في مأمن من الريح والتاريخ: شِعر روبرتو بولانيو ترجمة أحمد يماني

Gueorgui Pinkhassov, Tijuana, July 2012. Source: magnumphotos.com

بين الذباب
أيها الشعراء الطرواديون
لم يعد هناك شيء مما كان يمكن أن يكون لكم
موجودا
لا معابد ولا حدائق
ولا شعر
أنتم أحرار
أيها الشعراء الطرواديون الرائعون.

خلال ألف سنة لن يبقى شيء
خلال ألف سنة لن يبقى شيء
مما كُتب في هذا القرن.
سوف يقرأون جملا منفردة، أثر
نساء ضائعات،
شذرات أطفال عاجزين عن الحركة،
عيناك البطيئتان والخضراون
ببساطة لن تكونا موجودتين.
سيكون شيئا أشبه بالأنطولوجيا اليونانية،
وأكثر بُعدا منها حتى،
كشاطئ في الشتاء
من أجل دهشة أخرى ولا مبالاة أخرى.


المتوحش الأخير
١
خرجتُ من الوظيفة الأخيرة إلى الشوارع الفارغة. مر بجانبي
الهيكل العظمي، مرتجفا، معلقا في صارية شاحنة القمامة.
قبعات صفراء كبيرة كانت تحجب وجوه عاملي النظافة، رغم ذلك اعتقدت أنني تعرفت عليه:
صديق قديم. ها نحن هنا!، قلت لنفسي حوالي مائتي مرة،
حتى اختفت عربة القمامة في إحدى النواصي.
٢
لم يكن ثمة مكان أذهب إليه.
لوقت طويل كنت أتجول حول السينما
باحثا عن كافيتريا، عن بار مفتوح،
لكن الغريب أن المباني بدت فارغة،
كما لو أن ساكنيها لم يعودوا يعيشون هناك.
لم يكن لدي ما أفعله سوى أن أدور وأتذكر
ولكن حتى ذاكرتي بدأت تخونني.
٣
رأيت نفسي كـ “المتوحش الأخير” راكبا
دراجة نارية بيضاء، قاطعا شوارع باخا كاليفورنيا. على يساري البحر،
على يميني البحر
وفي الوسط علبة مليئة بالصور
كانت تتلاشى تدريجيا. هل ستبقى العلبة فارغة في النهاية؟
هل ستذهب الدراجة مع الغيوم؟
هل ستذوب باخا كاليفورنيا و“المتوحش الأخير”
في الكون، في العدم؟
٤
ظننت أنني تعرفت عليه: تحت القبعة الصفراء لعامل النظافة
صديق من أيام الشباب. لا يقر له قرار أبدا. أبدا يبقى لوقت زائد في مقام واحد.
عن عينيه السوداوين كان يقول الشعراء: كطائرتين ورقيتين معلقتين فوق المدينة.
بلا شك الأكثر شجاعة. وعيناه
كطائرتين ورقيتين سوداوين في الليل الأسود. معلقا في صارية
شاحنة القمامة كان الهيكل العظمي يرقص على أنغام شبابنا.
الهيكل العظمي يرقص مع الطائرات الورقية ومع الظلال.
٥
كانت الشوارع فارغة. كنت بردانا وفي رأسي
تدور أحداث “المتوحش الأخير”. فيلم أكشن، بخدعة:
كانت الأشياء تحدث ظاهريا. في الخلفية وادٍ هادئ،
متحجر، في مأمن من الريح والتاريخ. الدراجات النارية، نار الرشاشات،
التخريبات المتعمدة، الثلاثمائة إرهابي ميت،
في الواقع كانوا مصنوعين من جوهر أخف من الأحلام.
بريق يرى ولا يرى، عين ترى ولا ترى. حتى عادت الشاشة بيضاء
وخرجتُ إلى الشارع.
٦
ما يحيط السينما، المباني، الأشجار، صناديق البريد،
فتحات المجاري، كل شيء يبدو أكبر بعد مشاهدة الفيلم.
كانت بطانة السقف كشوارع معلقة في الهواء.
أكنت قد خرجت من فيلم الثبات ودخلت إلى مدينة عمالقة؟
لوهلة فكرت أن الأصوات والمنظورات تصيب بالجنون. جنون طبيعي.
دون حوافٍ. حتى ملابسي كانت هدفا لعملية تحول! مرتعشا، وضعت يدي في جيب
جاكتتي الحربية السوداء وأخذت أمشي.

