الحدوتة التي أحكيها: شهادة يوسف رخا، صيف ٢٠١٧

Untitled-3_DxO

Youssef Rakha, Self Portrait on Kismet’s Birthday, 2018

الحدوتة التي أحكيها عن نفسي… لا يهم إن كانت حقيقية وإلى أي حد، لكن الكلام لن يكون مجديًا في غير كونه حدوتة.
أليس جميلًا مثلًا أني تفاديت فخ الزَفّة العائلية التي تقيمها طائفة المثقفين لأعضائها وخرجت من وسط البلد بسلام؟ في هذه المرحلة عندي استعداد صادق للتصالح، ليس بمعنى التنازل عن رؤيتي أو كتابة ما لا يرضيني نزولًا على الرائج لكن فقط القبول بحدود المتاح من نجاح برحابة صدر والامتنان العميق لما أمكنني إنجازه بغض النظر عن الاحتفاء. سبع سنين كاملة مرت على فراغي من أكثر مشروع شعرت بضرورة إتمامه: كتاب الطغرى. فربما يصح لي أن أحكي…
الحدوتة تبدأ سنة ٢٠٠٥.  في ٢٠٠٥ انطلقتْ صحوة ما في المجال الأدبي أو الثقافي في القاهرة. وفي ٢٠٠٥ ذهبتُ إلى بيروت. الصحوة جاءت أحداث ٢٠١١ لتُخمدها كالقضاء. والغرام الذي نشب في صدري من ناحية لبنان تحول إلى ما يشبه العداء، مع الوقت. لكن، وبفضل أشياء مثل أمكنة في الإسكندرية وزوايا في بيروت ثم دار رياض الريس مرورًا بمحيي اللباد وجماعة أخبار الأدب، في ٢٠٠٥ جاءت رِجلي مرة ثانية وعدت إلى نشرالكتابة.
فلِأسباب أكثر منطقية من أي دافع إيجابي، كنت انقطعت عن النشر بعد صدور كتابي الأول أزهار الشمس سنة ١٩٩٩. وفي السنين التالية قلّ إنتاجي الأدبي حيث تبخرت طموحات وأوهام وتصاعدت أدخنة سامة من رأسي. زالت رزانة الكهولة المبكرة لصالح مراهقة مؤجلة ما كان ليشوبها شائب لولا موت الأب والانهيارات. وراح وقتي على الحياة والصحافة.      
جاءت ٢٠٠٥ إذن وأنا أمارس الصحافة. كنت أتعافى وأمارس وكنت أحب ما أعمل، لكن في بيروت اكتشفت أن هناك علاقة غير شرعية بين الصحافة والشعر، وشجعني على التداخل مع الأجواء إحساس أن شيئًا يحدث أو مجتمع قراء من خارج دوائر الكتاب يتكون بين الزمالك والمعادي ووسط البلد.
كتبت بعد ذلك عن المدن العربية وأنا لا أدري لأحوم حول القاهرة. أقصد أنني، بلا وعي، كنت أكتب عن القاهرة منعكسة في مرايا تلك المدن المتصلة بها بشكل ما. وعندما وعيت رغبتي في كتابة خطط المدينة المعاصرة تغلبت على رعبي الدفين تدريجيًا عن طريق خلط كتابة المكان بتصوراتي عن التخييل واللغة عبر أسئلة الهوية والانهيار. ولازلت سعيدًا جدًا بالنتيجة.
تصادف أن صدر الكتاب خلال أسبوع من سقوط حسني مبارك في فبراير ٢٠١١، مع ذلك. وكان من شأن ما شهدت من تعامل الطائفة الكريمة مع التحول التاريخي وأوهام أعضائها عن الدور والموقف أن ينفرني بشكل غير مسبوق خلال الشهور التالية. كنت رأيت أناسًا تسقط في دمها وبلادًا تتحول إلى خرابات وشعوبًا من المخابيل تستعد لطردي شخصيًا لإقامة إمارات حروب قروسطية بدعوى التحول الديمقراطي. كل هذا والتشنج الثوري كما هو، والثوابت.
الأسوأ أن المثقفين بدوا لي أحرص على قول ما يجب أن يقال واستثمار ما لا يخصهم للانتفاع الفردي من أي تفاعل صادق مع ما يحدث أو تفكير في استفادة المجتمع من حدوثه. انتشرت عمليات الاغتيال المعنوي وقتها بمجانية تامة، وسُفّهت التضحيات من جانب المدافعين عنها، وأصبحت الأحقاد الشخصية الجبانة (بلا مواجهات خارج المجال الافتراضي) تعويضًا عن أي إنجاز محتمل.
هكذا شعرت على كل حال، ومررت بمراحل من التشنج المضاد أدت إلى مغادرتي موقع فيسبوك، لحسن الحظ.
لعل المفارقة الأعمق في حدوتتي أن الربيع العربي أصبح موضوعي الأثير. لا أقصد أنني أريد أن أساهم في البروباجاندا الليبرالية التي تخدم الإسلام السياسي. أريد أن أعرف الحقيقة. أن أقتحم مصنع الأكاذيب وأسخر من تفاهة المؤدلجين بلا أيديولوجية. أريد أن أبقى هنا وأن يكبر أولادي هنا، وأراقب.
لقد بدأت كتابة التماسيح قبل اندلاع الأحداث بقليل. ومع انخراطي في الاحتجاجات وفرحتي الخرافية بحصول ما كان يبدو مستحيلًا، بدا أن الواقع يكمل لي قصة بدأتها سنة ١٩٩٧ في الخيال. كذلك أصبحت التماسيح ثلاثية وتحول مشروعي الأدبي عن القاهرة كخريطة للهوية إلى شيء آخر. في التماسيح كتبت عن العشق وفي باولو عن العنف، وهناك رواية ثالثة سأكتب فيها عن الموت أو ما بعده. وسأقبل ما تجود به الدنيا أيًا كان. أليس هذا أفضل من المرارة؟