طارق الجارد: مباريات شطرنج خالدة ولكن بائدة

Two 12th-century chess pieces from Nishapur. Source: sothebys.com

مدخل

 

مضى على ظهور فكرة الشطرنج خمسة آلاف سنة. قليلة هي الأفكار التي تملك منطقا متماسكا لتصمد كل هذا العمر. أول حركة في اللعبة تحمل بداخلها عشرين احتمالا. أما أول حركتين في اللعبة فتحملان أربعمائة احتمالا، ثم تنفجر وتتشظى الاحتمالات لتتجاوز عدد النجوم في الكون. حينما تنظر إلى رقعة الشطرنج التي لا تتجاوز الذراع في حجمها أول مرة، لا يمكن لك أن تتخيل أن أربعة وستين مربعا مرقطا قادرة على استيعاب احتمالات بضخامة تداعيات الانفجار الكوني الكبير، وتتسع لمواقع معقدة كمواقع النجوم بصفحة السماء. يمكن تخيل المنجز الإنساني عبر التاريخ كله، من معمار وفن وشعر وفلسفة  رياضيات، كمباريات شطرنج. بعضه متكرر ومطروق إلى حد الابتذال كالأعداد الطبيعية، وبعضه وارد ومحتمل ولكنه لم يقع، كالأعداد التخيلية. بعضه تافه وضحل وعديم المخيلة، غير لائق بالخلود. وبعضه عميق وإبداعي وخلاب، نقش نفسه في الكتب وفي المخيلة البشرية. أيضا: بعضه عميق وإبداعي وخلاب جدير بالخلود، ولكنه اندثر كحضارة بائدة ومغمورة مثل جزيرة أطلانتس.
لكل مباراة شطرنج افتتاحية، لعبة وسطى، وخاتمة. وبمعنى آخر، يمكننا النظر للحياة بذات الطريقة. ففي الافتتاحية: ثمة حركات تفعلها لتتلمس طريقك في الدنيا كما في الشطرنج، وثمة حركات تُؤتى لك لا سيطرة لك عليها، وقد تحرف طريقك.
لمكانك من رقعة الشطرنج ولون بيادقك وطبيعة خصمك والوقت المتاح لك أثر على فرصك في المباراة يوازي أثر مكان ميلادك، عرقك، طبيعة والديك، والعمر المتاح لك على فرصك في الحياة. بإمكانك لعب الافتتاحية كالمتخبط الذي يتعثر بخطواته. وبإمكانك لعب الافتتاحية كمن تعلمها من كتاب أو معلم شطرنج. فهي على تفرعاتها واحتمالاتها كالدروب التي طرقتها أقدام البشرية على هذه الأرض: معروفة ومألوفة. بعضنا يولد بهذه الدنيا وبيده خارطة ويرشده ملاح. وبعضنا يُترك وحيدا لطرقٍ سيختطها بنفسه، ويتعلم أن بعضها مسدود، موحش، أو وعر. أما اللعبة الوسطى: فهنا يكمن السحر والخداع  والخفة. هنا تفقد براءة وبساطة الافتتاحية، وتتعقد عليك الدنيا والخيارات، وتزداد مناورة خصومك لك. هنا تكون اكتسبت الخبرات، وتكون قد فهمت العواقب والتداعيات. وتصبح كل حركة تلعبها وكل خطوة تتخذها أشبه بالمقامرات، لها تبعات على نجاحك في الحياة وفشلك. أما الخاتمة، هي لا مفر قادمة، فإما ستشعر بالندم على ما أقدمت عليه من خطوات وإما تتصالح مع ما قدمت، إما أنك ستتصرف كالمتفاجئ بقدومها وتنازع الحتمية وإما أنك ستكون متقبلا ما لا مفر منه. عموما، أعتقد أنني بدأت الحديث عن شيء وانتهيت بالحديث عن شيء آخر. فعلا، كنت أتحدث عن مراحل مباراة الشطرنج.*

