إسلام حنيش في عيد الفطر: من سيرة آل حنيش

From Islam Henaish’s family archives, courtesy of the author

البداية كانت من هناك، تحديداً من المطبخ. بالتأكيد. من صوت ملامسة البيض للطاسة، ورائحته، وطعم عصير الليمون اللاذع في الصباح. أمي في قميصها الأبيض المبتل بفعل العرق. درجة حرارة المطبخ تختلف عما تعلنه هيئة الأرصاد الجوية.
صوت الصباح يسير على مهلٍ من الراديو بالخارج نحو أرجاء البيت راكبًا بخات الماء التي يطلقها أبي أثناء كي الملابس بفانلة بيضاء نصف كم، وبنطلون بيجامة خفيف. ستظل هذه هي صورة أبي الأحب لي لوقت طويل. ستظل هي الصورة التي تذكرني بتلك الأوقات، وبأبي أثناءها.
البداية من بيتنا القديم، في الغرفة البحرية البرحة، التي تشاركتها وأخي العزيز، والتي اتسعت لخزين أحلامنا. مكتب رمادي يخصه، بمكتبة طولية، يتصدرها لوح أركيت يحمل صورة بالألوان المائية لتوم وجيري، مهداة إليّ منذ عمر الخامسة (إلى صديقي إسلام – محمود تيمور – سبتمبر ١٩٩٢). ما زلت أحفظ ذكراها كأنه الأمس.
كانت تطل شرفة غرفتي على شرفة الجيران الخلفية. وفي شرفة الجيران، تعرفت على صديقي الأول. الأرنب. أذكر أني كنت أحبه، لدرجة أن جارتنا أرسلته يومًا هدية لي، وأيضًا لدرجة أن أمي حين ذبحته لم تخبرني أنه هو. كانت القصة الرسمية حتى كبرت أنه قفز من البلكون. هكذا اختفى أول أصدقائي من حياتي منتحرًا.
البداية من سطح البيت. من جوار الدجاجات ورائحة الخبيز المختلطة برائحة براز الدجاج. من سهرات العائلة الدائمة فوق الحصير هناك، حيث تعلمت للمرة الأولى كيف أقود دراجة إلى السماء وأنا فارد جناحي على اتساعهما. وتلمست الانعكاسات الأولى للكثير من المعاني. الغروب. الهدوء. الصفاء. الحب. العائلة. المرح. السمر. الهروب. الاختباء. الخطيئة.
ومن الأعلى أيضًا، رأينا العالم على وسعه، بلا حدود.
في الأعلى، ربينا كتكوتًا أنا وبنات عمي. لم يكن من نسل دجاجات جدتي. كان يخصنا نحن. كتكوتنا. كان صغيرًا، خائفًا، ينتفض لأقل تهديد. وما أكثر التهديدات لكائنٍ مثل هذا أمام عصبة من الأطفال أكبرهم في الحادية عشرة تقريبًا.
لا أذكر أنه عاش أكثر من أسبوع. اشتبهنا في إصابته بدور إنفلونزا حاد، فأذبنا له قرص “ريفو” في الماء الذي كنا نقدمه له. ومات في ليلته.
حين أبحث عن كنز حقيقي في البيت القديم، بداخلي، أعثر على أشياء كثيرة. العائلة، ودفء أمي، وبونبون “ملوكي”: ظل جدي الدائم وأثره على الأرض. أظن أنه كان يسوي كل خلافاته ومشاكله ببونبون “ملوكي” بنكهة النعناع.

جدي هو محمد أحمد علي حنيش. ولد في عام ١٩١٨، وتوفي في ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٨. لم يخلق مثله في البلاد.
كان تاجرًا فطنًا. أحب أن أتذكره في السادسة صباحًا، برائحة معجون الحلاقة، وكولونيا خمس خمسات، التي ما تزال عالقة في أنفي. وبنبون ملوكي طبعًا.
“كان يرفع جوال الأرز، الذي يزن مائة كيلو، في نطرة واحدة فوق الميزان الطبلية. وحتى سن التسعين، كانت عضلتا ساعديه متكورتين كبرتقالتين بسرة.”
“كان يجلس وقت الخطوبة مع حماه في الصالة، ولا يقابل ستك، ورغم ذلك يواظب على الذهاب. ليه يابا؟ يا واد كنت أروح يمكن ألمحها من مكاني وهي معدية. هاهاهاها.. كان رومانسي الله يرحمه.”
“كان شديدًا. صلبًا. لا يكل، ولا يشتكي من التعب.”
“كان أمينًا، لا يكسب حرامًا، ولا يطعمنا حرامًا. سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى”
يمر جدي بيننا في أي تجمع عائلي. قد نستهلك نفس الأحاديث كل مرة، ونضحك كثيرًا، ونبكي كثيرًا. بيتنا القديم تخلص من أشباحه بعد الهدم. لا نشعر بشبح جدي بعد أن اختفت غرفته التي عاش فيها سنوات قبل وفاته.

