خبزت أمى الكيكة وزينتها بالكريمة البيضاء والفواكه. أخرجتها من الثلاجة وسارت وسط أنظار وحماس الجميع حتى وضعتها على طاولة الطعام، ثم بدأت في غرس شموع عيد الميلاد الصغيرة فيها. أوشكنا على إطفاء النور وإشعال الشموع، اللحظة المثيرة التي من أجلها تسارعت دقات قلبي، لأني أحصل حينها على اهتمام وحب الجميع، قطعها رنين جرس لباب. ذهبت مُسرعاً لفتحه متوقعاً أحد أصدقائي، لكني وجدت رجلاً طويلاً ونحيلاً، بأنف أفطس، عيون واسعة كبيرة كما الثور، ذقن حالكة السواد، بلوفر كحلي متسخ وبجواره حقيبتي سفر.
أبصرت خالو لأول مرة في عيد ميلادي الثامن.
في وجهه حزن شديد، ألجمني عن الإتيان بأي صوت أو حركة. انحنى بجذعه نحوي وسألني بالفرنسية بصوت هامس “لابد أنك شارل إذن؟”
جاءت أمي لترى من على الباب وحينما لمحته قفزت إلى حضنه. بين الفرح والدموع قالت لي بالعربية “سلم على خالك عبده”.
أتى فجأة مثلما رحل فجأة.
استقر في بيت جدتي المجاور لنا في ذات الشارع. بيت قديم من ثلاثة أدوار. سكنه وحيداً لأن كل أخواته البنات يعشن مع أزواجهن، وأخاه يعيش في القاهرة منذ دراسته الجامعية. توقع الجميع أن يحمل هدايا من أوروبا في حقائبه، لكن لم تحتو إلا كتباً، وأوراقاً، وملفات بلغات مختلفة.
بعد أيام من مجيئه وصلت إلى الميناء شحنات أخرى من الكراتين والصناديق الخشبية، كل يومين كان يذهب بعربة ربع نقل إلى الميناء ويعود بها مُحملة، يرفض أن يُسَاعده أحد بل يظل طوال النهار يحمل بنفسه الصناديق من العربة إلى المنزل والعرق ينز منه، والإرهاق يستنفذ كل عضلة في جسده، ومع ذلك يستمر في الحمل وحيداً رافضاً أن يشاركه أحد في حمل صليب آثامه.
المزيد، والمزيد من الكتب، امتلأ بها المنزل.
لم يكن يخرج كثيراً، لكنه حرص على كسب ود الجميع، يحضر في التجمعات العائلية، يبتسم ولا يشارك في الأحاديث. يذهب أحياناً للكنيسة في الأعياد، لكن لا ألمح شفتيه تتحركان في الصلاة.
“جنيف مدينة حزينة ومملة” قالت صديقتي وهى تصب النبيذ في كأسي.
هى أيضاً عمتي الروحية وكاردينالة بوسطن. نحن من ذات الطائفة، وحينما هربت إلى أمريكا، واستقر بي الحال في بوسطن، رحبت بي وكانت نعم الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف. لم أكن أعرف أي شخص في المدينة، وجل وقتي قضيته مُتنقلاً بين مكتبات الجامعات ممارساً طقوسي الكهنوتية، منعزلاً عن التواصل مع البشر. اتفقنا على اللقاء مرتين أسبوعياً لنتحدث بالإنجليزية لأطور من نطقي ومعرفتي باللغة.
“لم أجد ما أفعله هناك، جنيف تنام في الخامسة، ذهبت مرة إلى حفلة موسيقية فوجدت الجمهور من المراهقين، وسطهم كنت مثل أمنا الغولة” قالت وهى تضع الزجاجة على الطاولة بعد أن ملأت كأسي حتى حافته.
سألتها “لكن على الأقل زرت المقام؟ أليس كذلك”
ابتسمت، وكان لديها غرة على شكل نصف دائرة تظلل جبهتها، وحينما تبتسم يشرق وجهها مثل قمر سعيد بامتلاكه السماء مُنفرداً.
