الثورة بجد: قصائد مختارة ليوسف رخا

Rakha, Iford Delta 3200 Negative, 2003

Youssef Rakha, Iford Delta 3200 Negative, 2003


رسالة إلى صديقي*

 

أكتب لكَ والمنافض أهرام من الأعقاب.
الشيء الذي حذّرتَني من دَوَامِه توقّف.
وصداع النوم المُمَزَّق يجعل الدنيا خاوية. أنت فاهم.
في جيوب الحياة ننقّب عن عملة من عصور سحيقة،
عملة صدئة وربما قبيحة لكنها سارية في سوق الأبدية.
نصبح ملائكة حين نعثر عليها. نجترها حتى نتأكد
أنها لا تشتري البقاء.
؎
ساعتها تبدو الأبدية نفسها رخيصة.
نتذكر عهود الأبالسة وأن كل مياه الأرض لا تكفي
لابتلاع حبة دواء. أكتب لك بعد أن حفرتُ فتحةً في بطني
وألقيتُ أمعائي في النيل. هل كنتَ تعلم
أنني سأفقد ما لم أحصل عليه؟
حقول الأسفلت التي ذرعناها معاً
نتراشق الاكتشافات والأسرار، ويوم احترقتْ العجلة
على أعلى نقطة في الكوبري
ونحن غائبان في الحشيش والموسيقى
فوق المدينة التي بدت مثل زاوية صلاة
أسفل عمارة الدنيا ما بعد ١١ سبتمبر –
؎
أنت صمّمتَ على إكمال المهمة
حالما استبدلنا الكاوتش المدخّن،
وكانت أقراص السعادة في تفاحة حمراء من البلاستك،
قسمناها نصفين لنبتلع الأقراص على قارعة الطريق:
هل تذكر وقت كانت السعادة أقراصاً
يمكننا التقاطها من نصف تفاحة بلاستك؟ –
؎
ويوم خلعنا ملابسنا في صحراء صغيرة داخل شقة
يعاد تبليطها فوق الميدان،
ويوم انقلبت أعصاب ذراعك أوتار معدن
يمكنني أن أعزف عليها بصوتي،
والهلوسات التي جعلناها شبابيك، ومشاجراتنا
حول النقود وسيناء، والحورية التي جلست بيننا
حتى مالت برأسها على كتفك وأنا راضٍ تماماً…
؎
إلى أن – ذات يوم – مات كل شيء.
قُدنا السيارة إلى الشاطئ أو غابة النخيل
لنتأكد أنه لا يحيا.
؎
أنت واصلت البحث عن مزاج مثالي
بينما تكتشف الفلسفة والكآبة، وأنا اختبأت في بيت أمي
لأكتب رواية. وحين تزوج أحدنا وأنجب الآخر،
لم يكن سوانا لنخبرنا بحقيقة ما يصير.
ظل لكل حدث حديث من الطول والتعقيد
بحيث قلتَ إنك مللتَ الكلام،
إن شيئاً في الكلام لا يؤثّر. وفي هذه القصة الأخيرة،
وحدك فهمت أنني لم أكن مخدوعاً
بقدر ما أردت أن أصدّق،
وأن ما جادت به الدنيا مجرد مشبك
لأسمال بللها لقاء عابر ستجف آجلاً أو عاجلاً
لأعود أرتديها كما خلعتها وارتديتها
ألف مرة أمامك.
؎
كنت تعلم أنني لست سوى أحد أعراض مرض
لا يشبه أمراضنا كثيراً
وأنّ وعد الخلاص خطاب موجه
واللحم والدم محسنات بديعية.
سيتسنى الوقت لنتجادل
فيما لو كان الفيلم هابطاً وإلى أي حد،
لكنك لم تخبرني بأكثر من أن الواقع المشترك
لا يكون براقاً وبأنني لن أقوى على الانتظار.
أكتب لك، كما يقول روبيرتو بولانيو، بدلاً من الانتظار…
ولأن قلقك لم يكن في محله. الوحشة أفسدت كل شيء
لكن البدائل حاضرة طالما الأبدية على الرف
ومن رحمة النوائب أننا لا نحزن إلا على أنفسنا.
؎
كنتَ تقول: أحبها وأحتقرها. الآن أستدعي ضحكاتك
وأنا أتهادى إلى الحمام. قطرات الماء البارد
قد تجلو هذه القورة. أفرغ المنافض في أوعية القمامة.
أصنع القهوة وأشربها.
وكل هذا الذي جرى لي وقتلناه نقاشاً
طوال عام عامر بالشِعر والبكاء:
مجرد وهم آخر أكرهه لأفقده
وحين أفقده أكف عن كرهه لأنه لم يكن هناك.
؎
في الحلم كان كما لم أعد أشتاق إليه: رائعاً ومهلكاً
مثل أورجازم سماوي. خبّرني عنك ولا تقلق علي.
الحسرة للـ”جدعان”.
* بوحي قصيدة للشاعر الأمريكي إيزرا باوند (١٩٧٢١٨٨٥) عن نص صيني قديم:
Exile’s Letter by Ezra Pound, based on Li Po
(من مجموعة “يظهر ملاك“)

أخطاء الملاك†

 

 