هجر عمي شقته القبلية، بالدور الأول، في منتصف التسعينيات لأجل أحلام عُمودية المؤسسين الأوائل لمدينة العاشر من رمضان. بعد هجرها، تحولت إلى مخزن وملعب، وغرفة كبيرة للأشباح والقصص الخرافية. قبل أن تكون سكنًا لجدي وجدتي بعد ذلك.
الغرفة البرانية المتاخمة للباب، استغلها جدي مخزنًا إضافيًا لمحله، فامتلئت بعبوات البويات ولفائف الشنبر والأسلاك والخراطيم.
الغرفة الجوانية، ظلت فارغة، لم تشغلها سوى ثلاجة إضافية لبيت جدي (شقته كانت المقابلة لشقة عمي). وظلت نقطة ضعف الجميع. كان عبور الصالة إلى المنطقة الداخلية، بما تحويه من حمام ومطبخ متهالك وغرفتي نوم فارغتين يمثل للجميع تحدٍ كبير. أذكر عمتي تقرأ آية الكرسي كاملة من على الباب بصوت عالٍ، لأجل رغيفي خبز من الثلاجة بالداخل.
غُسِّل في تلك الغرفة كل من سيدي عبد البصير عم أبي وعمتي هيام، قبل أن يذهبا لمثواهما الأخير.
تروي جدتي في غسل هيام، التي ذهبت في حادث سيارة: “كانت مبتسمة. قلبتها يمنة ويسرة، لم أرها إلا مبتسمة”
أما المنطقة السعيدة، فكانت الصالة الفسيحة. الملعب. كانت ملعبًا لكرة القدم بالأساس. كما مثلت -بجدارها العريض- محاكاة موضوعية لملعب اسكواش. بمضربي راكيت وأشباه كرات تنس، كدنا نصل إلى العالمية.
الاستغماية، وكهربا، وثبت صنم، وصلح، والكلب الحيران، كانت لهم أنصبة بالطبع.
هناك تعلمت حراسة المرمى، وتعلمت الاسكواش. وتعلمت كيف أركب اللمبات، والفرق بين اللمبة القلاووز والمسمار. فقد كنا نكسر لمبة يوميًا تقريبًا.
عرفت أول تهديد في حياتي في شارعنا الخلفي، حينما كان خاليًا إلا من عطار يبيع لنا سكر النبات، ودكان بقالة، قبل غزو محلات العبايات الحالي. حينها اعترضني “كوماندا الشارع” بسنه الأكبر، وطوله الفارع، وصاحبيه البودي جارد، ورفض أن أعبر. فلففت من شارع آخر، وطِن فيه بيت “الكوماندا” شخصيًا. دار أحادية الدور، بشباك مشرع دائمًا تقريبًا. ثم ألقيت صاروخًا مشتعلًا في عقر داره. لم يكن هو في البيت، ولم يحدث شيئًا بعدها، وربما لم يشعر أحد بشيء، أو ربما لم يكن أحد بالداخل أصلًا. ولكني شعرت بزهوة الانتقام والانتصار.

ما زلت أحتفظ بمفتاح البوابة الخارجية للبيت على عادة الفلسطينيين، لعلنا نعود يومًا. ولكنني، على خلاف الفلسطينيين، أعرف جيدًا أنني لن أعود. قبل الهدم، حفرت على الجدران المحكوم عليها بالإعدام بخطي كلماتٍ عذبةً، ورسمت قلوبًا ملتاعةً.
في السابع والعشرين من أكتوبر ٢٠١٢، ودعت بيتنا، كما يليق بخيل حرب أصيل، أو بمسافر عزيز على باخرة ستذهب إلى آخر الدنيا، ولن تعود. لوحت بالمناديل، وذرفت الدموع، وأطلقت الصفارات. وقلت “مع السلامة يا حبيبي” بعلو حسي، “وشاورتله بالجامد قوي”.