“بالطبع زرته، تعال معي”. قالت واتجهت إلى الممر المؤدي لغرف النوم. تبعتها، فدخلت إلى الحمام. أضاءت النور، فشاهدت “نيجاتيف” أفلام تصوير سلبية ممسوكة بمشابك، ومُعلقة بحبل ممدود فوق البانيو. كانت تلك هى الصور التى التقطتها في رحلتها، فتقاليد مذهبها داخل الطائفة تمنعها من استخدام التصوير الرقمي إلا للضرورات القصوى، لذا تستخدم كاميرات التصوير القديمة وتحمض أفلامها بنفسها.
أمسكت شريط أحد أفلامها، تناولت مقصاً، ثم قصت الفيلم من المنتصف. رفعت نصف منه في مواجهة الضوء تبحث عن كادر محدد.
“ها هو انظر” وجهت الكادر نحو الضوء. نظرت فرأيت صورة لحديقة ينتصب فيها شاهد قبر صخري، وعليه نقش غير واضح المعالم، لكن عرفته فوراً، خفق قلبي واغرورقت عيناي بالدموع. فلم تكن الصورة إلا قبر بورخيس الحبيب، الذي عشت معه سنوات منذ طفولتي، والذي علمه خالي العربية، خالي الذي حملني الأمانة، والأمانة التي حملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً.
أعطتني الكادر المقصوص، فأخذت الكتاب بقوة.
عدنا إلى الصالة وجلسنا نحتسي النبيذ، ثم خبطت صديقتى جبهتها بيدها “كدت أنسى” قامت من مكانها، لكن لم أتبعها تلك المرة بل جلست أتأمل كادر الصورة. خيل إلي أني أتحسس بين يدي ملمس الحجر الذي نحت منه شاهد قبر بورخيس.
عادت من الغرفة وهي تحمل ظرفاً أبيض صغيراً، فتحته وأخرجت منه عشبة خضراء. مدتها نحوي، وهذه أيضاً لك، قبضة من أثر الرسول.
وصل خالو عبده إلى مارسيليا-فرنسا، ومنها شق طريقه نحو باريس. حاملاً ما ظن أنه الكنز الذي سينقذه من التسكع والتشرد في الأرصفة الأوروبية الباردة.الكنز = كتاب قديم اشتراه بقروش في الإسكندرية، يعود إلى القرن التاسع عشر ويحتوى على مجموعة من الخطابات والتقارير الصحفية لإميل زولا يروي فيها يوميات ما جرى في كميونة باريس.ظن خالي أن بيع الكتاب في باريس سيكسبه ثروة طائلة تؤهله للحياة في تقشف وزهد نباتي. طوال الرحلة ظل يقرأ الكتاب مراراً وتكراراً. ومن بين كل التفاصيل تعلق قلبه بكنيسة سان برنارد، القلب الأحمر النابض لليسار والعمال والنضال وشهداء اللاسلطوية وآخر محاولات إنقاذ البشرية من مصيرها التعس. لذا ما إن وصل إلى باريس حتى اتجه إلى هناك.كمن يوغل في حلم، وصل خالي لكنيسة سان برنارد فوجدها مُحتلة من قبل مجموعة من العاهرات. دخل الكنيسة وبدلاً من تأمل بنيانها المشيد بدماء الرفاق ودموع الثورات المهزومة جذبته اللافتات التى ترفعها العاهرات الثوريات.سألته إحداهن من يكون وعن ماذا يبحث؟ وحينما عرفت أنه من إسكندرية، قفزت إلى حضنه، وقالت “أنا أيضاً من الإسكندرية”.ومثل ذلك أو أقرب كان لقاء خالو بالعاهرة الجليلة “جريزيلد ريال”.-ولدت الجلية ريال في لوزان بسويسرا عام ١٩٢٩-تنقلت في طفولتها بسبب ظروف عمل والديها بين الإسكندرية وأثينا.-مع بداية الحرب العالمية الثانية عادت إلى بلدها سويسرا حيث قضت مراهقة سعيدة تتعلم فيها البيانو، ممتلئة بالحب، عاجزة عن الوصول للنشوة.-بدأت العمل كموديل عارٍ للفنانين، لكن انتهت بالزواج من أحدهم وأنجبت منه طفلين قبلا أن ينفصلا بالتراضي.