يقال إن معلم الشطرنج البارع يستطيع تخيل ٢٣ خطوة إلى الأمام، وكثيرا ما يستطيع أن يرى نهايتها، أو بالأحرى نهايته، من ذاك البعد؛ إنما لا يتسنى له ذلك عند بدء اللعبة. لا يتيقن معلم الشطرنج عند بداية أية مباراة إلا من الافتتاحية، وحينما تتوثق خطواته الأولى فيها، يتسنى له تخمين مستقبله في اللعبة، وحظوظه. وربما يكتشف في وسطها، أنه في طريقه لختمها في صالحه، أو أن طريقه مسدود ومن الأحرى لكرامته أن يقدم عرضا بالتعادل أو الإقرار بالهزيمة والانسحاب قبل أن يحاصَر أو يطارَد ملكه بطريقة مهينة. فليس من وقار معلم شطرنج ولا من بعد نظره، أن يضع نفسه وملكه في نهاية محسومة كتلك.
وهذا النص، أو بالأحرى السلسلة النصية، هو بمثابة مباراة يلعبها معلم شطرنج. كل ما أنا متيقن منه هو الافتتاحية،  وأعرف خطواتي فيها وأمشي فيها واثقا، لكنني لست واثقا مما بعدها،  قد آتي بها بلعبة وسطى ساحرة ومُغوية أقودكم فيها إلى طريق خلابة، وقد أتوه فيها وأتشتت. وقد يحدوني الأمل حتى أبلغ آخرها، وقد ينقطع نفسي في منتصفها، فأعلن استسلامي قبل أن ينتهي أمري إلى كتابة لا تليق، وأنتهي بكم إلى طريق رتيب. تماما، كما يليق بمعلم شطرنج يجنب نفسه ومتابعيه تلك النهاية المأزومة.

المباراة الأولى

 

من السهل افتراض أن امرأ القيس قد تعلّم الشطرنج في أنقرة. فليس بوارد من العربي الذي علمته قسوة جزيرة العرب الخفة في الزاد، أن يحمل أحجار الشطرنج ورقعتها معه أينما ارتحل. ولعلّه أقرب إلى حمل حبات النرد في ذات الجراب الذي يحمل فيه حبات التمر، ليقامر بها مع الخلان أو حتى الجانإنْ استوحش الصحراء. من السهل افتراض أن امرأ القيس ذهب إلى أنقرة ليستنجد بقيصرها جستانتين من بطش ملك الحيرة. من السهل افتراض أن خلافه مع ملك الحيرة: المنذر ابن ماء السماء، لم يكن سوى صراعا بين كسرى فارس وقيصر الروم بسيوف عربية، وأن غضبة ابن ماء السماء ليست سوى غضبة فارسية. من السهل افتراض أن الشاعر الذي قضى شبابه في الارتحال مع الصعاليك ومشاطرتهم المجون والخمر والقمار قد وجد وقتا للافتتان بالشطرنج أثناء سعيه لاستعادة ملكه، وأنه مات بقروح الجدري في طريق عودته من أنقرة لاستعادة ملكه. لقد حار الرواة وعبث الإخباريون بامرئ القيس ومغامراته، وما ظني أنهم خلعوا عليه لقبالملك الضليل، إلا إسقاطا لضلالهم وإضلالهم عليه. فمن الوارد جدا بذات الدرجة، أن ذا القروح اللقب الثاني لامرئ القيسقد مات بالجدري في طريقه إلى أنقرة وليس في عودته منها. أنه لم يهرب من ملك الحيرة، أنه لم يحتاج للاستنجاد بقيصر، وأنه لم يسمع بالشطرنج قط، أن تلك الأبيات منحولة لتسلية الخلفاء الذين تعلموا الشطرنج من بعد، وأن شاعرا اسمه امرؤ القيس لم يوجد. أو هكذا ظننت! فآخر ما أتوقع، أن أجد الإجابة على سر هذه الأبيات الشاذة من شاعر جاهلي، بعد ألف وخمسمائة عام من وفاته، في لندن!



* Courtesy of the author.