ماذا ظننتَه سيفعل بعد كل هذا الوقت، الملاك الذي ظهر لك وانتظر أن تتبعه… كيف لم تقدّر عمق ألمه السماوي وأنت تبتعد عن الجبل الملعون كل يوم خطوة، تجرجر حقائبك المثقلة بلحمه على ساعات تجري إلى ما لا نهاية بين ساقيه، وتهزأ إذا ما نهاك تليفونياً عن الكبرياء؟ الآن وقد أصبح الملاك بُخاراً، كسبتَ ما أراد أن يضيّعه عليك. لكنْ ما الذي فضّلتَه على الخسارة؟ قرية هجرتْها نساؤها؟ خادم يسرق من البيت؟ نجمة مدارها عقد سيصدأ حول رقبتك؟ لعلك ظننته يظهر من جديد، أو نسيت أن في بطنه دَمَك. يا كافرْ، كيف ستحلّق الآن؟
† عن قصيدة سركون بولص من ديوان “حامل الفانوس في ليل الذئاب”:
“يظهر ملاك إذا تبعتَه خسرت كل شيء، إلا إذا تبعته حتى النهاية… حتى تلاقيه في كل طريق متلفعاً بأسماله المنسوجة من الأخطاء، يجثم الموت على كتفه مثل عُقاب غير عادي تنقاد فرائسه إليه محمولة على نهر من الساعات، في جبل نهاك عن صعوده كل من لاقيته، في جبل ذهبت تريد ارتقاءه! لكنك صحوت من نومك العميق في سفح من سفوحه، وكم أدهشك أنك ثانية عدت إلى وليمة الدنيا بمزيد من الشهية: الألم أعمق، لكن التحليق أعلى.”
(من مجموعة “يظهر ملاك”)

هلوسة

 

عندما أصبح وردة
لن أتفتح في الربيع
سأنام في عروة الجاكيت
وأصلي بالليل
أنا الذي خانتني الفكاكة
عندما أصبح وردة
سأنظم مؤتمراً لحقوق الورود
يكون الكلام فيه عن الورود فقط
سألقي خطبة طويلة
عن جذوري العائلية
الضاربة في عمق التاريخ
لن أسمح للنحل أن يضاجعني
والنحلة التي أختارها
ستكون مميزة بلا شك
عندما أصبح وردة
سأضرب عن الطعام
باسم شعوب الحدائق
أنا الذي خانتني الفكاكة
كانت مدرستي في ظل الأهرام
عندما أصبح وردة
مدرستي كانت في ظل الأهرام
(من كتاب “كل أماكننا“)

رحالة

 

السفر يفقد مذاقه
أن توزع أشياءك على الحقائب
ومشاعرك على صالات المغادرة
لحظة الوداع لا تحزنك
سيكون عملاً شاقاً جداً
اخيار الإضاءة المناسبة
أحلامك قصيرة المدى
أفواج المستقبلين في المطار
لن تحتضن الطائرة
ستنفرد بحمامها طوال الرحلة
ستبصق في وجه المضيفة
كل مرة تتمنى بداية جديدة
الأمل الوحيد في حادثة اختطاف
عندما نسق نحو البحر
ستفك أزرار بنطالك
ستدعوهم جميعا للتفرج عليك

الذي جاء بالكهرباء

 

الذي جاء بالكهرباء
لم يكن قبيح الخلقة
بدا الجهاز في يده
كهاتف أو مسجل
مجرد إضافة عصرية
لربطة العنق الأنيقة
والحذاء ذي اللمعة الآخذة
؎
الذي جاء بالكهرباء
لم يكن سادي الأداء
كان أدبه شديداً
وهو ينحني بالسلام
قبل أن يقرأ علينا
قرار العقاب
معتذراً عن قسوة سيده
؎
الذي جاء بالكهرباء
لم يصعقنا حتى تأكد
أننا مستعدون
وكان بعد كل صرخة
يرجئ الصعقة التالية
متمتماً بالنصائح
لتخفيف الألم
؎
كان لطفه ساحراً ذلك
الذي جاء بالكهرباء
لدرجة أننا اقتنعنا
بإمكانية التحمل
وعزمنا على تسهيل مهمته
حتى اكتسبت صرخاتنا
نبرات تفانٍ صادق
؎
ما انتابنا الشك لحظة بأنه
يخفي أصوله البربرية
في محافل الوجهاء
أو ينسب لأجداده عبارات
عن الحرية والعدل
وحق الجسد في النمو
دون أن يتعرض للعذاب
؎
خلب ألبابنا الذي جاء بالكهرباء
حتى استسغنا عذابنا
(من كتاب “كل أماكننا“)

على هامش ليل الذئاب

 

ثمة مطر في مارينا مول
لكنه لا يهطل من السماء
ولا يخرج عن مساحة
محددة مسبقاً
حتى البرق الذي يصحبه
لا يعدو أن يكون
لمبات نيون فاسدة
في قبة سحابها
كالقصص الملون
والرعد أشبه بصوت
دراجة نارية
؎
يأتي المطر في مارينا مول
بمواعيد معلنة
حتى لا تفوت المتسوقين
فرصة التمتع برؤيته
فينظرون في ساعاتهم
ويرفعون أعينهم
إلى السقوف
متمتمين كالعشاق
الآن يجيء المطر
ويقتادون أطفالهم إليه كالهائمين
؎
يتحلق المتسوقون في مارينا مول
حول سياج غير مرئي
تحده حواجز بلاستك
كتلك التي تدل على الحوادث
ومناطق الهدد والعمار
ممسكين بأيدي أطفالهم
في دائرة لا يتغير قطرها
وعيونهم المشدوهة معلقة إلى فوق
إلى حيث البرق لمبات فاسدة
والرعد دراجة نارية
(من كتاب “كل أماكننا”)