-رحلت في الستينات إلى ألمانيا. حاصرها الحزن الألماني، لكن روحها المنطلقة المنذورة للملكوت وجدت طريق الخلاص، واحترفت الدعارة.-بداية من السبعينات شكلت مع جليلات الشوارع أول حركة نضالية للمطالبة بحقوقهن، ضد استغلال القوادين، والشرطة، والزبائن، في نضالهن احتلوا كنيسة “سان برنارد” للمطالبة بالحق في التنظيم.-في جنيف أسست أرشيف “ديكومنت” لتوثيق تراث العاهرات ونضالهن، وحسب شهادة خالي فقد كان هو من تبرع بثمن نسخته النادرة من مراسلات وتقارير إميل زولا لتأسيس المركز الذي أصبح مديره، وموظفه وحارسه.قضى عبد السيد سنواته التالية في نعيم سويسري، محاطاً بعناية عاهرات جنيف، منكباً على جمع مذكراتهن ورسائل العاهرات من أوروبا ومختلف دول العالم.شعر بأن سنوات دراسته في قسم المكتبات بكلية الآداب، كانت بمثابة إعداد روحاني وعلمي لهذه المهمة.يستقبل البريد في الصباح: خطابات، كتب، صور من محاضر شرطة، أحكام قضائية، قصاصات صحفية. كلها مواد ذات علاقة بحياة العاهرات، ونضالهن من كافة أنحاء العالم. يعكف على مراجعة كل هذا وتصنيفه وتبويبه.مضت حياته على هذا المنوال، لا يقطع عزلته، سوى رحلات خاطفة للقاء السيدة الجليلة، أو جمع مواد يتطلب تحصيلها بحث وتنقيب داخل مختلف أرشيفات المدن الأوروبية ومكتباتها.كل شيء هادئ في سويسرا.“جنيف مدينة حزينة ومملة“حتى خريف عام ١٩٨٥، حينما قابل الشيطان الأعمى وعمده بنفسه، فعرف باب الكذب، وعبر من خلاله ولم يعد أبداً. |
هرب خالى عبد السيد من مصر سنة ١٩٧٢. حمل حقيبة صغيرة على ظهره وقفز في بطن سفينة. اختفت أخباره لعام ونصف تقريباً قبل أن يرسل أول رسالة.لم يشعر بالخجل يوماً من سبب هروبه، بل حرص على ذكره حتى ولو بشكل عرضي. كأن يكون في منتصف حديث عائلي ويقول بلا داعٍ “أصل أنا سافرت بسبب الحرب، أنا بكره الجيش والقتل والدمار والحرب”.في جلساته معي يكون أكثر صراحة، “لماذا أقاتل اليهود؟ لماذا نقتل بعضاً من أجل رملة؟ ثم ها هم استعادوا الأرض؟ ما الذي تغير؟ هل توقف القتل؟ هل انصلح حال البلد؟ أقول لك… كل هذه أكاذيب، الدين، الوطن، الحروب، والجرائد جميعها أكاذيب، لكننا يجب أن نواجه الأكاذيب بأكاذيب مماثلة كي نعيش في راحة بال.”يأخذ نفساً من دبوس الحشيش، يخرجه من فمه وهو يسعل وحينما يهدأ السعال “كن مطمئناً جداً يا شارل“توقف خالي مبكراً عن تناول اللحوم. “في اليوم الذي رأيت فيه لبني على يدى وعرفت أنى صرت منتج للحياة، توقفت تماماً عن أكل أي حيوان، إلا الأسماك واللافقاريات من الكائنات البحرية“. تطورت نزعته السلمية، وزهده في ملذات الحياة، لكن بدلاً من طريق رهبنة الكنيسة اتبع ضلالات أخرى.…وهرب لأوروبا.بعد عودته بأسابيع، أقيم الاجتماع العائلي في منزلنا. حضر خالي الأصغر من القاهرة، كذلك خالاتي. موضوع الاجتماع رغبتهم في بيع البيت القديم.رفض خالي الخروج من المنزل، وعرض عليهم شراء نصيبهم.نظراً لتقشفه في الملبس والمأكل منذ عودته ظنوا أنه عاد خاوي الوفاض. لكنه اشترى نصيب كل فرد من أخوته بسعرٍ عدل، ومنح البنات فوق ثمن البيت أسورة ثقيلة من الذهب، والأخ خاتماً ذهبياً وسلسلة لابنته الصغيرة.أغلق نوافذ البيت الكبير، وأبوابه. لم يعد مسموحاً لأحد بزيارته.