
Gustavo Ortiz, “Witness” paintings. Source: carredartistes.com and saatchiart.com
بأنفاس لاهثة، صعد الدرجات الرخامية جارّا معه أنفه إلى أعلى، مستندا على درابزين مشقوق الطلاء كي يحفظ توازنه من السقوط. توقف قليلا ليتحسس أنفه الضخم الذي يضطر أن يحمله معه أينما حل، فتُطأطىء رأسه قليلا إلى أسفل في اللحظات التي يحتاج فيها إلى النظر مستويا إلى الأمام. أما الصعود إلى أعلى ومع حجر كهذا فوق وجهه فقد كان معاناة حقيقية، لكنها لا تقارن بمعاناته عندما يقرر هذا الأنف أن يبتلعه بالقوى السحرية التي تملكها نقطة ارتكاز، أو كمحور يجعله يدور ويدور حول نفسه.
بلغ الطابق الثالث. كان واسعا تتوسطه ردهة تتولد منها ممرات متشابكة، لافتات لأطباء ومحامين والمزيد من الأطباء والمحامين. فكر أنه أمر طبيعي في عالم معتل يسوده الشر، رغم أنه في حاجة أكثر إلى خياطين كأبيه، المهنة التي تنقرض بفعل فقدان الانتباه والصبر. لا أثر للافتة التي يبحث عنها رغم أنه دار حول الطابق عدة مرات.
كان يحمل تحت إبطه ملفا ضخما يحوي أوراقا مرتبة بعناية، في مقدمتها وريقة صغيرة مثبتة بدبوس سجل عليها العنوان: ٢٣ ش سليمان باشا، موقع “باب المدينة”، الطابق الثالث. هل أخطأ في عد الأدوار؟ فكر أن يهبط إلى أسفل ثم يصعد مجددا ليتأكد من العد. لكن كان ذلك منهكا لجسده المفكك وعقله الدائخ.
لن يستقل المصعد، فرغم أنه يحب هيئة العمارات القديمة لكن مصاعدها،ذات القضبان الحديدية المتشابكة المفتوحة على الفراغ باتت ترعبه. منذ لمح في جوفها عيني كهل يحدقان تجاهه بيأس مريع، علم أن تلك المصاعد مختلة وغير مأمونة الجانب، مستعدة للتخلي عن كل شيء، بغتة لتهوي إلى ما لا قرار له.
شعر بذلك الشيء داخل أنفه. حاول تجاهله، فتش في جيبه عن منديل لكنه نسيه على المقهى قبل صعوده. كان مشغولا بمراجعة ترتيب كلماته والأوراق التي يحملها كمستندات، فنسي ما يحميه حقا من مواقف محرجة يضعه فيها الأنف. كان القلق يخترق أحشاءه كمن يمر بامتحان عسير ونهائي.
كثيرا ما تخيل أنفه كابن خطأ ما أو كشيء لا يخصه من الأساس، بل رُكّب فوق وجهه عنوة. أما أنفه المثالي، الجميل، الدقيق، فقد سطا عليه أب ملتاع بمصير ابنته ذات الأنف الضخم.
بعض الشواهد تؤكد فكرته. يشعر مثلا أنه يتنفس بالمقلوب، يستنشق زفيرا لا يخصه ويطرد شهيق أنفه المفقود. يعطس في أوقات غريبة، يكون فيها الجو خاليا من الأتربة والغبار، وتداهمه نوبات البرد رغم كل احتياطاته. لابد أن السيدة التي حصلت على أنفه، تعامله بدون اكتراث كشأن من يظن أن هباته استحقاق إلهي، بينما يضطر للمحافظة على أنف حساسيته تجاه العالم أنثوية بعض الشيء، لأنه وقع في غرام صاحبته. فرغم أن لا وجود لها، إلا أنها الوحيدة التي اقتربت منه إلى هذا الحد، حتى زوجته التي توفيت قبل عامين لم تفعل. ولم يكن له أبدا صداقات حقيقية، بل معارف وأقارب، أما أبنائه فانشغلوا عنه بحيواتهم.
تلفّت حوله فلم يجد أحدا. كان المكان يضج بالصمت، كأنه موسيقى أشباح. لذا تجرّأ ووضع إصبعه داخل أنفه ثم واصل الحفر مدفوعا بالتهيّج ونشوة الاقتراب من الراحة كأنه يدفع بعيدا كل ما يُثقله. لكنه شعر بعينين تحرقان سلسلة ظهره. وبدافع أصيل لديه يجعله أقرب للتشاؤم، دعمه أنه لم يفلت أبدا بفعلته، كان متأكدا أنه عندما سيستدير سيجد شخصا قد رأى الموقف كله.
بالفعل كانت هناك فتاة. في منتصف العشرينات، ممتلئة قليلا، سمراء بشعر قصير لكن مُسرّح بطريقة تهبها سمت الغجر، خاصة مع حَلَقين واسعين ملونين في أذنيها وعينين لهما استدارة فنجاني قهوة. ترتدي فستانا أزرق قصيرا ومرحا يكشف الذراعين ومنبت الصدر. وقعت عيناه على صدرها بجاذبية الصدفة التي تملكها لمبة نيون تتراقص. رمقته بنظرة ازدراء حرصت على أن يراها كاملة، ثم مضت في طريقها. لم يعرف إن كان ذلك بسبب النظرة غير المقصودة أم لأنها ضبطته متلبسا بالجرم المشهود وهو يضع إصبعه في أنفه الضخم.
