
Alex Webb, Cairo (City of the Dead), 1980. Source: magnumphotos.com
وصل في الثامنة صباحًا إلى المدينة، عَبْر طريق شطا/ميدان الشهابية، تكاثرت المعارض والمخازن والعمارات على جانبي الطريق، كأنه كان يسير داخل ديكور ثقيل من مواد غير قابلة للتفكيك وإعادة التركيب، مواد نهائية. طرز تعكس الأموال المدفوعة فيها، واجهات فارهة، هذه هي المدينة التي لم يكن والدك فيها غير “بائع” يبيع منسوجات المحلة الكبرى، فوطة، سليب، منديل، فانلات داخلية، قمصان حريمي، جوارب قطنية، بالإضافة إلى زجاجات العطر صغيرة الحجم، أصلية المصدر، باقية الشذى. لم يكن لديه محل يدير تجارته منه، فقط يعتمد على شبكة معارف واسعة، يمر عليها من وقت لآخر حاملًا البضائع التي سبق طلبها منه، وعارضًا أخرى جديدة…
…حتى لو لم يرحل أبوك في شبابه، لم يكن ليخترق غابة استيراد خامات صناعة الأثاث، ولا تجارة الموبيليات كطريق لتكوين الملايين، ولا تجارات تبوير الأراضي الزراعية، وإنشاء تقسيمات لأحياء ومدن عشوائية. تلك تجارات كانت تستلزم قلبًا قويًا، في حين كان ينتمي لزمن آخر حيث بطولات “الكوتشينة” على مقهى “عيش” بشارع الجلاء، الجلابيب البيضاء المكوية، نزهة رأس البر، زهرات الفل معقودة ومعلقة خلف أذنه، العطر النادر الذي يأسر قلوب النساء، جلب فطائر “دعدور” المحلاة بالعسل، العامرة بالمكسرات والزبيب أيام الخميس ليكون احتفالًا في البيت، وشراء اللحوم أسبوعيًا من عند “نصر الجمل” بشارع فكري زاهر، اقتناء نظارات الشمس الفاخرة، أناقة الملبس بمقترحات واضحة من “فاروق صابون” صديقه الأثير، ترزي الجاكت والبنطلون بجوار سوق السمك الصغير، الجرأة في أن يشتري جهاز تليفزيون سنة ١٩٦٦. لقد دُفن في مقبرة لا تحمل شاهدًا مدونًا عليه اسمه، كانت مقبرة أهل “نادية” زوجة أخيه “خليل”. يذكر كثيرًا المرات التي أخذته أمه إلى أبيه لزيارته أيام كان مريضًا ومحجوزًا في مستشفى الحميات، يذكر الحديقة المشمسة الواسعة، المزدانة بأشجار الفيكس، والسرو، والكافور، والجازورينا، ونباتات قصيرة مشذبة بعناية، تؤطر الممرات الطولية المؤدية إلى المبنى. كانت أمه لا تزال ترتدي الملاءة اللف السوداء، ما يذكره من والده ينتمي جزء كبير منه إلى المستشفى، يذكر أنه كان يبتسم في صمت، منطويًا على سره، كأنه كان يدرك أنه لن يعود إلى البيت، وأنه لن يرى زوجته تضع حملها، وأن “زين” سيولد حتمًا بعد رحيله، ربما كان ينظر إليه، لا يذكر، لأنه مات بعدها بفترة قصيرة، رآه ممددًا على السرير في حجرة النوم الكبيرة بالبيت.استطاع أن يرى وجهه وسط زحام نساء كثيرات ملأن البيت فجأة، وكان لا يزال يبتسم بهدوء، بدت ابتسامته غير موجهة لأحد. يذكر الزيارات الأخرى، حين تلتف أمه بملاءتها السوداء، تشتري الخوص من نساء يجلسن عند مدخل الجبانة، وتضع الخوص على ظهر المقبرة وتتلو سورًا قصارًا. عرف أن المقبرة تحتوي على أناس آخرين، ولا أحد منهم كُتِبَ اسمه عليها. كان موقنًا أن والده سيعلم وسط زملائه أن سعف النخيل الذي وضع فوق المقبرة إنما كان لأجله هو. كانت المقبرة قريبة من مسجد