مندمجة مع التلفاز، تتابع أمي قداس العيد، بينما نأكل في صمت. يقرأ خالي في كتاب صغير باللغة الألمانية، ويأكل بنهم أوراق الخس.أقلب – أنا- حبات الفاصوليا مع الرز. نظرت في كتابه فرأيت رسمة تصور قلعة على الشاطئ ورماة الأسهم أعلى أسوارها يصوبونها على مراكب تحمل مقاتلين يرتدون خوذات مزينة بقرون على الجانبين.لاحظ خالي اهتمامى بالكتاب، فسألنى “لماذا لا تأكل اللحم، هذه مائدة العيد؟”“صرت نباتياً” قلتأغلق الكتاب، وقال “تعال معي“انصرفناً دون أن يلحظ أحد غيابنا. ذهبنا إلى منزل العائلة القديمة، قلعته المكونة من ثلاثة أدوار.فك السلسلة عن البوابة الحديدية.تجَاوزنا مدخل البنَاية وصعدنا السلالم، لأفاجأ بأرفف من الكتب تمتد من الأرض للسقف، تجاوزنا الدور الأول حيث باب الشقة مفتوح، نظرت إلى الداخل فشاهدت أرفف الكتب تنتصب بمحاذاة الجدران. عرفت الآن عربات النقل التي تتوقف أمام المنزل ويُنزل من عليها ألواح الخشب بنفسه، رافضاً مساعدة أي أحد، ماذا كان يشيد بها. أرفف في كل مكان، تحمل كتباً مكدسة لا أعرف متى اشتراها ومن أين وكيف أتت إلى هنا.وصلنا للدور الثالث والأخير، هذه المرة فتح باب الشقة المغلق، دخلنا فلم يكن هناك أرفف ولا كتب. الشقة خالية تماماً دون أي أثاث، إلا بساط من الحصير مفروش في مُنتصف الصَالة، وقفص يحمل أباجورة ذهبية تضيء كما الكوكب الدري.طلب مني الخال خلع حذائي، كذلك الشراب. مشيت على البلاط البارد، وكان نظيفاً بلا ذرة تراب.جلسنا على الحصير.وفي هذه الليلة عمدني خالي.
|
طقس المعمودية: يجلس المرشدُ والزائرُ على الأرضِ مُتقابلين. ينظرُ الواحد للآخر، يغلقُ الزائر عينيه ويفتحهما ثلاث مرات. يرفعُ المرشدُ قدميه، كذلك الزائر مثله يفعل. تتلامس أقدام الاثنين، ويضغط كل واحد بطن قدمه ببطن قدم الآخر. يُعتمد على الذراعين لتحقيق الاتزان وقدر معقول من الدفع كفيل بانتقال المعمودية من طرف إلى الثاني.
بعد التعميد، لا يصبح الزائر غريباً، ولا المرشد دليلاً. بل أخوة في محبة الكتاب والكذب وراحة البال، لأجل هذا يمكن لكلا الطرفين الصلاة بغرض الاستشفاء أو التواصل أو البحث عن السلام النفسي، وتكرر العملية على حسب الحاجة.
أنهينا زُجَاجة النبيذ، صفت نفسي وراق مزاجي.
شكرتها على الهدايا الثمينة. وضعت كادر الفيلم داخل الظرف مع العشبة. هممت بالانصراف، لكنها أمسكت يدي وقالت اجلس قليلاً هَيْتَ لَكَ.
أجبت لدي دراسة في الغد الباكر، وواجبات وجب تسليمها قبل قطع سيف الوقت. قاطعتني بصوت ناعس/سكران “على الأقل لنصل قبل أن تنصرف”
في الصباح التالي ذهبت إلى مكتبة الجامعة، ففي معملها ماسح ضوئي لأفلام الفوتوغرافيا. بين فكي الماسح الضوئي وضعت الفيلم، وعلى شاشة الكمبيوتر شاهدت الصورة الضوئية تظهر بألوانها الزاهية.
ضريح صخري مكتوب عليه اسمه الثلاثي خورخي لويس بورخيس. الشاهد من حجر غير مصقول، نقش عليه سبعة محاربين يحملون الدروع وآلات الحرب، كتب أسفل النقش “And ne forhtedon na” باللغة الإنجليزية القديمة تعني “لا تكن خائفاً” لكنها في الأصل بيت شعري من قصيدة “The Battle of Maldon” تعود للقرن العاشر الميلادي وتصور هزيمة جيش من الإنجليز الأنجلو ساكسونين أمام غزوة من غزوات الفايكنج.