كانت دليله الوحيد في صحراء التيه تلك فسألها:
“لو سمحتِ أين باب المدينة؟”
قالها بنبرة متوترة منبعها عدم ثقته من نجاحه في ضبط درجة ارتفاع صوته، فهو أمر آخر مأساوي يخصه: صوته لا يحمل رسائله بدقة فإما أن يكون شديد الانخفاض مهما اعتقد أنه صار عاليا، أو مرتفعا جدا حين يقصد أن يكون خفيضا، مما يجعله حانقا متوترا لعدم استجابة الآخرين له.
التفتت إليه الفتاة، ثم قالت:
“اتبعني.”
كانت لها مؤخرة حلوة راسخة. لكنه راجع محفوظاته التي استقاها من المواظبة على قراءة الموقع: النساء لسن ثقوبا للمتعة. أربكته تلك الفكرة كثيرا، ليس لأنه كان يظنهن كذلك لكن لأنه لم يرهن إلا بطريقتين: كوحوش مخيفة لها قوى خارقة قد تبتلعه فروجها كالأجواف المختلة للمصاعد، أو كملائكة من السماء رقيقة وبالغة الجمال لكنها لا تحمل أي ثقوب ممكنة للتواصل. لذا تظل النساء في الحالتين أمرا بعيدا وغير ممكن. أما زوجته المتوفاة، فلم يفكر فيها بأي طريقة قد تسيء أو تُحسن إليها، فعندما كان يُطبّق عليها أفكاره بشأن النساء كان يصده النفور والرعب عينه الذي يصيب المرء تجاه زنا المحارم.
فكر في المرأة التي سطا والدها على أنفه، هل لو رأتني ستعرف أنفها؟ هل ستقدّر التضحية التي بذلها رجلان كي تستقيم حياتها في هناء، أحدهما يعيش برأس دائخة مطأطئة والآخر بضمير معذب؟ هل سلطته بغرور على أحد؟ هل ازدرت الآخرين لعار أنوفهم. هل نالت بسببه وظيفة جيدة، دهست بجمالها قلوبا عاشقة، عثرت على زوج ذي مكانة مرموقة؟
ضغطت الفتاة الجرس فتوقف متهيبا عندما قرأ اللافتة المختبئة. فبعد ثوان معدودات سيعبر من “باب المدينة”. تبعها كأنه اكتشف لتوه بابا مسحورا.
تخيل المكان أياما طويلة. لم يكن كما توقعه، بل شقة عادية صغيرة، بها صالة واحدة في أحد جوانبها أريكة واحدة للضيوف، وفي الجانب الآخر أربعة مكاتب صغيرة عليها فتاة وثلاثة شبان منمهكين في شيء بالطريقة نفسها التي تصلح لعمل أو للهو. بجوار الأريكة تليفزيون موضوع على الأرض يعرض محطة بي بي سي الإخبارية.
أثار دخوله نوعا من الضحك الصامت وتبادل الغمزات، خاصة طريقة تأنقه التي لا تناسب عمره الذي تجاوز الخمسين. كانت ملابسه ذات ألوان صاخبة كتلك التي لغندور سينمائي في أفلام السبعينات، أو لقواد. له الشارب الرفيع الذي لرشدي أباظة في فيلم “آه يا ليل يا زمن” دون وسامته. متوسط القامة يرتدي باروكة سوداء تخفي صلعة خرافية. وجهه ملىء بالأخاديد الصغيرة، أكتافه عريضة وساقاه قصيرتان لا تتناسبان مع تركيب نصفه العلوي، مما يجعله دائما عرضة للغمز.
على الرغم من أن اختياره للألوان الصاخبة يعكس رغبة عارمة في أن يُرى، إلا أنه غاص في أحد أركان الأريكة، كمن يحاول إخفاء نفسه، كأنه في باطنه يعي إخفاق تأنقه.
لكن ملابسه لم تثر الدهشة بقدر الطريقة التي قدّم بها نفسه، فعندما سأله الساعي عن سبب حضوره قال أنه جاء لمقابلة رئيس التحرير. ولما احتج الساعي أنه مشغول في اجتماع ولن يتمكن من مقابلته، قال بثبات: “أخبره أني الرجل الذي يبحث عنه منذ عشرين عاما، ويكتب عنه بلا انقطاع. أنا الرجل الصغير.”
حط الصمت على المكان، فاكتسب في خياله أصواتا صاخبة مزعجة. هو الذي لم يعد يفهم الضجيج وبعد أن كان يؤنس وحدته، صار يربكه، يخيفه، يوتر جسده، ينتهكه كأنه قد صار مبولة عمومية أبوابها مشرعة للجميع.