 


XXX

 

خلف العباءات السود المارقة كأجنحة الغربان في المحافل
كنا نودع هيامنا (كل أفلام البورنو التي نصبو لتمثيلها في الخليج)
ولا يشفع لنا سوى أننا بلا أثواب بيض أنصاف رجال مسموح لعيوننا بالنظر
حتى ننفث هيامنا في أجساد مثلنا مستوردة بعضها هو الآخر متخف في عباءات
لكن مقصدنا الأخير مغنمنا ومآلنا يظل تلك المحلية المارقة كأجنحة الغربان
ولا نحلم مجرد حلم بارتياد المسالك التي نستبصرها بأشعة إكس تخصنا
وسط لحم كالكهرباء ودخان العود والكثبان فقط في المحافل ننظر
ونودع هيامنا
(من كتاب “كل أماكننا”)

الثورة بجد

 

 

عن قصيدة “الأسد على حق” لألن جينسبرج:
“ليس فردوس رضاك يا زئير الكون كيف اصطفيتني”
أرجع من الإسكندرية عبر طنطا لأجد الثورة أسفل سريري
ومَثنيَّ الجذع على ضوء أبجورة الكومودينو، وجهي بمحاذاة المُلّة
أتبين الملايين تركض وتدافع عن نفسها بالحجارة، كل واحد عقب سيجارة لا يزال مشتعلاً
يرفعون لافتات كالطوابع ويحفرون شعارات أكبر من أجسادهم على الباركيه، أتسمّع هتافهم
؎
وكأس الفودكا الأخيرة لم تتبخر من جمجمتي منذ واحد سكندري لم يُعمَل في “رشدي”
عظمي المخمور يقرقع وأنا أغالب البكاء ممزِّقاً ملابسي في الشباك:
الثورة حصلت يا أولاد القحبة، الثورة حصلت بجد!
؎
وقد تركتُ حبيبتي في شارع بن الفارض عند بتاع المخلل تستقبل الفلول
مفتقداً لا الواحد ولا البحر، لا وجه أمها المترمل منذ ساعات ولا أباي الميت قبل عشر سنين
ولا خلف مقهى الأحمدية ولياً كان ذَكَرُه – ضمن الكرامات – أكبر من هراوات الشرطة العسكرية
بل أذني التي ابتلت في “الأظاريطة” لأن دموعها كانت تقطر من سماعة الموبايل
؎
ألطّخ ملابسي بالحبر الأحمر وأُسرع إلى العمل لأرقد على عتبة المدير
لم تكن الثورة مع الزملاء ولا في المترو ولا حتى في حناجر شهداءَ يُبعَثون بلطجيةَ أمنٍ مركزي
هائماً في ملكوت سكك حديد مصر كيف لم أضبطها حتى هربتْ إلى غرفتي؟
؎
مضعضعاً بعدما نمت ليلتي في حمام المصلحة أوشوش عامل البوفيه: بلا ثورة، الحياة لا تُحتَمَل
هل تعرف أن ابن الفارض قال إن موت العاشق حياة والقتل أفضل من الهجر
المؤسف أنه كما أن لا تغيير بلا مذابح كذلك لا زمن بلا انتظار، هل تعرف الملائكة…
الملائكة؟ يسألني متهكماً وهو يتحسس صلعة كالجلمود ويطالعني بشفقة، يقرضني خمسة جنيه
؎
أسعى إلى إحدى اللبؤات أسداً يحمل كشكولاً لأخبرها بأن الثورة ليست في ميدان التحرير
ومحتسياً فرابيه من مؤخرة سموذي بعد ثالث دابل إسبريسو في أحد فروع سيلانترو
أزعق في كاتوليكي مراهق من فوق شاشة اللابتبوب: لا شيء اسمه الغيرة القضيبية!
؎
من الدقي إلى التحرير مرات عديدة صحبة شاعر شاب هو الآخر من طنطا
أتأكد من فشل الجهود حين لا ترد حبيبتي على الموبايل وهي ثكلى
وإذ جلس زيزو مع فتاة أردنية ليلة جاءني التليفون، هل كان مصابها المفاجئ عقد ارتباطنا؟
؎
عندما ترد أخيراً أقنع صاحبي الشاعر أن اعتصاماً بجد في غرفتي، ننطلق بلا سلاح
وزاحفاً ورائي على ركبتيه من جنب الكومودينو بشورته البرميودا كمندسّ يتلصّص
جموع المحتجين حول كعكة حجرية هي عبارة عن نعل قديم، مثلما كنا تماماً
الدبابات علب ثقاب والإف-١٦ كالدبابيس وغوغائيون سفلة، بين المُلّة والمرتبة قناصون بالليل
؎
نضاجع المخدات بعد أن أقول لصاحبي إن الله في القضبان والثورة بلا واي-فاي
أتخيل حبيبتي راكعة أمامي ببلوزتها السوداء، فجيعتنا الفردوسية وأنا أقذف في حلقها
وحين توقظنا أمي في الصباح لا أقاوم، أرى الخادمة ومكنستها الكهربائية عليها ختم النسر
أرى العَلَم يرفرف في أيدي مخلوقات فضائية وأعرف أننا لن نهزم إسرائيل
يغتاظ صاحبي والقذى في عينه حين يمتد خرطوم المكنسة تحت السرير
مع ظهور الخيش والصابون أمنعه عن الخادمة بصعوبة: لا فائدة من اغتصابها!
الآن ليس سوى صوت المكنسة وهو يبكي، لا دم ولا حديد يعود باركيه الغرفة نظيفاً وخالياً
وحيث كانت الدواوين على الرفوف زجاجات ديتول وبليدج، إسفنجات وخرق منمقة
فجأة يشهق سريري على صوت السرينة، تشتعل الملاءات وتنفجر المرتبة
يتفصد الكومودينو عن أسد هصور يزأر ويختفي صاحبي والكتابة على الحيطان:
سنوري حين يمارس الجنس يقذف كل عشرين دقيقة ولسانه أخشن من ورق الصنفرة
؎
أيتها الحبيبة المنتحبة يا مانحتي الأورجازم النهائي لقد انعقدت حياتانا بالموت
لقد رأيتُ الآتين والغادين قبّلت ذوي اللحى وجريت من شاهري السنجة على سلالم المترو
حملتُ “سيدي مجاهد” إلى ظلمة القبر لأُطمئن أباك ونعست مقرفصاً بين مقصورتين
لقد وجدتُك أسفل سريري وجيش أمي في الغرفة، سلّمت رقبتي لفم الأسد.
(هذه القصيدة تزامنت مع رواية “التماسيح” وترجمة قصيدة “جينزبرج” المتضمنة في الرواية)

