لم أكن ولدًا للرّغبة، ولم تلدني أمّي تحت شجرة، قالت العادة كن فكنت.
أهلي ساروا في طريقٍ نسوا عليه فؤوسهم من بعد خطوات “الزعيم الخالد”؛ وكلما نضجت جلود الأفندية تدفن الحقول خجلها في بذور الزرع ولا تطرح سوى الحنين*. حائرون من غير سؤال عن معنى الحيرة*، لكنّي صُنعتُ على أعينهم بين أسوار التقاليد المدينية لطبقة الموظفين، ولم أعرف براح الانعتاق طفلًا إلا عند الفلّاحين. لم تكن “أخلاق القرية” سُلواني، إنما إفلات الحبل على الغارب بلا رقابة ولا تكدير؛ هذا مع أن بيت العائلة، حيث تعيش الجدة التي قاربت التسعين من عمرها وحدها، ليس فيه سوى المشّ والعسل الأسود وبيضات فرخاتها والبتّاوي، وكل ذلك كانت تعافه شهية الفتى “أبو نضارة” بعد أيام قليلة من إقامته عند أم أبيه. حُبًّا في الحرية أمكث، وحينما يأتي الليل ألعن الوحدة ونقيق الضفادع، وتُسكِن روعي قليلًا قنوات التليفزيون الأولى والثانية.
على عتبة البيت الكبير أجلس في العصاري، والفلاحون رائحون غادون، مع بهائمهم وأمام بهائمهم وخلف بهائمهم، وهذا الكتاب أو ذاك بين يديّ. أعوامي الأربعة عشرة لم تمنعني من أن أمد يدًا لمكتبة عمي الدرعميّ، فقلّبت في الأغاني للأصفهاني. فاتني فهم الكثير، لكن عبيدة الطنبورية فتنتني. بهية الطلعة حسنة الصوت، تمنح نفسها للكل؛ كهولًا وشبابًا وأطفالًا! فلا تحرم أحدًا. أقرأ بأعوامي الأربعة عشر عن عبد زنجي عاشرها، فتعجبوا منها – ولم يكن الله خلق الصوابية السياسية بعد – فقالت لهم: قد تمتّعتُ بكل جنس من الرجال إلا السّودان، فإن نفسي تبشّعتهم.
السودان جمع أسود إذن. فهمت ذلك كبيرًا. هيا ننظّم حملة لتغيير اسم دولتي السودان وجنوب السودان لأن التسمية ليست على ما يرام.
كان لها كذلك غلام كلما شبقت وهي في بيتها دون الرجال لجأت إليه ليطفئ نارها، وتصفه بأنه “يصلح للحمل والطحن والركوب”.
لم أنس العبد الأسود ولا غلامها، ليس فقط لأن أعوامي الأربعة عشرة كانت تُسعّر شهوتي، إنما كذلك لأن وراء الشهوة لغة بليغة وحلوة. وحين اشتهى أصدقاء القرية فتيات من الحارة أو الحارات المجاورة، كنت رسول الغرام وكاتب سطور الوصال. “خطك حلو وتقرأ الكتب، فاكتب لنا”، قالوا. وكتبت.
“هل تمنع قطرة الندى أن تلامس الزهرة؟! هل يمنع العصفور أن يلتقي بالعصفورة؟!” فاستشاطت البنت غضبا وقررتْ مقاطعة صديقي، فأتاني غاضبا ومتوعدًا. لقد ظنت البنت أن في خطابه تلميحًا جنسيًا. قلّبتُ كلامي في كل اتجاه عسى أن ألتقط منه ماء الشهوة بلا جدوى. ساعتها عرفت أنهنّ كلهنّ عبيدة، وأنهنّ مثلنا يُرِدْن، وكان ذلك اكتشافا مهما ومثيرا على كل حال.
الحكاية أنّه لم يكن الولد نبيًا*، مع أنهم أدخلوني الأزهر ككل الأحفاد من البنين والبنات بناء على وصية جدّي، الذي حملت اسمه، وفارق الدنيا بعد ميلادي بثلاثة شهور؛ فأقول لأهلي ممازحًا: لم يحتمل العالم “محموديْن” في بيت واحد، فاختار العجوز الطيب الفداء بنفسه. حفظته في قلبي، وظلت مزحتي عن رحيله ديْني أمام فرحةٍ بقدومي كان يعلنها يوميا، كما حكت لي أمي وما تزال، مع أني لم أكن أول أحفاده، لكني كنت الأول من بينهم الذي يحمل اسمه من صلب أولاده الذكور. أسلمنا جدّي لطريق المشايخ، فيما آبائي أفندية تائهون من جيل يوليو. حائرون على أسفلتٍ يلمع بسواده في عيونهم*. وضعوا عمامة فوق رأسي، أدور بها على السوبر ماركت، لأملأها بأكياس الشيبسي*. لم أعرف ماذا يعني كوني أزهريا سوى أني حفظت القرآن كاملا بنهاية الصف السادس الابتدائي، وكنت أسأل نفسي بسذاجة الطفولة: لمَ لا يكون معنا مينا، أيّ مينا، في الفصل؟!