الفتاة السمراء التي قابلها بالخارج اقتربت منه، وتبدلت نظرة الازدراء إلى مزيج من التعاطف والاحترام. سألته:
“هل حضرتك متأكد؟”
“تمام التأكد. لقد راجعت حياتي بأكملها، وأجدها تتماثل بشدة مع كل حرف تكتبونه في الموقع. ومع كل مقالات رئيس التحرير، التي كان ينشرها في صحف أخرى، قبل إنشاء باب المدينة. إنها تدور حولي بلا استثناء. أنكرت طويلا، لكني استسلمت في النهاية.”
اندفعت الفتاة إلى الممر القصير الذي يخفي غرفة رئيس التحرير بأنفاس مبهورة، فاعتدل في جلسته وطاف بوجهه شيء من الفخر. ودب حفيف بسيط من الثقة في أوصاله.
سأله الساعي عما يشرب، فقال: “قهوة. لا أشرب سواها.”
كاد أن يقول كلمات أكثر يفسر بها سبب اختياره للقهوة، فهي تجمع أجزاء عقله المفكك كغراء داكن، وأفسد عليه طعمها استطابة مذاقات أخرى، لكنه فكر أن المزيد من الكلمات يفسد هيبته المفاجئة فهي دائما ما تفعل، لهذا فهو إما صموت كمحارة مغلقة أو ثرثار كسيل عاصف. وفي الحالتين تختفي الكلمات،فلا تكشفه، فلم يزد عن أن يضيف: “بن ثقيل جدا.”
قال الساعي ضاحكا: “كالغراء.”
ابتسم وردد: “كالغراء.”
عادت الفتاة، قالت: “يسري في انتظارك.”
تمتم في سره: “هكذا، دون أستاذ.” وارتبك، هل يناديه باسمه دون الغموس الملائم؟
قادته إلى غرفة رئيس التحرير. مشى بخطوات متهيجة، أخيرا سيقابل الرجل الذكي الذي خلّد سيرة حياته عبر مئات المقالات. حاول أن يتخيل هيئته من قبل، لكنه كان دائما وجها بلا جسد، مقصوف الرقبة. وفي كل المقالات التي قرأها له، لم يكن له إلا صورتان، واحدة في شبابه، والأخرى في منتصف عمره.
دلف من الباب إلى داخل باب المدينة. كان ليسري الحلو الذي ناهز الخامسة والخمسين وجه مستدير كبدر، ممتلىء له لون البن، ولحية يختلط فيها السواد بالبياض تهبه سمت الحكمة والجاذبية. شعره أكرت ملفوف كحلقات البصل.
أشار له أن يجلس. كان بين يديه اتصال ما، لم يتبين من كلماته الكثير. بحدس غامض أو إشراقة مضللة، خمّن أن المكالمة تدور عنه. لابد أنه يخبر الجميع أنه عثر أخيرا على “الرجل الصغير”.
تأمل الطريقة التي يجلس بها على مقعده، الأسلوب الذي يدخن به سيجاره، فيرتفع الدخان في دوائر حلوة كأنها تظلله بالسحاب. بدانة على عكس بدانته، ابنة الهيبة لا الشحوم. لكن أكثر ما أربكه كانت نظرة الصياد الكسول في عينيه، كأنهما تمتصان الدنيا ببطء وتلذذ، كما يمص الواحد منا عود قصب مسكر. وهو ما لم يفهمه، فهو لم يعرف عن الدنيا سوى الشقاء والكدح، ولم ير الكسل سوى صفة ملازمة للفشل وهو تصور أفسده عليه إيحاء الرجل الجالس أمامه، بأنه يجيد النجاح لاهيا، واللهو بنجاح.
كانت غرفة المكتب بسيطة، على جدرانها لوحة واحدة مقلّدة لرجل يغطي وجهه أنف كتفاحة، أعجبته كثيرا. الفراغات أكبر من الأثاث. هناك مكتبة صغيرة من ثلاثة أرفف تحتوي عددا قليلا من الكتب، بعضها له عناوين عربية وأخرى إنجليزية. يشعر رغم خفة حجمها أنها على عكس ما قرأه في حياته بالصدفة تحمل لقبا إقطاعيا يهدد بكلاب وحراس غاضبين كل من يحاول الاقتراب من أسواره.
لمح عنوانا لكتاب ضئيل الحجم: “خطاب إلى الرجل الصغير”. أمن هنا يستقون أفكارهم عني؟ أهذا كل ما تمثله حياتي لمؤلف الكتاب، هل سرقوا تلك الأفكار أم أنهم قرروا إعادة الاعتبار إلي بملايين الكلمات في مئات المقالات التي قد تسود مجلدات ضخمة، وأن تدور حياتهم بأكملها حول الانزعاج من وجودي؟
رغم الامتنان الذي يشعر به تجاه يسري الحلو، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يفكر: ذلك السيجار الضخم الذي يحشو فمك، أنا من دفعت ثمنه عبر حياتي الدائخة المبددة بالحماقات والأخطاء. هذا السيجار محشو في مؤخرتي، ويشعَل من خرائي.
بجوار طاولة الاجتماعات بورد كُتِب على أوراقه البيضاء أفكار تنبثق من دائرة كبيرة ثم تتفتت كفقاعات صابون إلى دوائر أصغر. خُيّل له أنها تكتسب ألمعيتها من وجودها داخل الدوائر الملوّنة. لعله يجرّب تلك الطريقة مغ أفكاره التي تتبدد كدخان في الهواء ولا يتمكن أبدا من الامساك بها. فتبدو داخله كأفكار عظيمة لكنها تستهلك نفسها في رحلة الخروج من عقله إلى فمه، فتنتهي إلى أفكار خاوية تافهة.