كل ما كنت أريده هو الاختباء من المطر، فحينما دلفت إلى  “Knight’s Bar”*  كان الساقي يرتب الأكواب ويمسح ماكينة الإسبرسو.
لقد أتيت مبكرا، لن تجد أحدا تلاعبه الآن.
لم أفهم ما يقصد الساقي، ولكنني ابتسمت بخجل:
إنني أبحث عن الدفء. هل بإمكاني أن أطلب كوبا من اللاتيه؟
قال لي الساقي وهو يتأمل قميصي المبتل:
أستطيع أن أرى ذلك.عموما، اختر طاولة وسأعدّ قهوتك.
بدأت أطالع الطاولات بحثا عن مكان بعيد عن الواجهة الباردة.
إنهاحانة شطرنج، هكذا فكرت وأنا أشاهد قطعة ضخمة لحصان الشطرنج على مستوى عيني. كانت هناك أثريات وكتب ذات علاقة بالشطرنج وتاريخه موزعة ومعلقة في جنبات المحل. وكانت كل طاولة عبارة عن رقعة شطرنج، فانتقيت أبعدها وأكثرها عزلة مجلسا.
لاحظ الساقي وهو يعد لي القهوة، مروري على الأثريات وتوقفي عند بعضها لقراءة النبذة التاريخية تحتها، قبل أن أتخذ مقعدي. فسألني وهو يضع اللاتيه على طاولتي إن كنت ألعب، فأومأت بالإيجاب محاولا افتعال الحديث (مع شيء من الاعتداد):
أنا متعجب بأنبول مورفي”* قد مر من هنا؟
الحانة استطاعت الاحتفاظ بالرقعة التي تشير إليها. لقد لعب عليها أثناء جولته في أوروبا قبل ١٥٠ سنة.
وكما توقعت، كانت هذه فاتحة لحديث قصير ولكن شيق عن تاريخ الحانة وتاريخ الشطرنج، عن مواعيد اللعب فيه وعن زبائنه، عن غايتي في لندن وغايته من العمل في الحانة، ثم عن مساقط رؤوسنا. وعندها التمعت عيناه:
أعتقد أن شخصا من خلفيتك سيساعدني في فهم في أية حقبة وقعت مباراة الشطرنج هذه؟
ثم أتى لي بكتاب من الأثريات التي تحتفظ بها الحانة. الكتاب يبدو أنه مقتنى من إحدى مكتبات الكتب المستعملة، جلدته الرخيصة مهترئة، وزواياه فقدت حدتها. الصفحات اليمنى من الكتاب فيها مخطط رمزي لمباراة شطرنجفي لحظة حاسمة منهامع الترميز العالمي لحركاتها، والصفحات اليسرى نبذة تاريخية عن المباراة ولاعبيها. ولعله أقرب إلى روزنامة تعليمية عن تاريخ الشطرنج وطريقة لعبها، فالنص مكتوب بالروسية ومعدوم الهوامش والمراجع، وظني أنه من الكتب التي كان يوزعها الاتحاد السوفيتي على أندية الشطرنج التي نشرها في كل مدينة وقرية في نواحيه.*
يقول الساقي إن أحد مرتادي الحانة تركه هنا، وهو كهل روسي توقف عن ارتياد الحانة ولكنه كان كلما مر جلس مع الساقي أو صاحب الحانة أو أحد الزبائن، يتدارسون حركات اللعبة على الطاولة، بينما الرجل الروسي يترجم  يفسر النبذة التاريخية لهم.
يقول النادل وهو يشير إلى مباراة في الكتاب، بأن هذه المباراة القصيرة والغير مكتملة  يُعتقد أنها أول توثيق لانتقال الشطرنج من فارس إلى الجزيرة العربية، قبل أن تنتقل مع الحروب الصليبية إلى أوروبا. وأن الكهل الروسي يقول أنها دارت بين ابن ملك الحيرة، وبين شاعر أو ملكأو ربما قال شاعر وملكعربي. وأنها جرت في واحة في شمال صحراء الجزيرة ، ويُظن قبل ظهور محمد، وأنها تسببت في تيه الشاعر في الصحراء وضياعه. وأومأت له أن نحرك أحجار الشطرنج كما رمّزت في الكتاب علني أفهم ماذا جرى. ولما رأيت الأحجار تتحرك على رقعة الشطرنج، مثلما تحركت قبل ألف وخمسائة سنة، رأيت كل شيء.
رأيت الواحة، رأيت وأنا أقترب منها رجالا وفتيات متحلقين وسطها يتهامسون وعيونهم مأخوذة ومتطلعة لا تعبأ بمروري بينهم ومزاحمتي لأكتافهمإلى سجادة
