دينا ربيع: ليلتان ونهار واحد

Ahmed Gaber, from “We, the Living Dead”. Source: arabdocphotography.org

ألهبت سياط الشمس وركي وقرحته المناخس، كان لزاما أن أصل إلى آخر الشارع المرصوف بالعرق وصدأ الحديد، قطعت نصفه ثم عنّ لي أن أتأكد من صواب وجهتي من جندي وراء مصفحة؛ لأنني لا أحب أن أمضي نصف يومي دعسا في الصدأ ونصفه الآخر في علاج أنفي من أثر الريح المنتنة سدى، ولأن المصفحة كانت أكبر من مثيلاتها في شوارع البلد وأكثر زرقة. في صحراء الحديد هذه أحب البحر.
الجندي في أذنيه وقر. سألني رجل مبعثر عن وجهتي، لم آبه لدعائه. التفتُّ عنه إلى الجندي، التفتَ عني إليه، ناداه: “يا باشا، أدركت سوء ما فعلت. انتبهت إلى عينيّ الباشا، أبصرت انكسارا، انتشيت وجريت.
الشيب في رأسي، والغَلَب في القلب. أطرق باب غرفته؛ ملاذي الأخير، أتجاهل تاريخهما وما لأثر ذكرياته معها على معدل إفراز الدوبامين في مخه عامدة، وأسأله بسذاجة أن يخليها إليّ. ينهرني، أعود إلى غرفتي، أغتسل بدمعي ومخاطي. أعاود الكرّة بعد خمس عشرة سنة، وأحصّل الرد ذاته، أكذّب رده وأصدق تلاقي طول أصابعنا.
كل محبيّ آباء منشغلون بأطفال آخرين. وأنت منشغل بلُبس أخريات تتعرّى منّي إليهن. حين تقلبني بين إصبعين من أصابعك أفكر أين كانا في جسد الأخرى، وحين تخفت نشوتك، أفكر إن كانت معها أكثر حمرة. ألومك على زجي في هذا السباق، وألوم نفسي. أقول أنا أغنى الشركاء عن الشرك. حتى إذا أدرت ظهرك أتعلق بك كشمبانزي بأمه. أقول انظرني وأَشرِك معي في هذه نساء المجرات كلها. أهاتف نهى الروبوتية، وأحدد معها موعدا لحصة في علم التبلد. لا أذهب أبدا.
الليلة التي انتظرتها سبعة أشهر وصلت باهتة. أدّعي أني لا أحترق اشتياقا إلى لين جلده وجنّة عطوره، أعانقه عناق صديقين، تراقبنا عيون، يعانقني عناقا لاهيا، يخبط على ظهري كأني طاولة، يتكئ عليّ، وينفصل عني ومعه علق من روحي. أسأله متى تحبني، قليلا قليلا؟
يجلس قربي، أتأمل شفتيه، كيف لا تنبت لهما قرون استشعار تلتقط حريقي؟ ينقلب طبق السلاطة على ملابسه، تتبقع، ويسيل من أصابعه ماؤها. يسيل مائي، أود لو ألحس بقعه وأبلع أصابعه غير أن عيون الجلوس تقتل نزقي.
في سريري يرن هاتفه. أسمع اسمها، لا يؤجلها ولو لحظة شبقه معي. في سريرها يرن هاتفه باسمي، يؤجلني إلى يوم يبعثون. يقلل الصوت الصادر عن هاتفه. أسمعها، أعرف كل كلمة مما يقولان. يغلق هاتفه، ويواصل ادعاء محبتي، وأواصل محبته. قام عني سريعا، قلت له كم لبثنا؟ قال لبثنا شهرين متتابعين. غسل عنه رائحتي بالغسول الألماني النافذ، لم أبدل ثوبا خالطه عرقه ثلاثة أيام حسوما.
لا تروق له جنسيتي ولا سني ولا اندفاعي ولا تقهقر لحاقي بحريقه الخافت ولا أثر الرصاصة في ذراعي ولا ملمس دمي على إصبعه. على الحائط لمحت تذكارا منها. أعرف قصتها، ولي عينان تبصران وقلب يعرف المحبة حين يلقاها.
في كوب الشراب حشرة طافية، أنسى آلامها. أغفو ساعتين لأنسى ألمي ولكيلا أراك في صحوي، أجرع الشراب وأحسب احتمالات أن يقتلني سم حشرة في معدتي، وكذا محبتك ليوم أو بعض يوم.
عويت ليلتي هذه حتى طمأنني صباح بجواز زوال انفصالنا، تركني أعوي حتى مللت صوتي. هكذا يعالج أموري.
في الصباح تعطرت بعطر رجالي بحثا عن أبي. سقطت مفاتيحي في كومة، فتشت فيها، تربت يداي، سمعت همهمات ليس من بينها صوته الأليف. زاد عوائي، دخنت سيجارتي وشربت حليبي. اتفقت مع السيدة التي أنجبتني أن تعيدني إلى رحمها، وفي الليل جبنت.
لا أحب ملمس المستحضرات على وجهي، لكن أخفيت انتفاخا تحت عيني ذكرني بك، وتماس ملامحي مع ملامحك، وعطرا علق بشعري. وغيرت خط ابتسامتي إذ أشبه ميله انعدالك.
أستاذي الذي يكبرني بسنوات معدودات قرر أن يشهر سلطته في وجهي في التاسعة صباحا. لم يمنحني فرصة من تفاؤل بمطلع يوم جديد وتمني صباح الخير لرخام الجامعة. وسط خناقتي معه انتبهت رفيقتي لتدلي حلمتيّ، وهرعت إلى إدخال زر قميصي في عروته. لم تنتبه لدموعي واحمرار وجنتي واتساع حدقتي عيني وارتفاع صوتي وانقباض قبضتي.
الجامعة الرخامية المضاءة بالنيون الملون القبيح ميزانيتها على قدها. ملجأي الوحيد للبكاء كرسي مكسور بين دواليب القسم، تشكني مساميره النافرة في لحم فخذي فينهمر بكائي. أشكر حنكة الكرسي المكسور، يتحسن مزاجي. أمر على صاحب قيراط السلطة، أبتسم وأكمل يومي.
خطر لي أن جنة ما قد مست عقلي. قال لي رجل إن المجنون لا يدرك جنونه، هرعت إلى آخر أسأله، لم يرد. كيف يعرف الناس يقينا أنهم عقلاء؟ في صحوي كنت أجري إلى باب غرفتي، بعد يومين وصلت، لم تكن أصابعي في مكانها على راحة يدي، فتشت عنها، وجدتها في دُرج أختي من أمي وأبي، أخفتها عني وتركتني لحُمّى بحثي. الرجل الذي لم يرَ ما رأيت يدّعي أنه يعرفني. ذهبت إلى طبيبي، أخبرني بصوت كثلاجة الموتى أنني مصابة بمتلازمة كابغراس. في الليل غفوت ورأيتك تطرز اسمها على ذراع نظارتك المفضلة، أفقت وفي حلقي غصة لم تخفف مرارتها عصائر محلاة وحليب بالشوكولا وويسكي بالعسل.