هناك فوضي من الأقلام والجرائد والأوراق والأكواب على المكتب. لكن الأشياء المبعثرة لم تفقد الغرفة أناقتها، وهو ما مثل بالنسبة له لغزا كونيا. ففوضاه تتحول بسرعة رهيبة إلى مزبلة، ويبذل مجهودا مضاعفا للسيطرة عليها.
أنهى يسري اتصاله ثم رمقه بعينين لاهيتين إلا أنه شعر بخطورتهما وقدرتهما الرهيبة على كشف الأحمق أمام نفسه، ببساطة ودون جهد. انكمش الرجل الصغير في مقعده، وتحصن بوجه بليد خال من التعبيرات.
يئس يسري من استنطاق صمته، فقال: “أخبروني أن هناك من يدعي أنه الرجل الصغير، لم علي أن أصدق ذلك؟”
أشار إلى أنفه، قائلا بصوت يحاول بصعوبة استجماع الكلمات التي رتبها آلاف المرات في خياله: “ألا تراه؟ هذا البروز المربك الضخم في وجهي لا يتوفر إلا لاثنين، مسخ أو مهرج.”
قال يسري: “حجم أنفك عادي جدا.”
“أعلم، لكني أشعر بضخامته كشيء حقيقي لا يمكن إنكاره. كنت أظنك ستراه لأنك تبدو لي رجلا ذكيا جدا، كل محاولاتي لإخفاء هذا الأنف باءت بالفشل.”
لمع شبح ابتسامة على وجه يسري، شجعت الرجل الصغير، على الاسترسال:
“المرة الأولى التي حاولت إخفاء أنفي فيها، جربت تكويره كقبضة، فكنت أشد عضلات وجهي إلى أعلى كأني أنتشله من قاع بئر، ظنا مني أني بتلك الطريقة قد أجعله يبدو أصغر. كان وضعا مرهقا يحتاج إلى الكثير من الطاقة لتثبيت وجهي على هذا النحو، اضطررت إلى التخلي عن المحاولة بعد أقل من نصف يوم عندما أدركت من نظرات الآخرين المستهجنة أني بدلا من أن أمنعهم من رؤيتي كصاحب أنف ضخم قد أشرت إلى نفسي كأحمق ذي أنف ضخم.
“لم يكن بروز الأنف المربك هو أول ما نبهني إلى جسدي كشيء ناقص، بل القامة. ففي نهاية الدراسة بالصف الثالث الإعدادي، كان العالم منبسطا جدا ومستويا، قامتي في طول زملائي وأصدقائي. لكن ما إن مرت الشهور الثلاثة للإجازة الصيفية وبدأت الدراسة حتى أدركت أن العالم من حولي حقق قفزة استثنائية في الطول بينما توقفت مكاني، وأكملت نموي ببطء سقيم ربما سنتميترات شحيحة. لك أن تتخيل ارتباكي. فثلاثة أشهر كانت وقتا قصيرا جدا ليتغير كل شيء من حولي. شعرت في البداية أنه خطأي الشخصي، كأني فوّت شيئا ما كرحلة مدرسية إلى داخل فجوة زمنية أعلن عنها أثناء نوبات سرحاني المتكررة بالفصل أو عقابا على عدم اشتراكي في النشاط الصيفي. لكني سرعان ما طمأنت نفسي أن الموضوع برمته لا يعدو أن يكون مجرد سوء فهم سيعمل القائمون على الأمر على إصلاحه.
“كان أول ما ارتبك هو علاقتي بأصدقاء تلك المرحلة العمرية. فقد كان منحى المنافسة بيننا قائم على الشراكة والندية. وكنت أشعر بتفوق طفيف عليهم، مختبىء بلطف كما تتنكر زهرة داخل برعم. لكن ما إن بدأوا في النظر إلي من أعلى حتى تحطمت أشياء كثيرة، كالثقة الطفولية في نفسي والحق في معاملة الآخرين كحمقى، ارتكاب الشرور، العنف، الازدراء، الأمل في أن سنوات حياتي المقبلة ستكون منبسطة أمامي لا متعرجة بسبب الاضطرار إلى الالتفات إلى فوق لأتحدث أو إلى تحت لأطمئن أن في العالم من هم أقصر قامة، أو حولي بنية ضبط عين ساخرة.
“كنت أعلم أني ورثت قصر القامة عن أبي، لكني كنت على يقين أن الملاك المتعهد بمنح لمسات الطول المباركة لن يسبب لي حرجا عندما تجيء اللحظة الحاسمة.
“أتذكر أني في ذلك العام، استقبلت المفاجأة بفم مطبق، وعرفت في نفسي ميلا للانطواء أو الصمت. كنت أنتظر محتجا أن يصلح الملاك خطأه.
“تعقد الأمر بالبثور التي غزت وجهي. كانت بثور غزيرة تلطمني كصواعق متلاحقة، تشوهني باختياراتها وتتصيد أكثر الأماكن غرابة لتنبت بارزة وضخمة، خاصة طرف أنفي.