على السجادة مُتِّكآن متقابلان، وعلى أحدهما ولي عهد المنذر ابن ماء السماء، يعلّم امرئ القيس في المتكأ المقابل كيف تتحرك قطع الشطرنج، ثم يعرض عليه اللعب فيقبل.
وعندها بدأ الرجال يفركون أياديهم من فرط الحماس ويلكزون بعضهم للمقامرة على مصير اللعبة، والفتيات يتغامزن ويتباسمن لبعضهن وهن يطالعن اللاعبين.
وليس متوقعا من ملكين عربيين إلا ما حصل، أن يبرز كليهما أشجع مقاتليهم للمبارزة في الساحة  لرفع حماسة حشديهما قبل أن يشتعل وطيس المعركة. لقد أخرج ابن المنذر الجندي أمام ملكه إلى وسط الرقعة، ورد امرئ القيس بإخراج جنديه المناظر لصدّه. ثم أخرج ابن المنذر فيله ثم حصانه. أما صاحبمكر مفر، مقبل مدبر معافقد أخرج حصانيه لملاقاتهما
حصّنابنالمنذرأو ابن ماء السماء كما سأسميه من الآن اختزالاملكه جيّدا في جناح جيشه. لكن شاعرنا وفارسنا الشجاع ترك ملكه يقود المعركة بالمناورة بحصانيه من قلب جيشه.
عرفت أن ابن ماء السماء يروم كبد امريء القيس حينما رأيته يبدأ هجومه بتحريكه الحصان مرة أخرى، بذات الطريقة التي أسماها الطليان فيما بعد Fegatello Attack*.
وجد امرؤ القيس نفسه مضطرا أن يناور بحصانيه، ويهاجم قطع خصمه بالملك للدفاع عن نفسه. بينما يواصل ابن ماء السماء هجومه بالوزير، بالفيل الآخر، بالحصان تارة، وبالجندي تارة، مستدرجا الملك إلى عراء الرقعة ومطاردا له وحيدا، بينما حشوده تقف مشلولة خلفة متخلية عنه. كان ندماء امرئ القيس محبطين من الإهانة التي يتعرض لها ملكه، أما ندماء ابن ماء السماء فلا يتورعون عن الضحك وتشجيع الفتيات على التعليق والابتسام.
كان واضحا مصير امرئ القيس في اللعبة، ولكنه قرر الاستمرار باللعب بعناد، حتى توقفت اللعبة عند اللحظة الحاسمة المرسومة في الكتاب. وبدا لي ولساقي الحانة واضحا أن الكتاب وإن صمت قبل أن تنتهي اللعبة فإن كل ما تبقى أن يحرك ابن ماء السماء جنديه ويطرح الملك. ولقد رأيته بعيني يهم بفعلها بيده قبل أن يتدحرج رأسه على رقعة الشطرنج، بينما يطل امرؤ القيس بظله على اللعبة، حاملا سيفا يتقاطر منه الدم على الرقعة، على أحجار الشطرنج، وعلى رأس ابن ماء السماء قائلا: كش ملك!

 


هوامش

* “Play the opening like a book, the middle game like a magician, and the endgame like a machine.” – Rudolf Spielmann, a chess theorist.

*صورة لمدخل المحل بالأسفل.
*بول مورفي لاعب شطرنج أمريكي، أو لبطل عالم للشطرنج غير متوج. حقق هذا اللقب الغير رسمي بعد جولة في أوروبا، نازل فيها أشهر اللاعبين في القرن التاسع عشر.
*تسيد الروس لعبة الشطرنج في القرن العشرين، ولذلك سبب بسيط. فعندما انتصرت الثورة البلشفية في روسيا، ووصللينينللحكم أقسم أن يدخل العلم والثقافة والفن إلى كل قرية في الاتحاد السوفيتي، ولم يجد شيئا يجمع هذه العناصر الثلاثة ببساطة مثل الشطرنج

*Fegatello Attack or Fried liver Attack:

هي افتتاحية اشتهرت من إيطاليا، بسبب اسمها الذي يأتي من مثل شعبي بمعنى ميت كقطعة من كبد”. فهي افتتاحية ذات استراتيجية هجومية مبكرة، وغالبا ما يستخدمها المحترفون في الشطرنج، كفخ للإيقاع بالمبتدئين فيها.