوات النشيج المحصورة، فأتمنى لو كنتَ هنا. وليتني لم أتصل بك كل تلك المرات، فأنا لم أحتج إلى ذلك كما أحتاجه الآن.
تعلمت وأخي ألا نثق بأحد. تعلمنا حينها ألا نتكلم عن الأمور التى تهمنا، والتزمنا بذلك، على قدر استطاعتنا، بنوع من كبرياء قاتم عنيد، طوال حياتنا، كأنها مهارة. لكنك تعرف هذا، أليس كذلك؟ لا أحتاج إلى الإتصال بك لأخبرك ذلك.
في مطار نيويورك تلك الليلة، ابتسمت فرانسيس كيري بدفء وسألتني عن مدى سوء الأمور. عندما أخبرتها أن أمي تموت، قالت إنها مصدومة. قالت إنها تتذكر أمي جيدًا. قالت إنها آسفة. شرحت أنني استطيع استخدام استراحة الدرجة الأولى، وضَّحت بألطف أسلوب ممكن، أنني سأعبر الأطلنطي في الدرجة الاقتصادية، التي دفعت ثمنها. وقالت إن احتجت إليها يمكنها أن تأتي للاستراحة بعد قليل للحديث معي، لكنها أخبرت العاملين بها وطاقم الطائرة أنها تعرفني، وسيعتنون بي.
أثناء حديثنا ووسمها لأمتعتي وإعطائي بطاقة ركوب الطائرة، قدّرت أن عيني لم ترها لأكثر من ثلاثين سنة. لكن في وجهها استطعت رؤية تلك الشخصية التي كنت أعرفها، بالإضافة لآثار من أمها وأحد أخوتها. جلب حضورها تذكارا بذلك المنزل الذي تُركت به أنا وكاثال منذ سنوات طويلة مضت، فشعرت أن رجوعي إلى الوطن بجانب فراش أمي لن يكون بالهين، أن بعض محبتنا وارتباطاتنا بدائية وبمعزل عن إاتياراتنا، ولهذا السبب ذاته تأتي متبلة بألم وندم وحاجة وعمق وشعور أقرب إلى الغضب من أي شعور سأقدر على مواجهته.
في وقت ما بالليل في تلك الطائرة، وأثناء عبورنا لجزء من نصف الكرة الغربي، في سكون، ودون أن يلحظني أحد كما أتمنى، بدأت في البكاء. رجعت حينها إلى العالم البسيط قبل مقابلة فرانسيس كيري، عالم كان نبض قلب أحدهم لمرة نبضي، ودمه صار دمي، وبداخل جسمه رقدت متكورا، هي نفسها ترقد منكوبة في سرير مستشفى. الخوف من فقدانها جعلني حزيناً يائساً. فحاولت أن أنام. دفعت مقعدي إلى الخلف بينما ساد الليل وجنبت عيني الفيلم المعروض، أيا كان، وتركت الأمر المروّع الذي كنت أتجه إليه يصدمني.
استأجرت سيارة من المطار، وقدتها خلال دبلن وسط الضوء المنجرف لذلك النهار الباكر لسبتمبر. قدت خلال درامكوندرا، شارع دورسيت، ميدان ماونتجوي، شارع جاردينر، والشوارع في الضفة الأخرى من النهر المؤدية إلى الجنوب، كأنها جلد ألقيه خلفي. لم أتوقف طوال ساعتين أو أكثر، حتى وصلت إلى المنزل، خوفا من أن أتوقف بمكان ما للفطور فيتركني الخدر الذي جلبته القيادة دون نوم.
كانت سوزي قد غادرت الفراش لتوّها عندما وصلت، وجيم كان مازال نائمًا. كاثال رجع إلى دبلن الليلة السابقة، قالت، لكنّه سيعود لاحقا. تنهدتْ ونظرت إلي ثم أكملت: اتصلَ المستشفى، ازدادت الأمور سوءً. أمك أُصيبت بسكتة أثناء الليل فوق كل شئ آخر. قالت “أمك”، كانت مزحة قديمة بيننا: لا “أمنا” أو “أمي” أو “ماما” أو “مامي”، بل “أمك”.