سيدي “أبو المعاطي” ومقامه المكسو بكسوة خضراء. وكان على يسار الداخل جامع كبير مهجور تساقط سقفه، وبقيت جدران من الطوب شديدة القدم تساقط ما عليها من طلاء، وبقيت في صحن الجامع أعمدة رائعة من الرخام ذي الألوان والنقوش البديعة. وكان هناك أيضًا العمودان اللذان يحجزان مسافة ضيقة بينهما، تكفي بالكاد ليمر منها طفل شديد النحول. وعلى ارتفاع بسيط من أحدهما توجد حفرتان صغيرتان ومستويتان بحجم واستدارة عقلة الإصبع. كنت إذا مررت ما بين العمودين، خلال المسافة الضيقة التي بدت مستحيلة، بينما إصبعان من يدك اليمنى يستقران في الثقبين، فهذا يعني أنك نجحت، وأنك ستدخل الجنة بعد ذهابك إلى المقابر في الناحية الأخرى من الجامع. حتمًا أنت اختبرت رهبة المرور ما بين العمودين، لأنك إذا لم تستطع لمرة واحدة المرور، فقد علمت وعلم أصدقاؤك أنك ذاهب إلى الطريق العكسي. كان الأصدقاء يترقبون النتائج فيما ينتظرون دورهم. اختار التوقف بالسيارة بالقرب من المدخل الذي طالما عرفه منذ وفاة والده قبل ٥٠ عامًا، بسبب ما رآه من تعديلات هائلة على منطقة المقابر، حتى بدا له أن مقبرة والده قد تكون أزيلت بالفعل. ولسبب آخر هو أنه لا يعرف بدقة بوابة الدخول لمقبرة والدته، لاحظ أن القليل من الأشياء قد بقي على حاله. أعيد ترميم جامع “عمرو بن العاص” وازداد الشارع الضيق الفاصل ما بين مسجد ومقام سيدي “أبو المعاطي”، وجامع “عمرو بن العاص” ضيقًا، كان واضحًا أن أعمال التجديد قد تعدت على الشارع حتى صار ممرًا ضيقًا، حار في الوصول إلى مقبرة أبيه، يذكر أن المقبرة كانت تواجه مقام سيدي “أبو المعاطي” مباشرة. دار عدة مرات ما بين المقام والمقابر إلى أن برز له رجل خمسيني، لا يدري من أين جاء، تفحصه الرجل بعين خبيرة برواد المكان المعتادين، وكان باديًا عليه أنه زائر تائه. سأله الرجل الذي يرتدي معطفًا أسود قديمًا مفتوحًا، يكشف عن بلوفر صوفي رمادي اللون برقبة تغطي إلى أسفل ذقنه، وله صلعة لامعة يحفها شعر أبيض خفيف من الجانبين: انت بتدور على حاجة؟ أجابه: إن مقبرة أبيه كانت هنا وإنه لا يجدها؟ سأله: إن كان لها رخامة مكتوب عليها اسمه؟ تحير هنيهة أمام الرجل خاصة أنه لا يعرف طبيعة عمله في الجبانة. قال له ربما لم يكن له رخامة أصلًا. جاءت إجابة الرجل سريعة وقاطعة: لا يوجد في هذه المنطقة بالذات أي مقابر صدقة> وأشار بذراعيه إلى عموم الجبانة هائلة الحجم كمن يشير إلى أملاكه التي يحفظها شبرًا شبرًا. منذ متى لم تحضر إلى هنا؟ قال في حرج: منذ سنوات كثيرة جدًا. بدا أنه فهم الأمر كقصة معتادة. قال إنه “تُرَبِي”، وإنه لم يره من قبل، وإن هناك الكثير من المقابر التي أزيلت في إعادة ترميم جامع “عمرو بن العاص” المسجل كأثر، وأوضح أن مكان المقبرة التي أشار إليها تحول إلى “ميضة” للوضوء لخدمة الجامع الأثري. سأله مذهولًا وأين ذهب الموتى؟ قال بهدوء بالغ: “العضامة”، ما بقي منهم أعيد دفنه في “العضامة” التي تنقل إليها جميع عظام موتى المقابر التي أزيلت أو التي هدمت ويعاد إنشاؤها. وحين استشعر ما يشبه الصدمة على وجهه سأله عن تاريخ وفاة والده فأخبره، قال التربي بلهجة العارف: والدك لم يتبق منه شيء، صار ترابًا. أفضل شيء تعمله هو سبيل لمياه الشرب، صدقة جارية على روحه، جهاز “كولدير” وتضعه في أي جامع وتكتب عليه اسمه، لا يوجد أفضل من ذلك. كنت على يقين من أن الذاكرة الحيادية للأماكن تقدم الألفة للموجودين، والنسيان للمغادرين، رفضك استخدام الـ GPS أثناء قيادتك في مسقط رأسك وملاعب طفولتك، لم يعنِ أن تهتدي إلى مقبرة أمك وحدك، رغم أنها المقبرة الوحيدة التي تحمل شاهدًا عليه اسم أبيك، الذي لم يدفن فيها، كانت ذهنية زوج أختك الذي كُلِفَ بعمل الرخامة وتركيبها ترى أنه لا يجوز ذكر أسماء النساء، لذلك استنكف وضع اسم أمك على المقبرة التي دفنت بها بعيدًا عن أهلها في “ميت الشيوخ”، وبعيدًا عن زوجها الذي دفن في مقبرة لم يعد لها وجود أصلًا.امحت آثاره ولم يعد ممكنًا العثور على أي شيء منه. كنت أسير خلف التُرَبِي في شبكة من الممرات شديدة التعقيد، ليوصلني إلى مقبرة أمي، كانت الجبانة مدينة هائلة للموتى. كان التُرَبِي خليطًا من لص قبور على سمسار أراضٍ، قال لي إن من الصعب أن تصل إلى مقبرة أمك وحدك، إذا لم تكن تتردد على الجبانة دائمًا، لأن المقابر في تغيير دائم، بسبب كثرة أعمال الهدم والبناء والتعلية. تغيير المعالم يجعل الوصول مستحيلًا أحيانًا، قال يوجد هنا ٣٥ ألف مقبرة، وقد ضاقت بالموتى، ووصل سعر المقبرة المكونة من عين واحدة إلى أرقام فلكية، حتى إن الناس اتجهت للدفن في القرى المجاورة. تتوزع جبانة مدينة دمياط القديمة ما بين مقامات الأولياء الصالحين، سيدي “أبو المعاطي”، سيدي “الكردي”، الست “الوالدة”. أرشدني إلى مقابر شديدة القدم و“برجولات” خشبية تآكلت، وشواهد قبور تحمل رسائل حزينة. كنت أعرف بلصوص المقابر، قرأت عنهم على مواقع عديدة، يراقبون الجبانة التي لم يعد يزورها أحد، تتهدم ولا يتابعها أحد، يسقطون سقفها وينتظرون، وعندما لا يبحث عنها أحد تعرف عصابة المقابر أن هذه مقبرة عائلة انقرضت، يبيعونها لأحد الأشخاص، ويساعدونه في استخراج رخصة ترميم باعتباره أحد آخر أقارب أصحاب المقبرة. وهكذا يتجمع أثرياء دمياط في الجبانة المفضلة التي أصبحت تتوسط المدينة، بعد أن كانت بعيدة. كان التُرَبِي يشير إلى مقابر فارهة لبعض مشاهير أثرياء المدينة من مستوردي الأخشاب والأبلاكاج والقشرة، في مقابر مطعمة بالرخام والبورسلين، وآيات محفورة وملونة بماء الذهب. كان الموتى القدامى يسجلون خسارات طبقية جديدة، رغم أنهم عاشوا زمنًا قديمًا أقل توحشًا، كان الأثرياء الجدد يقتحمون عالمهم بطرز جديدة، وباستعلاء واضح على مقابرهم القديمة ذات الشواهد الهشة التي لا تصمد أبدًا لاختبار الزمن.
كانت مقبرة أمي في مكانها، تطل على مقام سيدي “الكردي”، وحيدة، تحمل اسم والدي، دون أي إشارة لصاحبتها، بدت صغيرة الحجم، تليق بأنثى لم تكن أبدًا من هذه المدينة.

صدرت رواية صخرة هليوبوليس عن دار العين قبل أسابيع، بغلاف وتنسيق داخلي لأحمد اللباد
Like this:
Like Loading...
тнє ѕυℓтαη’ѕ ѕєαℓ. Cairo's coolest cosmopolitan hotel.