“بعد أن زال جحيم البثور وتأكدت أن طولي معقول وسط أجساد تتآكل بفعل سوء التغذية، وصار لأنفي حجم مألوف في نظري، مازال شيء ينخرني من الداخل، يجعلني مستعدا لمواجهة العالم بروح مسخ أو مهرج، فلكليهما أنف ضخم غير متناسق، مضحك ومخيف. كما أن شيئا من خيبة الأمل ما زال عالقا بحلقي وميل للتشاؤم، بعد أن حنثت الملائكة بوعودها.”
تراجع يسري قليلا إلى الوراء في مقعده، أشعل طرف السيجار المنطفئ ثم قال ببرود: “ما قلته حماقة نموذجية، لكنها لا تثبت شيئا.”
لم يرتبك الرجل الصغير تلك المرة، فقد كان يتوقع الرد، وقد سهر ليالي طويلة يرتب كل الاحتمالات الممكنة، وأخرج من الملف الضخم صورة ضوئية لمقال، قائلا: “إذا لم تجد في حكاية أنفي أمرا مقنعا، فلعل المقال الذي كتبته يثبت الأمر. رغم كلماته الملغزة، إلا أني قرأته عشرات المرات، مئات، حتى فككت طلاسمه وأدركت أنه يعبّر عن سيرة حياتي بالضبط، مضغوطة في كلمات ككبسولة مأ ان فهمتها حتى انفجرت في وجهي كقنبلة.”
تذكر أنه نسي نظارة القراءة، فاغتم وقرب كلمات المقال من عينيه:
“يواجه الرجل الصغير الحياة بقناع طفولي، لكنه ليس إلا قناعا خادعا لرجل خطر. فهشاشته ورعبه من العقاب، ورغبته العطشى في أن يكون محبوبا ليست إلا أعذارا ليتنصل من تبعات أفعاله، وهو عندما يتجول مواجها العالم بهذا الطفل أينما حل، فهو يحمل معه جثة ميت طالتها عفونة راسخة. لكن أنفه المعطلة ستوجه إشارتها بثبات إلى دنس الآخرين.
“ولن يفيق إلا عندما يصطدم بجدار كارثة. لكن هل يزلزله الإدراك حينها؟ هل يجثو على ركبتي قلبه طالبا غفران الأرض والسماء؟ هل يخوض بشجاعة أغوار روحه المظلمة؟ لا. سيصم الأذن عن أنين قتلاه بصوت بكائه، ويُدثر بحرارة دموعه عينيه عن رؤية اللهيب القرمزي للجحيم الذي شارك في إشعاله. وسيظن أنه في إدانته السطحية لنفسه، قد تطهّر ونجا، دون أن يدري أن يرقة الطفولة الميتة التي حنطها ماء الإنكار والخوف تتحور إلى مسخ أكثر بشاعة: قديس.
“هذا القديس كلما حفر عميقا داخل النور، لن يلفّه إلا وحل العماء. فلا يفهم من الضعف إلا ضعفه، وينكره على من سواه. أما الشر فسينفضه عن نفسه كمن ينفض تراباً خريفياً عن كتفي قميصه بترتيلة مسائية. سيدين نفسه ليدين الجميع، وهي أكثر طرق الحصول على الغفران خسة ونذالة.
“وهكذا سيمضي به العمر دون أن يصير طفلا ولا قديسا، بل شيئا مفلطحا وتافها، متخثر الدم، بحزن مستعا، وآلام يظنها لآلئ مكنونة في بحر عميق وهي ليست إلا قمامة تطفو فوق بركة ضحلة لمصرف، وسيختلط عليه في عمائه كل شيء. سيظن الضغينة طهارة، الكراهية تساميا إلى عالم مثالي، والعزلة اقترابا من الأبدي لا إمعانا في الظلمة. أما مأساته فلن ينتبه إلى تحولها المروّع إلى ملهاة، والطفل القديس إلى رجل أحمق يلهو بقنبلة. سيندفع بكل قواه مجذوبا بحمّى البحث عن مأساة تعيده إلى وضعه الجنيني كضحية مغلوبة. فعندما يصل إلى أقصى حدود الإهانة، سيتمكن حينها من استعادة قوته ونجاته.“
لوهلة شعر يسري بالارتباك من قسوته المفرطة، فهي المرة الأولى التي يسمع فيها كلماته تخرج من فم الرجل الصغير بذاته. لم يبد له أنه يشعر بأي إهانة. هو أمام كنز، لكن عليه أن يتحلى بالصبر، التأني، وأن يحجم مشاعر الإثارة حتى يتأكد أنه أمام الرجل الصغير الحقيقي.
تابع الرجل الصغير:
“تلك مراحل حياتي بالضبط. مررت بها جميعا بلا استثناء، تشبثت بهذا الطفل طويلا، الذي يشعر أنه يدين السماء بشيء وله أن يفعل أي شيء متسترا بطفولته مرة وبشعوره الأخلاقي مرات. وخلف هذا الشعور، وشيت، ضللت، زورت، حرقت، وشددت وثاق أرواح إلى هاوية. لطخت يداي دماء جريمة، لا لم أقتل أحدا، لكني فضّلت أن أستعمل تعبيرك البليغ نفسه والذي أقتبسه هنا من مقال آخر.”