لم يدرك الأطباء مدى سوء السكتة، قالت، ومازالوا قادرين على إجراء العملية لو صرِّحَ لهم. لكنهم بحاجة للحديث معنا. كانت مأساة، أضافت، أن طبيب أمي الخاص، الأخصائي الذي كان يتابع قلبها، الذي تزوره بشكل منتظم وترتاح معه، كان غائبا. أدركت حينها لماذا رجع كاثال إلى دبلن: لم يُرد أن يكون طرفًا في الحوار مع الأطباء. يكفي اثنان منّا. وكان قد أخبر سوزي أن تخبرني أن أيًّا كان ما سنقرره سيكون موافقًا عليه.
لم نلُمه. كان هو من صار مقربًا منها. كان هو أكثر من أحبت. أو ربما كان الوحيد الذي أحبته. في هذه السنوات على أي حال. أو ربما كان ذلك ظلما. ربما أحبتنا كلنا، تماما كما أحببناها وهي راقدة تموت.
ومضت تلك الأيام – من صباح الثلاثاء ذاك إلى ليلة الجمعة حين ماتت – في تراوح بين الشعور ببُعد عظيم عنها والرغبة العنيفة تقريبا في نفس اللحظة، في عودة أمي إلى حيث كانت دائما، صاحبة الأمر بذكاء في عالمها، مسكونة بأحلام ووجهات نظر غرائبية، مستعدة للحياة. كانت تحب، كما أحببت مثلها، الكتب والموسيقى والطقس الحار. ومع تقدمها في العمر حازت سحرًا خاصًا، لدى أصدقائها ولدينا، بلمساتها الخفيفة ونبرتها الرقيقة. لكنني كنت أعرف أنه لا يجب التعويل على تلك الخفّة، والاقتراب منها، ولم أفعل مطلقا. وعمدت عوضًا عن ذلك إلى إفراز سحري الخاص وخفتي، لكنك تعلم ذلك، أيضا. لاحاجة لأن أخبرك به ثانيةً. أليس كذلك؟
ومع ذلك ندمت، حين جلست بجانب سريرها أو غادرت حتى يستطيع الآخرون رؤيتها… على ابتعادي الشديد عنها، وعلى بقائي بعيدا. ندمت على تركي لتلك الشهور تبعدني عنها في ذلك البرزخ منزل خالتي، والسنوات الللاحقة، حين كان أبي يموت ببطء، يستنفد روحي. ندمت على قلة معرفتها بي، كما لابد وأنها ندمت على ذلك، على الرغم من عدم شكواها أو علامها أحداً بالأمر ، ربما باستثناء كاثال، الذي لم يقل شيئا لأحد بدوره. ربما لم تندم على شئ. لكن في ليالي الشتاء الطويلة، عندما يهبط الظلام في الساعة يمسي لدى الناس متسع من الوقت للتفكير في كل شئ.
ربما أنا هنا الآن لهذا السبب، بعيدًا عن الظلام الأيرلندي، بعيدًا عن الشتاء الطويل القارس الذي يخيّم كالخطر على مسقط رأسي. أنا بعيد عن الرياح الشرقية. أنا بمكان معظمه مقفر لأنه لم يكن مأهولا قط، حيث الأشياء المنسية المزاحة بعيداً، إن كان هناك أشياء من الأصل. أنا في مكان لا شئ به. سهول منبسطة، سماء زرقاء، ليلة رقيقة دون أشباح. مكان لا يسير به أحد. لعلّْي سعيد هنا أكثر مما سأكون بأي مكان آخر، وفقط براءة القمر السامة الليلة هي ما جعلتني أريد الاتصال بك لأرى إن كنت مستيقظا.
ونحن في السيارة ذاهبين لرؤية أمي ذاك الصباح، لم أقدر على طرح التساؤل الذي دار في رأسي على سوزي. أمي مريضة منذ أربعة أيام الآن، وهي راقدة هناك ربما في هلع، أتساءل إن كانت مدّت يدها إلى كاثال وإن كانت أمسكت بيده في المستشفى، إن كانا اقتربا فعليا بشكل كاف لذلك. أو إن كانت قامت بأي إيماءة لسوزي. وإن كان من الممكن أن تفعل نفس الشئ معي. كان تفكيرًا غبياً وأنانياً، وككل شئ آخر حضر إلى ذهني تلك الأيام، سمح لي بتجنب حقيقة أنه ما من وقت متبق لتفسير أو قول أي شئ. استنفدنا كل الوقت. وتساءلت إن كان ذلك قد فرق مع أمي حينها، بينما ترقد مستيقظةً في المستشفى تلك الليالي الأخيرة من حياتها، أننا استنفدنا كلّ الوقت.