صلاة شكر

 

بريق اللافتات. والصاخبون. والذين تركتُهم مطمئناً. وللمرة اﻷولى منذ اجتمعنا. والمخيمات التي يسكنونها. وطعم الهواء خلف الحواجز. والذين تركوا أشغالهم ليجمعوا الزبالة. وبائعو اﻷعلام مع بائعي التسالي. ولينظمونا صفوفاً في الدخول والخروج. والذين “عزّلوا” بعائلاتهم. والنائمون تحت الدبابة. علامة النصر باﻹصبعين. والذين يفتشونك ويعتذرون. والنائمون في العراء. وكذب المحطات الرسمية. وفي أحضان الله. والكلام المقيّئ. والذين يقبّلون الجنود. والخيانة على صفحات الجرائد. والخيانة بلا أجندات. وحاملو اﻷرغفة والفواكه. الشاي في الكوب البلاستك. والسيجارة المشتعلة من سيجارة. وصورة تذكارية مع الدبابة. الذاهب واﻵتي. و“مرحباً باﻷبطال“. ومَن راح حسه وهو يهتف. والخوذة المرتجلة في النار. والكوكاكولا لغسيل الوجه. وفي الطوب والحوافر والعصي. الجري ثم الرجوع. وأحضان الثكالى. والمتليف جلده بالشظايا. أوجع قلبه ما حدث لهم. والكوكاكولا بثلاثة جنيهات. ومع علبة كشري صغيرة. ولا يجد حرجاً أو غضاضة. ولن يقبل اﻹملاءات اﻷجنبية. ويقولون إننا مضللون. حاملو الجرحى عبر المداخل. وخراطيم المياه على الساجدين. والساجدون على اﻷسفلت. والذقن والشعر واﻷحذية. ويقولون إنه على كلٍ رئيسنا. سائق التاكسي الخائف. ورافعو الصليب المقدس. وسائق التاكسي الخجول. والذين دهستهم العجلات. صورة الرئيس مع الحذاء. ومشيعو اﻷجساد واحداً بعد واحد. والذي مات قابضاً على الطلقة التي أخرجها من عنقه الطبيب. والذي اختطفوه وأحرقوا وجهه بالسجائر. والذي مات في المرة الثانية. من يهتف لا يمت. والقنص من فوق أسطح الفنادق. والقنص تحت ستار الليل. والشعارات في الرصاص. والذي واجه المدرعة لوحده. والقلق على البلد ككلام المأجورين. وتحت غطاء الليل. أكثر من معنى لجبهة. واستغاثات اﻷطباء. والنازفون على السلالم. وخسّة الشرطي. ومَن حمل القنبلة وقذفها عليهم. ومِن وسط دخان التشنج. ومن حل محلهم وهم يركضون. والذي منع زميله من ضربهم بالحجارة. والنيل ليلاً. والجندي الذي قال لي: كيف أضربكم وأخي بينكم. وضابط الجيش الذي غمرني بذراعه. والشعب يريد إسقاط النظام. ودقات الطبول إيذاناً بشيء. والكارثة. والساحات المدمدمة كالمناحل. ودقات لتنغيم الشعار. الانتظار والذراع مرفوعة بالبطاقة. ومن كان شرطياً سيُذبَح. والجلوس على الرصيف. والموت ضرباً. والموت بالنهار. والمطر على الجباه. الشعب يريد محاكمة الرئيس. وعيون الخارجين من المساجد. وأطفال العشوائيات. وما يبقى من السيارة بعد أن تحترق. والانفلات اﻷمني. و”الآلي” في المرحاض. وأفواج اﻵتين بعد أن يأمنوا. واﻵتون مع أصدقائهم. واﻵتون مع أقاربهم. واﻵتون لوحدهم. ويسقط مبارك.
(من مجموعة “يظهر ملاك”)