وسوى بولس، صديقنا من حارة النصارى في القرية، والذي تقف صداقة الكل له وصداقته للكل عند حدود لعبه الكرة معنا، أو هكذا كانت معرفتنا به أنا وأخي، لم أعرف أي مينا آخر، لم أعرف للأمانة أي “كُفْتِس” آخر. ذات مرة كان فريق كرة القدم بالقرية يلعب مباراة رسمية في دوري المدينة، كان فريق قريتنا مهزوما هزيمة نكراء، مع أن سمعة فريقنا تدوّي في أرجاء المركز كله، وربما المحافظة كلها، لمهارة الأجيال المختلفة من لاعبيه. أجرى مدرب الفريق تغييرا بخروج شخصٍ ما لا أذكره، وأحلّ بولس مكانه، فأشاح أحد أصدقائي من اللاعبين بيديه ممازحا، وقال: هي ناقصة كفار، ما إحنا مغلوبين أهوه! ضحكنا طبعا، وضحك بولس نفسه. ضحك لأنه صديقنا، أو لأنه ما كان يمكن له إلا أن يضحك؟ لا أعلم. بيد أن الجميع في أوقات الصفاء، بعد الراحة من لعب الكرة، كانوا يسألون بولس عن التثليث والمسيح والله، وأنا صامت متوجّس، وبولس يرخي بصره للأرض ويقول صادقًا “لا أعرف”، يقولها مبتسمًا ثم يدور بعينين حزينتين على وجوهنا، فأصدّقه، وأصدّق إيمانه الفطريّ كإيماننا؛ يأتيهم القسيس كل أسبوع من المدينة الصغيرة حيث أعيش، يصلّي معهم، ثم يغادرهم في عربته الفيات فيورا البيضاء كعربة أحد أعمامي؛ وهذا كل ما في الأمر. لا أذكر إن كان أحد سأله عن طبيعة تلك الصلاة، ولا سألته أنا، كنت أعرف من الأفلام الأمريكية التصليب على الجسد أمام تمثال المسيح فاكتفيت. وما أظن أن الآخرين اكتفوا حتى اللحظة، فمعظمهم في الخليج الآن، والعائدون منهم يقولون الراتب بدلا من المرتّب، والسيّارة بدلا من العربية!
أيها المتزلجون على زبدٍ تظنّونه الحياة، التائهون حدّ أنكم تتعثّرون في سراويلكم (الجينز)، من أوحى لكم بأنّ الله لا يسكن سوى الحقول؟ أو أنّ قرص الشمس لا ينبت إلّا في جلابيبكم؟ (السينييه)* إنني ربيبكم لكن “أخلاق القرية” ليست مقصدي، وأحاول ألّا أكرهكم بنسختكم الأحدث من كومبو أخلاق “القرية-الخليج”.
تائهون هم أيضًا، وعائدون من الخليج بجيم قاهرية تليفزيونية، بينما أمّي، المدام، الموظّفة، المدينية بحكم طول الإقامة والمكوث وبطباع أبنائها، برغم ذلك ما زالت تنطق جيمًا فلّاحية معطّشة. معها رآني أحد أساتذتي في الصف السادس الابتدائي، وكان بيته قريبًا من بيتنا، فسألني في اليوم التالي بعينين يطقّ منهما شرار عن البنت التي كانت تسير بجواري البارحة. “دي ماما والله”، فبهت الذي كان يستعد لعقابي وابتسم بعدما أقسمت له أكثر من مرة على صدقي.
في شبابها كانت قريبة الشبه من زبيدة ثروت، في صورها ترتدي ابنة الريف فساتين لحدّ الركبة، وشعرها الفاحم القصير يظلّل وجهها الدائري الذي لا بدّ أن تلفتك فيه حسنة واضحة عند الطرف الأيمن لشفتها العليا، ولم تُخفِ أبدًا عينيها العسليتين وراء نظارة شمسية. حينما عاكسها أحدهم ذات مرة، خلعت حذاءها فورًا وانهالت على رأسه، يحكي لي ذلك أحد زملائها حتى الآن منذ كانت طالبة في المدرسة الثانوية التجارية. رآها جدي لأبي تملأ الماء مع بعض من كنّ يساعدن أمها، وكان صديقًا لأبيها البقّال، فطلبها لأبي، وجئت أنا بعد أشهر عديدة، وتحديدًا في الأول من ديسمبر العام ١٩٨٣. جئتك أيّها العالم من غير محبّةٍ كافيةٍ لاحتمال الألم، تقول أمّي جئت في الزمن الغلط*. ولم أعرف منها إن كانت تقصد زمان طفولتي أو زمان شبابي، ذاك أنّي كلما فشلت في علاقة حب هرعت لأبكي بين أيديها، فتقول “مِن حبنا حبّناه وصار متاعنا متاعه، ومن كرهنا كرهناه يحرم علينا اتّباعه”.