كانت في العناية المركزة. اضطررنا لرن الجرس والإنتظار قبل السماح لنا بالدخول. ساد سكوت بالمكان. ناقشنا ما سأقوله لها حتى لا أقلقها، كيف سأوضح سبب عودتي. أخبرت سوزي أني سأقول ببساطة إنني سمعت أنّها في المستشفى ولدي بضعة أيام قبل بدء الدراسة وقررت العودة للاطمئنان عليها.
“هل تشعرين بتحسن؟” سألتها.
لم تستطع الكلام. ببطء ومشقة، أعلمتنا أنها ظمآنة وأنهم لن يسمحوا لها بشرب أي شئ. لديها محقنة للأوردة في ذراعها. قلنا للممرضات إنّ فمها جاف، وقلن إنه ليس هناك ما يمكنهن فعله، باستثناء ربما أخذ بعض قطرات الماء البارد ووضعها على شفتيها مستخدمين تلك الأعواد الصغيرة المزودة برؤوس قطنية التي تستخدمها النساء لوضع الماكياج فوق عيونهن.
جلست بجوار فراشها وأمضيت بعض الوقت أبلل شفتيها. كنت في المنزل معها الآن. أعرف كم كانت تكره المتاعب الجسدية؛ شهيتها لهذه المياه كانت تستغرقها وتلح عليها بحيث لم يعد أي شيء آخر يعنيها.
وتم إخبارنا أن الأطباء سيقابلوننا. عندما وقفنا وأخبرناها أننا سنعود، أجابت بالكاد. واصطحبتنا ممرضة ذات لهجة إنجليزية هبوطا ببعض الممرات إلى غرفة. كان هناك طبيبان؛ ظلّت الممرضة بالغرفة. قال الطبيب، الذي بدا وكأنه هو المسؤول، والذي قال إنه هو من سيقوم بالعملية، إنه قد تحدث لتوّه مع طبيب التخدير، الذي يرى بدوره أن قلب أمي لن يحتمل الجراحة. السكتة لم تفرق كثيرًا، قال، على الرغم من أنّها لم تساعد.
“أستطيع أن أجرب،” قالها، ثم اعتذر في الحال على تحدثه بهذه الطريقة. وصحح كلامه: “أستطيع إجراء الجراحة، لكنّها ستموت في غرفة العمليات.”
هناك انسداد بمكان ما، قال. الدم لا يصل إلى كليتيها وربما إلى أماكن أخرى. العملية ستخبرنا على وجه التحديد، لكنّها غالبا لن تحلّ المشكلة. إنها دورتها الدموية، قال. القلب ببساطة لا ينبض بقوة كافية لإرسال الدم لكل جزء في جسمها.
والتزم الصمت بعدها، وفعل مثله الطبيب الآخر. نظرت الممرضة إلى الأرض.
“ليس هناك ما يمكنك فعله، أليس كذلك؟” قلت.
أجاب:”نستطيع أن نريحها.”
سألت:”إلى متى يمكنها البقاء هكذا؟”
قال: “ليس لوقت طويل.”
“أقصد، ساعات أم أيام؟”
“أيام، بعض الأيام.”
“نستطيع جعلها مرتاحة جدا،” قالت الممرضة.
لم يكن هناك المزيد لقوله. بعد ذلك، تساءلت إن كان من الأفضل لنا أن نتحدث مع طبيب التخدير شخصيا، أو أن نحاول الاتصال بطبيب أمنا الخاص، أو نطلب نقلها إلى مستشفى أكبر لأخذ رأي آخر. لكني لا أظن أن أيًّا من ذلك كان سيفرق. لسنوات، تم تحذيرنا بأن هذه اللحظة ستحين، بينهما أُغمي عليها في أماكن عامة وفقدت توازنها وسقطت. كان واضحا أن قلبها يتخلى عنها، لكن لم يكن واضحا بالقدر الكافي لي حتى أجيء لرؤيتها أكثر من مرة أو مرتين في الصيف… ثم، بعد أن أجيء بالفعل، يحميني مما قد يقال، أو ما لا يقال، حضور سوزي وجيم وكاثال. ربما توجب علي أن أتصل عدة مرات أسبوعيا، أو أكتب لها رسائل مثل ابن بار. لكن على الرغم من كل إشارات التحذير، أو ربما بسبب الإشارات ذاتها، حافظت على مسافتي. وبمجرد استقبالي لتلك الفكرة، بكل ما حمَلَت من ندم، تخيّلت برودة وعدم اكتراث استقبالها لقرار تمضية الصيف بالقرب منها، ورؤيتها مرات أكثر، صعوبة واستنفاد بعض تلك الزيارات والمكالمات لها ولي بنفس القدر. وكيف سيبدو اقتضاب وإيجاز ردها على رسائلي.