أحفظ كل تفاصيل القبر من حكايات خالي عبده، وأعلم ما هو منقوش عليه، فخالو من حفره بيده وحمل الشاهد الثقيل، وزرع الحديقة العشبية فوق قبره. أخرجت العشبة الخضراء من الظرف الأبيض وشممتها، لم أشم شيئاً لأني مصاب بالزكام. كبرت الصورة على جهاز الكمبيوتر فشاهدت شاهد قبر آخر يظهر في عمق الصورة. ابتسمت، ثم طبعت قبلة على كف يدي ولطعتها على جبهتي مُتمنياً الرحمة للجميع.
كان ذلك قبر السيدة الجليلة، والذي أيضاً حفره وزرعه خالي بنفسه في المرة الوحيدة التي غادر فيها قلعته في الإسكندرية عام ٢٠٠٥، حينما سافر بنفسه للإشراف على مراسم دفنها.
قبل وفاتها كتبت قصائد هزلية تسخر فيها من الموت والشيخوخة والسرطان الذي شخصت به. كانت تبعث تلك القصائد مكتوبة بخط اليد على ورق ملون وترسلها له على البريد، وكان يقرأها ويضحك، وكنت اقرأها وأقول له “لعلها سامحتك”.
فكان يقول “حتى لو، لم يعد الأمر يهم”.
في معرض اهتمامه بالآداب القديمة، اهتم بورخيس بالأدب العربي. اطلع عليه مترجماً إلى لغات أوروبية مختلفة، وكتب قصصاً أبطالها أمراء قدامى، وفلاسفة يحاولون معرفة كنه الدراما. لكن فقط في سنواته الأخيرة، مقيماً في جنيف، اكتشف أن اللغة العربية وعلى عكس اللغات الأخرى لا يوجد فيها لغة قديمة ميتة وأخرى حديثة حية، بل هي مستويات مختلفة من ذات اللغة تعيش متجاورة. وبالتالي لا يحتاج قارئ العربية لتعلم لغة وشفرات مندثرة ليقرأ النصوص القديمة مثلما يعاني قارئ الإنجليزية وبقية اللغات الأوروبية، بل وكما شرح له خالي ببساطة، يمكن لقارئ العربية أن يتناول كتاباً كتب منذ أكثر من ألف عام للجاحظ ويقرأه مثلما يقرأ جريدة الصباح لليوم ذاته.
طلب بورخيس من خالي تعليمه العربية، استصعب خالي في البداية المهمة. فكيف تعلم عجوزاً ضريراً في الثمانين أي لغة، فما بالك بالعربية؟
في لقائهما الأول لم يكن خالو يعرف أي شيء عن بورخيس أو قرأ له. فقد قطع وعداً على نفسه ألا يقرأ أبداً لأي كاتب على قيد الحياة إلا كتابات صديقاته المومسات. كاد أن يعتذر بلطف عن المهمة لكن بورخيس سأله فجأة بالفرنسية:
-هل تعرف لماذا اخترتك؟
-لماذا؟
-أولاً: لأنك مصري وهي إشارة واضحة، فأنتم بناة الأهرامات تعتنون بطقوس الموت ومراسم الدفن وما يرتبط بها من أماني استئناف الحياة. أنا مصاب بالسرطان. سأموت قريباً، لكني سأعود مرة أخرى قريباً أيضاً. ثانياً: أنت من الإسكندرية، لا أجد معلماً أفضل لي من تلك السلالة؛ أنتم حفظة خزينة الكتب العظمى التي فاق عدد مجلداتها حساب الأفلاك وحبات الرمال. ثالثاً: أنت تقيم في جنيف وبالتأكيد لا تظن أن حياتك منظورة فقط للمهمة السامية التي تعكف عليها، فما سبق لم يكن إلا فترة إعداد لما سيأتي، ومفتاح ذلك معي لكنه لا يُمنح بل يُكتسَب.
طلب خالي مهلة للتفكير، قضى عشرة أيام يقرأ كل ما كتبه بورخيس، وعثر عليه في مكتبات جنيف، ثم عاد إليه مقبلاً على مهمته.