انتشى الرجل الصغير عندما لمح ما يحاول يسري أن يخفيه، لمعة اهتمام حقيقية. سأله: “ما اسمك؟”
“نوح. نوح الرحيمي. في شبابي كان هذا الاسم حجرا آخر، فقد سمعت كل النكات الممكنة المرتبطة به وعن السفينة التي أعمل على إعدادها سرا للنجاة من الطوفان. وقد فشلت كل طرقي في مواجهتها عبر الضحك، التجاهل، التجهم، لكن النكات لا تتوقف أبدا حتى بعد أن اعتدت اسمي، بل كانت تنتشر برواج وكثافة عشب ضار. لكنه جعلني كهلا جدا، حتى عندما كنت في العشرينات من عمري، لأني وجدت أن تلك الطريقة الوحيدة التي تجعل الاسم طبيعيا وغير مثير للسخرية. لكن عندما تجاوزت الخمسين، أدركت أن شبابي ضاع وأنا أتنكر كعجوز، ففكرت على سبيل التغيير أن أتنكر كشاب، لذا تراني أميل للاعتناء بأناقة ملابسي.”
ضحك يسري من قناعة الرجل الصغير أن ألوان السبعينات تجعل منه أنيقا، يفهم جيدا سوء إدراك الرجال الصغار لمعنى الزمن. لكن ضحكته تحولت إلى رعب عندما خلع نوح باروكته السوداء ليثبت ما يعنيه بشأن التنكر كشاب، فقد أبرزت الصلعة الخرافية قبحا نادرا ومضيئا كشمس حارقة. شعر إنه لو واصل التحديق بها سيصيبه العمى وطلب منه أن يعيد ارتداء الباروكة، وأقسم أن الفكرة بأكملها قد وصلت عندما اقترح نوح أن يخلع ملابسه، ليريه ملابسه الداخلية المهترئة، كإثبات إضافي، أنه الرجل الصغير بعينه وشحمه، براق من الخارج، مهترىء تماما من الداخل.
وبعد أن اقتنع أنه لا داعي للتعري بالكامل، قال يسري: “سأفرض جدلا أنك الرجل الصغير، ما الذي يدعوك للمجىء إلى هنا والاعتراف؟”
قال نوح: “بما أن الموقع كله يدور حول شيئين، الأول هو حياتي كرجل صغير، فهذا يعني أنكم مديونين لي بكل شيء. وأرغب في أن تردوا الدين، بأن أكون أحد العاملين في الموقع، فقد استقلت من عملي بعد أن أفسدت علي كلماتك معناه وجدواه. سأكون مفيدا، قد أكون ملهما بوجودي قربكم، فأنا ألاحظ أنكم تختبئون منا، سامحني، هذا يفقدكم يوما بعد يوم حيوية وواقعية ما تكتبونه عن الرجال الصغار.
“أما الأمر الثاني الذي يدور حوله الموقع، أننا خدعنا بشأن ما أخبرونا إياه عن العالم، فأرغب أن أكون هنا بجوارك، لأفهم أين مكمن الخطأ الذي حولني إلى رجل صغير.
“قبل أن تقرر الرفض أو القبول، فلتعلم أن لدي عرضا آخر من جماعة لا تقل عمقا عنكم، يدعون جماعة (السطحيين)، أحترم شجاعتهم في اختيار اسمهم دون خوف من السخرية ، فقد عشت حياتي كلها خجلا من إعلان أبسط آرائي ورغباتي خشية أن يتعرف علي أحد كرجل صغير.”
سأله يسري: “وما هي جماعة السطحيين؟”
قال نوح: “الجماعة التي تكشف المؤامرة الكبرى التي تعرضنا لها جميعا، وأننا خُدعنا بشأن ما قيل لنا عن كروية الأرض، لكن الحقيقة أنها مسطحة، ولها حافتين.”
صاح يسري: “إنهم جهلة وحمقى.”
ضحك نوح: “أظنك مخطئا بشأنهم ولم تعرفهم على حقيقتهم، فهم يقولون عنك وعن كل من يؤمن بكروية الأرض الشيء نفسه: محض حمقى، مضللون، ضيقو الأفق، تؤمنون بالمسلمات دون تفكير ولا تستخدمون الشك في نفض غبار الوعي الزائف بالحياة عن عقولكم. مخدوعون بشأن ما روي عن العالم من مقولات روجتها المثل، الآباء، المدارس، رجال الدين، السياسيون، الحكومات، الصحف الرسمية، الشركات الكبرى متعددة الجنسيات، الدول الإمبريالية. هي نفس الكلمات تقريبا التي أقرأها على موقعك، أليس بسبب ذلك أدنت حياتي كرجل صغير؟”
قال يسري: “هل تصدق هذا الهراء؟”
قال نوح: “لا أعرف. أنا مرتبك قليلا. قبل أن أثق في كلماتك وكلمات السطحيين، كنت أؤمن أن الأرض كروية، لأن ما أشعر به أثناء المشي هو أني أتسلق بيضة عملاقة تسعى إلى دحرجتي إلى أسفل، وأني أدور وأدور مشدودا بقوة أكبر مني إلى نفس النقطة التي بدأت منها، كقدر ينطوي على المأساوية والعبث.