وفي طريق العودة إليها، بصحبة الممرضة، كان هناك ذلك الندم المضاعف: ذلك البسيط الذي أبعدته عني، والآخر، الأصعب على الفهم، والذي لم أملك دفعه. إنها لم تردني كثيرًا قط، وإنها لن تكون قادرة على تدارك ذلك الأمر في الأيام القليلة الباقية لها في هذه الحياة. سيلهيها ألمها وتعبها عن ذلك، وكذلك المجهود العظيم الذي تبذله لتحافظ على هدوئها ورباطة جأشها. كانت رائعة، كما كانت دائما. لمست يدها عدة مرات لعلها تفتحها وتلمس يدي، لكنها لم تفعل. لم تستجب للمسها.
جاء بعض أصدقاؤها. جاء كاثال وبقي معها. ظللت أنا وسوزي في الجوار. في صباح الجمعة، عندما سألتني الممرضة إن كنت أعتقد أنها تعاني، قلت نعم. أدركت أنني إذا ألححت الآن، سأحصل لها على المورفين وغرفة خاصة. لم أستشر الآخرين؛ أعرف أنّهم سيوافقون. لم أذكر المورفين للممرضة، لكننى أعرف أنها حكيمة، وأدركت بطريقة نظرتها لي وأنا اتكلم أنها علمت أني أعرف ما سيفعله المورفين. سيسهّل نوم أمي وسيسهل رحيلها عن العالم. سيتوقف تنفسها ويرجع، خفيفًا وعميقًا، سيخفت نبضها، سيتوقف تنفسها، ثم يأتي ويذهب مرة أخرى.
سيأتي ويذهب حتى يتوقف كليةً. في الغرفة الخاصة متأخرا في المساء، عاجزين ومذعورين، كنا نجلس لنراقبها، ثم جلسنا منتبهين بينما بدأ التنفس مرة ثانية لكن ليس لوقت طويل، ليس طويلا بالمرة. توقف مرة أخيرة، وظل متوقفًا. لم يعد مرةً أخرى.
رحلت. رقدت ساكنًة. جلسنا معها حتى جاءت ممرضة وقاست نبضها بهدوء وهزت رأسها حزنا وغادرت الغرفة.
بقينا معها لرهة؛ ثم لمسنا جبهتها واحداً تلو الآخر، عندما طلبوا منا أن نغادر، وغادرنا الغرفة وأغلقنا الباب خلفنا. مشينا في الممر وكأن بقية حياتنا ستحمل أنفاسنا آثار أنفاسها الأخيرة، منازعتها الأخيرة، وكأن طريقتنا في الوجود بهذا العالم قد تم إختزالها إلى النصف أو الربع بفعل ما رأيناه للتو.
قمنا بدفنها بجانب أبي، الذي انتظرها في قبره ثلاثة وثلاثون عاماً. وفي الصباح التالي عدت إلى نيويورك، إلى شقتي نصف المفروشة في تقاطع جادة كولومبس مع الشارع التاسع عشر، وبدأت التدريس بعدها بيوم. فهمت، تماما كما قد تخبرني الآن – إذا أجبت على التليفون ووجدتني على الخطّ، صامتًا في البداية إلى أن أقول إنني بحاجة إلى الكلام معك – أني أرجأت الأمر طوال هذه السنوات، أكثر من اللازم. بينما استقريت للنوم في سريري الجديد في المدينة المظلمة، لاحظت أن الوقت متأخر جدا الآن، متأخر على كل شئ. لن أحصل على فرصة ثانية. في ساعات ما بعد استيقاظي، عليّ أن أخبرك أن ذلك تقريباً قد أصابني بارتياح.
Like this:
Like Loading...
тнє ѕυℓтαη’ѕ ѕєαℓ. Cairo's coolest cosmopolitan hotel.