لم تطل دروس خالي لبورخيس أكثر من بضعة أشهر. توفي دون أن يعرف إلا أساسيات العربية. أما خالي فتم تعميده ببطن قدم بورخيس الطويلة مقاس ٤٦، وتسلم العهد، ونطق الأقانيم كلها. فتحت له الخزائن – خزائن بورخيس بالطبع – أشرف على دفنه، ثم صادر – بتعبيره – ما طالته يده من مخطوطات وكتب نادرة وهرب إلى باريس، في الوقت ذاته اكتشفت الأرملة ماريا كودوم أمر السرقة فأبلغت البوليس. لكنه كان قد ابتعد، باع بعض المخطوطات في باريس وبعضها في بون بألمانيا، ثم عاد إلى الإسكندرية.
لم يعد لأوروبا إلا بعد عشرين عاماً لدفن السيدة الجليلة، حينما حفظت القضية ونسى الجميع أمره. لم يحك لي ما صنعه في قبر الجليلة، فبعد عودته صار أكثر عزلة، أقل خروجاً، وحتى الكلام تقلص يوماً بعد يوم.
جررته ذات مرة للخروج من المنزل/ القلعة/ المكتبة/ المعبد/ الخزانة/ الذخائر/ الضريح… كلها أسماء لبيت العائلة. ذهبنا إلى الشاطئ، جلسنا بأرجل مغموسة في الرمَالِ وأمامنا البحر الأزرق. اشترينا صباع حشيش، دون أن أسأله قال:
-تعرف، إذا سافرتَ يوماً وستسافر يوماً، ستقابل من في الطائفة سيرددون أكاذيب عني كلها من لغو ماريا كوداما. أنا لم اتخل عن الجليلة في مرضها، ولم أسرق بورخيس. بل هو من عرض علي الأمانة. طلب مني أن أبني له صرحاً للسماء. فقلت له لن نبلغ الجبال طولاً، قال إذن مكتبة في الإسكندرية. وها أنا حتى الآن وأنت تشهد أرعى المكتبة، وأوفر كل يوم المزيد من الكتب لشبحه الذي يجول ويعيش معنا. الطائفة لم يفهموا هذا، يقولون عني مجدف… أنا مجدف؟ أنا حتى…أ نا لا أحتاج طقوسهم، أخذت العهد من الشيطان الأعمى نفسه.
رفض خالي التوسع في نشاطات الدعوة والتنوير في الإسكندرية، بدافع الخوف أو بغريزة الهارب الأبدي.
قلت له “يا خالو، البلد تغير، والعالم اختلف، والخزنة تحتاج لأمناء وكهنوت وحرس، والمد السلفي يحاصرنا من كل صوب”. لكن لم يستجب لكلامي، بل تقوقع وتوحد في ذاته وطالت فترات اعتكافه في شقته الجرداء في الدور الثالث.
بدأت في دعوة بعض أصدقائي لاستغلال البيت كمكان للشرب والتدخين، بعضهم جذبته الكتب المتراصة من الأرض إلي السقف فطرحوا الأسئلة، أجبت باختصار ثم شكلت حلقة ضيقة لشرح أساسيات الطائفة، ودون أن اشعر صار هناك جماعة.
تزايد عدد الأعضاء – كلهم ذكور بلا أي أنثى – فتزايدت مسؤولياتي في شرح مذاهب الطائفة ودورنا، وكيف تصل لروقان البال وعلو المزاج واعتدال الأخلاط، وصفاء الريق، وتوازن الأضداد في الجسم والقلب والعقل، وما دون ذلك وأعلى، وكيف تجر الكذبة كذبة أخرى فتشيد عالماً يعيش فيك ولا تعيش فيه.
أحياناً يمر خالو بينما نحن ندخن ونقرأ ورد الجلسات من ألف ليلة وليلة، يراقب ما يحدث من بعيد، أو يقترب ويأخذ نفسين من الجوينت الملفوف ثم يعود إلى عزلته.
ذات يوم دخلت عليه وكان مُستلقياً على ظهره ومجلد من مذكرات سعد زغلول على وجهه، قلت له:
-خالوا اتصلوا بي ودعونى حتى أظهر في التلفزيون أتكلم عن نشاطنا.
أزاح الكتاب وانتفض جالساً، عيناه حمراوان وذقنه طويلة، بيضاء من الشيب، خرجت الكلمات من فمه ثقيلة لأنه لم يعد يتحدث كثيراً وقال:
-هل ستذهب؟
”إنه أمر جيد للدعوة” قلت، بينما لم يكن هناك سوى الغرور وحب التباهي يحركني.