أنضجت ناهد أمومتها في قلبي، وتعثر أبي فيما ظنّه مشروعه الأول: أنا، ولا فخر. و بعد حينٍ طال سأفهمه حين أكتب قصيدة عنه وأنا في الخامسة والعشرين من عمري أصفه فيها بأنه “إله تنقصه المحبّة”، ثم سأرثي لحاله حين يحال للمعاش بعد أن أقرأ “حجرتان وصالة” للمرحوم إبراهيم أصلان. الأستاذ خليل بطل أصلان رجل ستينيّ يشغل نفسه بكل ما يدور في بيته حتى ولو كانت أمورًا لا تعنيه، وتعنّفه زوجته أو في أقل الأحوال تستعجب لحاله وتقابل فضوله بصمت متأفف، وهكذا حال أبي مع أمي، وربما كان حال أصلان نفسه. ففهمت، واستراح قلبي. لكني برغم ذلك سأظل ابنا بعيدًا لأبٍ اقترب متأخرًا، ومتأخرًا جدًا؛ وحين أعوي بنوّتي سيكون عمّي الأكبر – مع ماما – هو الحِجْر الذي ألقي فيه أحلامي، فقط لأنهما احترما خياراتي، غير أبي الذي قرر منذ البداية أن يقلّب مصيري بين أصابعه، ولمّا فاته زمان البطريركية الأبوية الناصرية وأوهام رب العائلة الساداتية، استسلم لطوفان جموح ابنه البِكري، من دون أن يفهم الزمن الجديد، وقد كان صعبا عليه أن يفهم بظهره المكشوف على رخاوة زمن مبارك ودولته.
في البُعد سأفهمه، ولم نكن إلّا بعيدين، مكانًا وزمانًا، لكنّ البعد الجديد نضج على نار استقلالي المادّي، فأرحْته واسترحت، وكلما بعدتُ اقتربت، وأقول لنفسي ذلك خير من العقوق. ماذا كان عساه أن يفعل موظف الحسابات الذي شقّ طريقه لنفسه بنفسه، وقد كان أبوه يغريه بالفدادين ليترك الدراسة ويعمل بفلاحة أرضهم الكبيرة؟ “اترك الدراسة، وسأكتب لك فدّانًا كاملًا زيادة عن ميراث إخوتك” يقول له جدّي الطيب حين رأى شغفه بالأرض وفلاحتها، فيلتفت أبي لدروسه أكثر فأكثر. ماذا عساه أن يفعل حين يأتيه ابنه البكري ويقول سأترك الهندسة من أجل الأدب والصحافة؟ كما لو أني معكوس حكايته وأقول له سأباشر الفلاحة في الأرض بدل أن أكون مهندسًا! أن تكون كاتبًا يعني أن تكون فلّاحًا، أي كتب عليك الشقاء الأبدي، وليس تصوّر أبي بالأمر المغلوط على كل حال. لكنه سيفهم، وحين يصدر قبل سنواتٍ ديواني الأول “فلّاح هذا الزمان” سيعطي منه بنفسه نسخًا لأعْمامي، وإذ أصحو وقتها في بيت العائلة الكبير في القرية أثناء تجمعنا أول أيام شهر رمضان سأجد كلًا منهم ممسكًا نسخته يقرأ فيها، وبعضهم يقابلني بامتعاض، وتحديدًا بسبب قصيدتي عن أبي، فيما عمي الأكبر كعادته سيقول “مبروك يا هندسة”.
أبتعد ولا أبتعد، وأحب أن أقول أنجو بعقلي، بيد أني أحب أن أكون بينهم، وأحب هذه العزوة ومذاق العائلة الكبيرة، وأحب أن لي بيتا أسمّيه بيت العائلة الكبير، ومع هذا أظل الابن البعيد، الابن الذي، بذر بسمته في حقول أهله ولا ثمار حتى اللحظة*. وأهلي الأفندية، وارد يوليو، نظروا للشمس وقالوا وردةً فتاهوا بين الغصون*. ثم يشيرون بغضب: هذا الابن العاق، الذي رسم الشمس على ذراعه وقال شمس*. وأنا ما فعلت شيئًا سوى أنّي، صاحبتُ ظلّي على الأسفلت/ وفوق الحوائط./ ألقيتُ حمولة عمري في البحر/ لحوريّاتٍ/ يسرحن في خيالي/ ومضيت بلا أسف./ أنا العلماني الذي – قبْل أن يمضي -/ تمتم بالمعوذتين في سرّه/ وقال/ الله ليس في الماضي/ ولا في جيب أصحاب اللِّحى./ وأنتم؟!/ أنتم تخادِعون أنفسكم بالحنين/ وتتبجّحون بمعرفةٍ لا تملكونها/ يا من تأكلون الشيبسي في عمامة:/ لكم حيرتكم المدّعاة/ ولي بحجم الشمس/ قطرة*.
*المقاطع المصحوبة بنجمة في آخرها منقولة، بتصرّف طفيف، من قصيدة للكاتب بعنوان “ما بعد”، من ديوانه الأول “فلّاح هذا الزمان” الصادر عن روافد للنشر والتوزيع، ٢٠١٤.