ثلاث قصائد قصيرة جداً مختبئة في تويتر هذا الصباح | ٢-٥-٢٠١٢

 

دم
مستشفي الدمرداش تحتاج الآن
لكل فصائل الدم
علي من يستطيع التبرع بالدم أن يتوجه
إلي مستشفي الدمرداش
استغماية
معتصمو الدفاع
يطاردون البلطجية
في الشوارع الجانبية
أهم حاجة
لو حد حيجيب امدادات للميداني
أهم حاجة حالياً
إبر وخيوط
جراحة،
هولدر،
شاش قطن بيتادين فولتارين
حقن،
آنتي بايوتك
سبراي

عشاء

 

 

برغم الجليد المتراكم
فتاتاً من الصوف الأبيض
وكونكَ لا يمكن أن تدخن
في مكان دافئ
اللقاء فرح عابر القارات
وتناغم النكهات عبقري حقاً
في المطعم الطلياني
كل ما في الأمر أن “البيتزا”
جاءت حارة بدرجة مستحيلة
ما دفع النادل إلى الاعتراف
بأنه لا يختار لنفسه هذا الصنف
إلا حين يمتلئ خَزّان دموعه
آكلها على العشاء –
هكذا أخبرك النادل –
ثم أُمضي الليلة أبكي
؎
هكذا ولو للحظة
كان لابد من اجترار موتاك
أو كما يقول كفافيس
الذين فقدتهم
وكأنهم ماتوا
ودونما تفسد الفرحة
امتد خيطان شفافان
كالثلج أو الكريستال
من وجهك إلى طبق “باستا” جديد
طلبتَه خالياً من الشطّة.
(من مجموعة “يظهر ملاك”)

إله الذي كفر

 

سألتَني ماذا أريد أن أكون في عينيك
قلتُ الله
لبعض الوقت أنعمتُ عليك وعاقبتُك
فهل كنتَ تهرب من حسرتي حين لم تخبرني
بأن لك رباً ديّوثاً يمنّ عليك هذا الوقت
كيف لم تقبل بختمي على قورتك
إذا ما كنتَ مصمماً على العبادة
وهل ظننتَ خلقك هيناً إلى هذا الحد
يا ابن الغانية
لماذا تركتني أحرث وأنت ستحرق الغيطان؟
(من مجموعة “يظهر ملاك”)

نصف الليل في دار النشر

 

كأنك كنت هنا بالأمس… سوى أن الناشر –
رفيق سلاحك في معارك الود المجاني –
خيال منتَهَك لذكرى آخِر لقاء.
ترحابه هواء ملوّث وأنت تستنشق بحذر،
تسترجع الجبهات… ولماذا، وقت القتال،
كنتَ أول الهاربين؟ الكلام كما عهدته
لن يأتي على ذكر الأدب، ما يجب أن يدهشك
في دار نشر. لكنك لا تنتبه لغير علامات الدائرة
التي أصبحتَ داخل حدودها تلقائياً،
كأنك جُبلتَ على التحول إلى شخص ليس أنت.
؎
يوماً ما كان لابد أن تكون واحداً من هؤلاء
لكي تجلس الآن على كنبة ضيقة،
وأمام وجهك على الحائط صورة حضرتَ التقاطها –
وأنت عاشق يركض ببراءة بين العدسات –
لكاتب ستكف عن حبه قبل أن يموت…
يا منافق! عشتَ لتقول لك امرأة موهوبة
عن نظرة تتبادلها مع هؤلاء: “كياني!”
وربما لا لشيء إلا لترجع إلى هنا،
بقيتَ على الأرض عدداً كافياً من السنين.
(من مجموعة “يظهر ملاك”)

غريزة البقاء

 

بين سعلة وأخرى فكر فعلاً أن يموت.
ضيق النفس تعبير مناسب عن الشوق على كل حال. حيث الغرفة والشارع والمدينة، هذه الدنيا التي يرتديها كبدلة موظف مكره على الذهاب إلى العمل في الصباح، ليست سوى تمهيد لشيء يشبه الحلمة الناقصة. وآلمه أن الثأر بأي طريقة أخرى يستوجب الانتظار.
هكذا تعلم أن يستمرئ سعال السجاير عوضاً عن موته من ناحية، ومن ناحية أخرى عن العض والخنق وغرس الأصابع في ثدي صغير يعيد اكتشاف مكانته منذ التقاه: أن العبرة ليست بالحجم. ثدي مؤدب أمامه متسع من الوقت ليتعلم البذاءة، ويتأكد على طريقته من أن حلمته فعلاً هنا مكانها. لعله بعد معركة استقلال دامية، ذلك الثدي، أدرك أنه يحب الاستعمار.
سيستمرئ سعال السجاير تعبيراً عن شوقه أو استهانة بالدنيا. لكنه لن يموت الآن.
(من مجموعة “يظهر ملاك”)

أكلة لحوم البشر

 