“لكن ذاتي ضللتني كثيرا، وعندما استخدمت الشك، فكرت أن من الأفضل لها أن تكون مسطحة، فلو كان للأرض طرفان، سنتمكن حينها من بلوغ حافة العالم.”
قال يسري: “وماذا ستفعل إن وصلت إلى حافته؟ هذا يعني النهاية.”
فكر نوح قليلا: “ربما هذا ما ينقص تلك النظرية، أن ما يوجد في الحافة ليس النهاية، بل حافة أخرى إلى عالم أخر. بوابات لما هو أكثر اتساعا، كل ما يفصلنا عنها هو جسر خادع من الظلام. لكن إذا تحلينا بشجاعة القفز من احتمال إلى احتمال، ربما نكسر تلك القضبان التي تسجن الحقيقة وتحول شخصا مثلي إلى رجل صغير يؤمن بكل ما قيل له.”
ارتبك يسري قليلا ثم كتم غضبه، فبطريقة ما يحمل حديث نوح صدى بعيد لكلماته، معاداً تدويرها لإثبات شيء بالغ الحماقة كفكرة أن الأرض مسطحة، لكنه لا يؤمن بوجود عوالم أخرى سوى ما أمامه، يمتصه ببطء وحتى الثمالة.
حدس نوح غضب يسري، فقال: “لا تقلق، أنا أميل للعمل معك، فوجهك أكثر إيحاء بالثقة على عكس جماعة (السطحيين). ولقد أعملت الشك ثانية في إيماني بأن الأرض مسطحة، وانتهيت مجددا إلى أنها كروية لكن لا كبيضة بل كبرتقالة، يلتهمها الرجال الصغار أمثالي دون تفكير فيما تخفيه. لا نتعلم الدرس أبدا، كثيرا ما أنبنا المدرسون في كل مراحل التعليم، أن همنا على بطوننا ولن نتصرف كنيوتن عندما سقطت فوقه تفاح، بل كبهائم جوعى، رغم أني رأيت كيف يأكلون، وكيف تلمع أعينهم بشراهة على أشياء أكثر تفاهة من تفاحة.
“حسنا، لقد استرسلت. أنت تعرف عادة الرجال الصغار، يتحدثون دائما خارج الكوب. لقد قرأت هذا أيضا على موقعك ووجدت فيه واحدة من عاداتي. أين توقفت؟ تذكرت: العالم كروي كبرتقالة لا كبيضة ولا كتفاحة، نكتفي بتقشيرها، ونظن أننا اكتشفنا كل شيء وبلغنا النهاية، ولا ندرك أن هذا الفص يخفي طبقات أعقد من الأنسجة والألياف والعصارة. أليس مدهشا أن البرتقال متنكر أصلا كبذرة؟”
بدا أن نوح سيسترسل في الكلام بلا نهاية، لكنه أطبق فكيه بدون انذار كمن سقط بغتة في بالوعة أثناء سيره. تأمل يسري هذا الوجه الذي انسحب خلف حصن بليد كأن حياته كلها محتقنة خلفه كصديد وفكر، فكر طويلا.
كان يسري يشعر بالإثارة. كل الرجال الصغار الذين قابلهم في حياته، لم يتحلوا بشجاعة نوح الرحيمي، فما إن يدركوا معنى كلماته التي تدينهم حتى يشاركوه الغضب مشيرين إلى صغار سواهم، وكلما فضحهم أكثر كلما طوروا أساليب تنكرهم. من عاش عمره كله لمحاربتهم، المنحطين، حراس العفونة والرداءة، الذين يصعدون بالطغاة إلى سدة الحكم، مقاومي دوران الزمن والأرض، فيستعيدون الماضي كنباشي القبور، يجمدون الحاضر، ويعادون المستقبل، الآن صاروا يستخدمون كلماته نفسها. تحولت على أيديهم إلى كلمات مبتذلة لن يندهش إذا رآها منقوشة على كنب الميكروباص أو مكتوبة كحكمة في الزجاج الخلفي للتكاتك، أو أن يشتم بها الأطفال بعضهم بعضا في الأزقة، فقد صارت مشاعا ككتب الأرصفة.
لهذا أسس موقع باب المدينة، حلمه القديم الذي لم ينجح في تحقيقه إلا خلال السنوات الثلاث الأخيرة. وحرص في ذلك على ألا يستكتب إلا أسماء قليلة، تمثل هذا الامتداد العميق الذي يراه، والذي يحمل الروح الحقيقية الموهوبة والذكية للمدينة المطموسة في الرداءة والرجال الصغار.
لكن ملاحظة نوح كانت صائبة، وهو ما أدهشه. فالعزلة التي أحاط بها نفسه وسط جماعته هربا من “طاعون” الرجل الصغير تفقده يوما بعد يوم القدرة على فهم هذا الكائن وطرق تنكره، لذا فنوح قد يكون فرصة رائعة كي يدرسه عن كثب، أن يؤلف أخيرا كتابه الخاص، يقدم فيه وصفا تشريحيا أكثر دقة ومعاصرة حول الرجل الصغير. أفكار جديدة، أصيلة تلك المرة.