 

٧
تابعت أثر شاحنة القمامة دون أن أعرف يقينا
ما الذي كان بانتظاري. كانت الشوارع كلها تصب في الاستاد الأوليمبي هائل الحجم.
استاد أوليمبي مرسوم في فراغ الكون.
تذكرت ليالي دون نجوم، عيني مكسيكية، مراهقا بجذع عارٍ ومطواة.
أنا في الموضع الذي يُرى فقط بطرف الأصابع، فكرتُ. هنا لا يوجد أحد.

 

٨
كنت قد ذهبت لأرى “المتوحش الأخير” وعند خروجي من السينما
لم أعرف أين أذهب. بشكل ما كنت أنا
شخصية الفيلم ودراجتي النارية السوداء
كانت تقودني مباشرة إلى الدمار. لا مزيد من الأقمار اللامعة
على الفاترينات، لا مزيد من شاحنات القمامة، لا مزيد
من المفقودين. كنت قد رأيت الموت يجامع الحلم وكان جافا ساعتها.

ليسا
عندما قالت لي ليسا إنها قد مارست الحب مع آخر،
في كبينة الهاتف الحية في مخزن تيبياك ذلك، ظننت
أن العالم قد انتهى بالنسبة لي. شخص طويل ونحيف
وله شعر طويل وقضيب طويل لم ينتظر أكثر من موعد واحد
كي يلجها حتى العمق.
ليس شيئا جادا، قالت هي، لكنها أفضل
طريقة كي أُخرجك من حياتي.
كان لبارمينيدس جارثيّا سالدانيا شعر طويل ومن
الممكن أن يكون هو عشيق ليسا، لكن بعد ذلك بسنوات عرفت
أنه قد مات في عيادة نفسية
أو أنه كان قد انتحر. ليسا لم تعد ترغب في النوم أكثر مع فاشلين.
أحيانا أحلم بها وأراها سعيدة وباردة في مكسيك مصمم عن طريق لافكرافت.
سمعنا موسيقى Canned Heat (أحد الفرق المفضلة لدى بارمينيدس جارثيّا سالدانيا)
وبعدها مارسنا الحب ثلاث مرات. المرة الأولى قذف داخلي،
الثانية قذف في فمي، الثالثة بالكاد خيطا من الماء، خيط صنارة قصير، بين نهديّ.
وكل شيء تم في ساعتين، قالت ليسا. أسوأ ساعتين في حياتي،
قلت لها من الجانب الآخر على التليفون.

 

تفاني روبرتو بولانيو
في نهاية عام ١٩٩٢ كان مريضا للغاية
وكان قد انفصل عن زوجته.
كانت تلك هي الحقيقة العاهرة:
كان وحيدا ومنحورا
واعتاد الظن أنه لم يتبق له سوى القليل من الوقت،
لكن الأحلام، بعيدةً عن الأمراض،
تحضر كل ليلة
بوفاء أثار دهشته
الأحلام التي نقلته إلى ذلك البلد السحري
كان هو ولا أحد غيره يسميها مدينة مكسيكو
وليسا وصوت ماريو سانتياجو
يقرأ قصيدة
وأشياء أخرى عديدة طيبة وجديرة
بالثناء الأكثر توهجا.
مريضا ووحيدا، كان يحلم
ويواجه الأيام التي تمضي قاسية
نحو نهاية العام القادم.
ومن ذلك استخرج القليل من الضوء والشجاعة.
المكسيك، خطوات الليل الفسفورية،
الموسيقى التي كانت ترن في الزوايا
حيث من قديم الزمان تتجمد العاهرات
(في قلب مستعمرة جيريرو)
وكن يقدمن له ما يحتاجه من طعام
لقبض الأسنان
وعدم البكاء من الخوف.

 

حرفة نادرة مجانية
حرفة نادرة مجانية   تأخذ في فقد الشَّعر
والأسنان      والطرق القديمة لتكون مهذبا
رضى غريب    (لا يرغب الشاعر أن يكون أكثر
من الآخرين)    لا ثروة ولا شهرة ولا حتى
شعرا    ربما يكون هذا هو السبيل الوحيد
لعدم الخوف    أن تسكن الخوف
كمن يعيش داخل البطء
أشباح تتلبسنا جميعا     ببساطة
في انتظار شخص أو شيء فوق الخرائب.