ذَكَري على الأرض بين قدميها.
بعد يومين – تقول لي، راجية أن لا ألفت إليه انتباه الخادمة – ستكون الخادمة نفسها هنا من جديد. لا، لا، لن تكنس ذكرك. فقط لا يجب أن تراه.
فجأة يخرج عِرق نافر من جانب ذكري. كدودة مستميتة يشب على كعبها. يحاول أن يتسلق ساقها.
سيكون هناك أطفال – تُواصِل، وأنا أحاول أن لا أنظر إليه – وزوج هو أبوهم، وأب صار جداً فخوراً، لم لا؟
وكعادة البيت الذي لا أحسني غريباً عليه رغم كل شيء – فكرت – ستصخب الأركان بأشخاص أفهمتني أنهم أصدقاؤها. أنهم بريئون وضروريون. ومثل إخوتها المدعوين إلى وليمة بدأت الخادمة في تجهيزها، لن يدوسوا على ذَكَري. فقط لا يجب أن يروه.
لكنني رغماً عني أرى العِرق النافر. كدودة مصممة على الحياة، يتشبث بالكعب. ببطء مميت يحاول أن يتسلق ساقها.
(من مجموعة “يظهر ملاك”)

وليمة

 

لم نع أننا في انتظار صاحبنا حتى دخل علينا يحمل علبة من الأكساس. تحلقنا حول الطاولة بسرعة وهو يفتح العلبة. كانت الأكساس عطرة وبليلة، ولم نكن قد انتبهنا إلى مدى جوعنا.

غانا

 

لم يخبرني الرفاق أنهم مسافرون إلى غانا حتى تناولوا التطعيمات اللازمة في مركز المصل واللقاح، الأمر الذي أكّد لي أنني بالفعل لا يمكن أن أذهب معهم.
ورغم توقي إلى منظر الأشجار على ساحل الذهب، لم يحزني أنني لن أسافر بقدر ما أحزنني قرارهم، مع أنهم ينفون أنه قرار، بالذات لكون رفقتهم هي الشيء الذي يعرّفني مَن أنا.
هؤلاء الذين يشبهونني ولا يشبهونني، يوجع غيابهم لأنهم هم محتاجون لي.
حين لمحت دماءهم عالقة بجلدي كنت أفكر بأنهم أولاد قحاب لا يجب أن يكونوا رفاقي، وتذكرت أنني أسكنهم وأنهم شبابيك.
شبابيك ولا جدار، ولا بيت. لا بيت داخل البيت.
الآن علي أن أعاقبهم أو أخونهم. لا فائدة من الغفران لأنني لن أكون الله. وقد أكون شخصاً آخر عندما يعودون.
تلقّيت الخبر على أنه خبر فحسب، وجلست أتخيل الأشجار وأفكر: أنا الآخر سأسافر إلى غانا ذات يوم، ولا ضير في الذهاب منفرداً إلى مركز المصل واللقاح.
(من مجموعة “يظهر ملاك”)

ماما

 