لذا قال لنوح: “حسنا، لقد وافقت على تعيينك بالموقع، لكن شرط أن تخضع لاختبار ثلاثة أشهر لأتأكد حقا أنك الرجل الصغير.”
سالت دموع حقيقية من وجه نوح. كان فرحا جدا، وأوشك على أن يقفز من مقعده. قال بصوت متهدج: “لن أخذلك أبدا، ولن تندم على هذا القرار.”
“سيبدأ عملك من الغد، لكن دعني أفكر في التسمية الوظيفية المناسبة.”
“ماذا عن الرجل الصغير، ملهم الرجل الكبير؟”
ضحك يسري بقوة حتى أن بدنه كله ارتج. خيل لنوح أن ضحكته حلوة، رنانة، مليئة بالحياة. ثم قال:
“تلك التسمية لن تقنع ممولي الموقع، لابد أن يكون اسم لعمل حقيقي. ما الذي تجيده؟”
“كنت أعمل كمدير لقسم الحسابات.”
“لدينا محاسب بالفعل.”
“يمكن أن أكتب المقالات. كنت أراسل بريد القراء في عدة صحف. قد أبدأ برحلتي من الإيمان بكروية الأرض إلى الإيمان مجددا بكروية الأرض.”
“لا أراها فكرة جيدة.”
“حسنا، سأعمل كمصور. أنا أجيد التصوير.”
“حقا؟”
“هواية قديمة منذ الصغر، اعتزلتها. لكن بعد أن استقلت من عملي استعدت ممارستي لها عبر الموبايل، ألتقط صورا بديعة للأنوف والمناظر الطبيعية، كالنخيل والنجوم والقمر، لكني لم أنجح ولو مرة واحدة في تصوير شمس الظهيرة.”
نفث يسري دخان سيجاره، فكر قليلا ثم قال: “سنرى”.
“حسنا، الآن تأكدت أني الرجل الصغير، لم يتبق سوى شيء واحد؟”
“ما هو ؟”
“أن أتأكد أنك الرجل الكبير.”
“وما الذي يجعلك غير متأكد؟”
“فضيلة الشك. لقد فهمت مما قرأته أن له مكانة مقدسة كالإيمان بالضبط، فهو الشيء الوحيد الذي كنتم تتحدثون عنه بيقين بالغ. حتى أني كنت أصلي له يوميا، لأني فكرت فيه كفراغ فعجزت عن تخيله، تماما كما كان يحدث لي عندما أفكر في الله.”
“الأمور لا تجري هكذا.”
“اعذرني لحماقتي، لم أعتد الكثير من الأشياء. هذا ما يحدث للمرء عندما يرتدي نظارة جديدة. يتعثر أولا ثم يصحح تكيف العين كل شىء. هناك أشياء أكثر لم أفهمها بسرعة كالفيل في الغرفة. فشلت في فهمه كمجاز، وظننت أن الذكورية العفنة تشير إلى قضيبي. كنت أظنها تسمية مناسبة له، فقد أذلني في شبابي، ثم استمر في خذلاني. لهذا هو عفن جدا.”
“وكيف يمكنني إثبات أني الرجل الكبير؟”
أخرج نوح من جيبه قطعة معدنية مصمتة لمغناطيس، وضعها على المكتب ثم قال:
“ربما يجيد البعض على عكسي إخفاء أنوفهم الضخمة، لكن الشيء الأكيد أنه لا يسهل انتزاعها. أتعرف لم؟ لأنها مثبتة إلى وجوهنا بحديد صلب. إذا سمحت لي بتقريب المغناطيس من أنفك، سأقتل الشك في قلبي.
“اسمعني يا نوح، إذا أردت حقا أن تفهم أين مكمن الخطأ. الرجل الصغير يؤمن سريعا بالخرافات، ويلبسها سمت علم زائف. هذا للأسف ما جعل منك رجلا صغيرا. فلتتخل عن الهراء، ولتتمسك بالعقل. هل ترى فيما قلته شيئا يحمل أي منطق؟”
“لديك كل الحق، اعذرني مجددا على حماقتي. أنت بلا شك الرجل الكبير.”
غادر نوح، بعد أن ودّعه بحرارة وامتنان.
سرح خيال يسري في أفكار وعناوين آلاف المقالات التي سيسوّدها عن الرجل الصغير، وشكل كتابه عنه. كان متحمسا جدا. خوفا من فرار الأفكار والجمل والمقولات، اتجه إلى البورد الأبيض ليأسرها داخل الدوائر الملونة.
لمح المغناطيس الكبير على المكتب. لقد نسيه نوح. نظر إليه وتسرب إليه الفضول. أمسكه بالفعل، قلبه بين يديه، كاد أن يقرّبه من أنفه، لكنه عاد وقذفه إلى سلة مهملات بجواره. ابتسم قائلا: “ياللحماقة.”
٢٠١٨/١١/١٠
Like this:
Like Loading...
тнє ѕυℓтαη’ѕ ѕєαℓ. Cairo's coolest cosmopolitan hotel.