قال “ليجعل القادم برداً وسلاماً عليك”.
وكانت آخر جملة سمعتها منه، اختفى خالى من بعدها، قيل رُفع للسماء، أو قتل، أو شُبّه لنا ذلك أو لم يوجد قط. انقطعت أخباره. حتى في الأحلام حاولت استدعاءه أكثر من مرة ولم يحضر.
لم تكن الحلقة التلفزيونية سوى فخ، وجدت في الاستديو قسيس وشيخ وعالم اجتماع، كفروني واعتبروا ما أقوم به ضلالاً وتهديداً لأمن وسلامة المجتمع. ألقي القبض علي أثناء خروجي من الاستديو، وبعد ٤٥ يوماً أخلي سبيلي، وحينما عدت لمنطقتنا وجدت الأهالي الغيورين بقيادة القسيس السكندري قد أحرقوا المنزل بكل الكتب التي فيه.
مرة أخرى يكرر التاريخ السكندري نفسه، ومكتبة أخرى تحترق. وهكذا، لم يعد أمامي سوى الهرب.
طبعت صورة مقبرة بورخيس، أخرجت العشبة وقضمت جزءاً منها ألوكه في طريقي لمغادرة المكتبة. كان الثلج يتساقط في الخارج، ودرجة الحرارة ١٠ تحت الصفر.
وحيداً في برد بوسطن، وفي فمي عشبة من قبر بورخيس، تذكرت من نصوص كنيستنا في الإسكندرية حكاية العبد كافور الذي يكذب كل عام كذبة واحدة فقط، لهج لسانى بالطقس وأخذت أردد حياة الأكاذيب في ابتهال “ومكثت عنده باقي سنتي/ إلى أن هلت السنة الجديدة بالخير/ وكانت سنة مباركة/ مخصبة بالنبات/ فصار التجار يعملون العزومات/ وكل يوم على واحد منهم/ إلى أن جاءت العزومة على سيدي/ في بستان خارج البلد/ فراح هو والتجار/ وأخذ لهم ما يحتاجون إليه من أكل وغيره/ فجلسوا/ يأكلون/ ويشربون/ ويتنادمون/ إلى وقت الظهر/ فاحتاج سيدي إلى مصلحة/ من البيت/ فقال: يا عبد اركب البغلة وروح إلى المنزل وهات من سيدتك الحاجة الفلانية وارجع سريعاً/ فامتثلت أمره/ ورحت إلى المنزل/ وأخبرتهم/ أن سيدي جلس تحت الحائط لقضاء حاجة فوقع الحائط عليه ومات./ فلما سمع أولاده وزوجته ذلك الكلام/ صرخوا/ وشقوا ثيابهم/ ولطموا على وجوههم/ فأتت إليهم الجيران،/ وأما زوجة سيدي/ فإنها قلبت متاع البيت بعضه على بعض/ وخلعت رفوفه/ وكسرت طبقاته/ وشبابيكه/ وسخمت حيطانه/ بطين ونيلة/ وقالت: ويلك يا كافور تعال ساعدني واخرب هذه الدواليب وكسر هذه الأواني والصيني./ فجئت إليها/ وأخرجت معها/ رفوف البيت/ وأتلفت/ ما عليها/ ودواليبه/ وأتلفت/ ما فيها/ ودرت على السقوف/ وعلى كل محل/ حتى أخرجت الجميع/ وأنا أصيح/ واسيداه/ ثم خرجت سيدتي مكشوفة الوجه/ بغطاء رأسها/ لا غير/ وخرج معها البنات والأولاد/ وقالوا: يا كافور/ امش وارنا/ مكان سيدك/ الذي هو ميت فيه/ تحت الحائط/ حتى نخرجه/ من تحت الردم/ ونحمله في تابوت/ ونجيء به إلى البيت/ فنخرجه خرجة مليحة،/ فمشيت قدامهم/ وأنا أصيح/ واسيداه/ وهم خلفي مكشوفوا الوجوه والرؤوس يصيحون:/ وامصيبتاه/ وانكبتاه/ فلم يبق أحد من الرجال ولا من النساء ولا من الصبيان ولا صبية ولا عجوزة إلا جاءت معنا/ وصاروا كلهم يلطمون/ وهم في شدة البكاء…”