الشخص الثالث
“نملية” مطبخها عامرة بالمسلّمات. لكن هناك دُرجاً أعمق من إحساسها بالصواب، مخصصاً لبذرة الرجل الذي ترى في وجهي كيف خيّب رجاءها قبل أن يموت (لولا ضرورة الخروج من بيت أهلها، لماذا كانت ستحمل بذرة هذا الرجل بالذات؟ ولولا أنه يرى الإنجاب جريمة، هل كانت ستكتفي بطفل واحد؟) في شعلة سخان الغازمصانع القوات المسلحة، نفس غيظها من “دش” مؤجل منذ أدركتْ أن هذا الرجل، فتى أحلامها الوحيد الممكن، يراوده الانتحار. وبماذا كانت تحس وأنا أستنشق النهد العبقري لحبيبة تكرهها في الغرفة المجاورة؟ حين تكتشف كم من النقود أنفقتُ في ليلة واحدة، وأكون لازلت نائماً في الرابعة مساءً، تغضب على رَجُلِها قبل أن “تلوشني”. ويظل تشنّج نبرتها حتى يذوب القرف على وجهها في حزن يكبرني بثلاثين عاماً. أتذكر أنها فعلاً أحبته، ولا شيء بعده في البيت أكبر منها سناً. فأسترجع التنهيدة التي ترسلها كل ليلة وهي تُخرج الزبالة، متفننة في حماية الأكياس البلاستك من القطط الجائعة حتى لا يتسخ مدخل الشقة التي لم تكن أبداً برجوازية بما يواكب تطلعاتها. وأسأل نفسي بحيرة: هل يقرّبنا أم يبعدنا الميت الواقف وراء الباب؟
الرغبة
تتذرعين بالمعرفة التي راكمتِها فأتذكر أن في الحياة أشياء لا تعرفينها. وحين أخرج على دائرة حكمتك – من غرفتك إلى غرفتي تبدو الصالة برزخاً بين عالمين – أقول لنفسي إنه من تحت رأس ختان الإناث… الجهل الذي ينفيني في نصيحتك. (وكيف لا تفرق أعوامك الزائدة؟) أنت الأحق بالنصيحة ربما، لكنني كان يجب أن أسديها منذ خمسين عاماً. ولكي أدلل على أنني أيضاً حكيم في دائرتي – والبرزخ بيننا – لن أنسى أن أرد الباب بالرقة المناسبة.
الصنارة
شبيهاتها صرن بلا عدد في المدينة: خط إنتاج أرامل أسقطن شهوتهن تحت دولاب الملابس قبل موت أزواجهن بقرون، ونسين في حموة التنظيف أن يطلبن من الخادمة أن تساعدهن على زحزحة الدولاب. من وراء عباءاتهنألق الأزياء الخليجية، ولقب “حاجّة” يرفرف في هبة “الشكمان” مع طرف الحجاب، يردعن جبابرة الشوارع بقادوم الأمومة. هل لهذا يختلن بشيخوخة إما لم تأت بعد أو كان يمكن تأجيلها؟ وهل لكل من الشبيهات أيضاً صورة بالمايكروجوب والشعر “الكاريه” (لابد أن جون لينون يتقافز فوق قبة جامعة القاهرة التي لا تظهر في الصورة، لأن المشهد الثابت يهتز فعلاً على دقة Can’t buy me love)؟ هل يحيط بكل منهن أكثر من بنطلون “شارلستون” وقميص بياقة عملاقة تبروز عيوناً مقبلة على الحياة؟ كبيضة ضمن فلول البيض الأسود، ألمحها عن بعد بالقرب من البيت. لا نلتقي صدفة إلا وأنا ألتقط أنفاسي بين مشوارين، هنا حيث أقاسمها مستقرها على جسر الحياة. الأكياس العالقة في ذراعها أثقل من مصيري. لذلك لا أهرع لأحمل عنها. لا ألفت انتباهها إلى أنني هناك. تتدحرج وسط ميكروباسين، في جمودها إيحاء سرعة لا تصل إليها خطواتها. وأسأل نفسي كيف، من وسط كل الشبيهات، مازال يمكنني اصطيادها بنظرة واحدة.
عشر ركعات
الليلة أيضاً، مع أذان الفجر، ستتلفنين. وأكون في مكان لا يمكن أن أصطحبك إليه. سأنزوي في ركن خال لأحدّثك (الخجل من أن لي أُمّاً تتلفن، وكيف لم يبرحني منذ الطفولة؟) بلهفة ستسألينني متى أعود. لا طارئ سوى طعام أنت طبختِه ولم آكله. ما يسمونه “تضحية”. وحسب درجة نفاد الصبر في صوتك، أوشوش إما “لا أدري” أو “بعد قليل”. لكن في الصمت استجواباً متهدّجاً ينسرب من فمك، فينز غضبي مكتوماً في الأثير. حين أعيد المحمول إلى جيبي ستلفحني أساطيرك. وماذا كان يجب أن يحدث ليكون في الدنيا شيء سواي؟ مَن كان يجب أن تكوني، لأغفر لك ما يسمونه قلب الأم؟ ولكي أتذكر أنك أنت وأنا المسئول أمامك، بعد الأذان سأنزوي في ركن مظلم لأخلع حذائي: كمن يسجد، بعنف، سأضرب رأسي في الأرض لكل تضحية من تضحياتك ضربة. ولن أغفر لك كل هذا الوجع. ما يسمونه التفاني. والنقودِ التي لا تنفقينها. والحفيدِ الذي لن تقبّليه. والقلق الذي تحقنينني به كل صباح. والمخاطر القاتلة. ويد القدر الحانية عليك بإنقاذي. والصلاة والصوم. ومنفضدة السجائر. وشكواك مني. وكل ما تفعلينه من أجلي. وكل ما كان يمكن أن أفعله بدونك.
ساعدي يوجعني
بموت أحدهما يتعلم الشخص أن الأبوين كالأطراف لا يزول وجعها بالبتر. تتوقف أمي على عتبة غرفتها. ظهرها إلي وهي تسند بكفها على زاوية الباب. أواصل ذرع الصالة جيئة وذهاباً. لا أفكر في احتياجي لساعدي بقدر ما أفكر فيما تعرّض له من أذى، الأمر الذي جعله وزراً غير مرغوب في بقائه. لماذا الآن دوناً عن أي وقت أقبّله بحسرة، ألوي رقبتي حتى تؤلمني لأتفقّد بؤره السقيمة، وأحار كيف كان يمكن أن أجنّبه الكدمات… الساعد الثقيل كحمل أتطلع لإسقاطه، ربما ليس أثقل من هذه العجوز المُضجِرة. (للمرة المليون أنينها المسرحي يذيع على العالم كم هي مظلومة وصامدة، وهل سيُشعرني بغير رغبة خابية في صفعها؟) أتذكر أن نقّها يتراوح بين آلام العظام وتشنج العضل. ارتعاش الأصابع، لسع الحروق، صديد مفاجئ على راحة اليد. خدوش قديمة تذكرني بمهمتي، وعلي أن أتحمل إحباط أنني لم أؤدها… لكن ها هي الآن تعبر العتبة كالنسيم. وقبل أن أتوقف عن الحركة، يقلع كفها عن الخشب ويحلّق عالياً في الهواء. ستبدو أخف من كل أوزار الدنيا. وسيمكنني أن أتابعها بفرح، أنا الذي تمنّيتُ أن يموت أبي. وعرفتُ أنني لن أتخلص منه أبداً. 
الحياة بعد الموت
يوماً ما سآخذك إلى الصحراء، وأصر أن تبيتي خارج الخيمة. سأظل صاحياً طوال الليل أحرسك من الثعالب والثعابين. وحين يشقشق الصبح سيكون شعرك مكشوفاً للسماء وحبات الرمل عالقة بأطرافك العارية. بلا خوف من هوان الدنيا ولا عذاب الآخرة، ستفتحين عينيك. وستكونين المرأة التي افتقدتها فيك منذ الأبد.
(من مجموعة “يظهر ملاك”)

زوار المرضى

 

كنا كلنا هناك: الذي يتكلم في التليفون، والذي لا يتكلم في التليفون؛ الناعس في جلسته، والذي يتشاجر مع الممرضة؛ الذاهب والآتي، وإن كنا جميعاً قاعدين. كنا هناك يلمّنا فيلق من الموتى كادت تُنسى ملامحه، ونراوح أكياساً تتدلى من قوائم السرير؛ بيننا من يناولنا مأكولات خفيفة فيما المريض يدمدم من أمامنا، ليس واضحاً في احتضاره إن كان ضجِراً أم مرحباً. وعلى رصيف المستشفى، كان المشاة كأنهم عائلة كبيرة: يلمّهم موتى نُسيت ملامحهم وهم باتجاه أَسرّة للاحتضار؛ فيما المستشفى نفسها شوارع والشوارع بيوت، يرتادونها ليتناولوا مأكولات خفيفة.
(من مجموعة “يظهر ملاك”)

عزاء

 

كيف سيمكن لكل منهم أن يتعرف على وجه الآخر، هؤلاء الثابتين على قواعدهم باختلاف درجات الململة؟ الأدهى أنّ عليهم أن يتذكروا الأسماء. بين وصلات النحيب ستفتّش الثكالى عن زوجات لأبنائهن. سيسترق الصغار نظرات إلى بدلاتهم المنعكسة في الزجاج. سيتردد المدخنون لحظة إشعال السيجارة. ربما ينسى واحد ويسأل عن الفقيد: ما الذي أخّره عن أداء الواجب معنا هنا؟ وقبل أن ينفضّ الجمع تقرقع القبلات على الخدود، ولا أثر للموت على وجوه العائلة.
(من مجموعة “يظهر ملاك”)

تدخين

 

إلى حنتوسو
لحظة الاختلال المفاجئ –
ويدي التي فارقها للتو
كتاب القصائد الأخيرة،
تتشبث بالزجاج
  هل لأنني تخيّلتُ
رائحة “سيلفيا بلاث”
في أنف “تيد هيوز”
كدتُ أفقد توازني؟
على الحافة السميكة
للشباك الوحيد
الذي يمكن فتحه،
عالياً قرب سقف غرفتنا
حيث جهاز إنذار الحريق متأهب
لأي سيجارة أُشعلها،
والطقس سجن أو سحاب،
كنتُ ملفوفاً في المعطف الطويل
ورأسي في “الفريزر”،
أزفر دخاني وأقرأ
لاهياً عن وضعي الأكروباتي
حين انزلقت قدمي.
ودونما يوقظك ارتطامه –
فقط تمتمتِ بشيء كالسؤال،
قبل أن يعود نَفَسك
يغيب في الأغطية السميكة
وأنت تتقلبين من جنب إلى جنب،
ويهب شيء من رائحتك،
أو هكذا خُيّل لي
– سقط على الأرض الكتاب.
كل ما أذكره أنك نائمة
وأنا أقول لنفسي:
“فضلاً عن الغرام واللاغرام،
الشِعر واللاشِعر،
وألف شيء غالٍ
لابد أنه أصبح رخيصاً؛
فضلاً عن الشهرة التي يقول لها
في إحدى قصائده
إنها ستجيء كما أرادتها تماماً –
ستجيء الشهرة،
هكذا يقول لها في القصيدة،
ولكن بعد أن تكوني
قد دفعت ثمنها:
سعادتك،
زوجك،
حياتك –
فضلاً عن الناشر
والطبيب النفسي،
المكتبة وقاعة المحاضرات،
مَن المسئول عن الخلاف
ومَن يعتني بالطفلين
(كان أصغرهما قد مات منتحراً
قبل عام من لقائنا:
عالم أحياء مائية “ملو هدومه”
في السابعة والأربعين)
وعن ترهات الفيمينيزم
واللافيمينيزم  أيضاً،
بعد عقود من وفاتها؛
فضلاً عن كل ذلك” –
هكذا أقول لنفسي
– “لابد أن رائحتها في أنفه
كانت أبسط وأروع
من أن يقدّرها سواه.”
ودونما أتذكر أنني
قبل أسابيع أو شهور،
دخّنت بالطريقة نفسها في مالطة
ولم أحس بالسعادة،
مع أن الطقس موسيقى
وموقع الشباك لا يضطرني
إلى الأكروبات – كانت أخرى
لا رائحة لها في أنفي
نائمة مكانك،
وبدا أن مالطة كلها
في الوقت نفسه
مكدسة وخاوية
– شعرتُ الآن أنني
محلّق في الأعالي
لأنني مازلتُ واقفاً
وأنا وأنت في غرفة واحدة
بعد أو بالرغم من كل شيء،
ووجدتني أنظر
إلى حيث وقع الكتاب؛
ودونما أدير وجهي
إلى جسدك النائم،
أشهق وأهمس لك:
“نجونا يا جميل!”
(من مجموعة “يظهر ملاك”)