
Henri Matisse, The Dance, 1910. Source: Wikipedia
بعد ساعة ونيف من التجوال بين لوحات عصر النهضة، وبعد أن قتلني الملل، جاهرت بالإقرار لنفسي إنني لا أستطيع تحمل فن ما قبل ١٨٠٠ م. فقلت في عقلي: على فكرة الفن ما بيجي بالغصب. وتوكلت على الله بخطى ثابتة نحو قسم الانطباعية الجميل.
مونيه، كليمت، فان كوغ، رنوار… أيقونات الانطباعية الساحرة معلقة على الحيطان… وعلى الأرض أمام أحد لوحات ماتيس، تجلس طفلة عمرها على الأكثر ثماني سنوات، شعرها أسود قصير وبنطالها وكنزتها ورديان.
عند ركبتي البنطال أضيفت وردة ووجه قطة. هل يذكر أحد قطع القماش السميك التي كانت تضاف لبناطيلنا التي نخرج بها حتى لا تتمزق بسرعة؟ يبدو أن هذه الطريقة لا تذبل مع الوقت، حتى في كوريا ( أعتقد أن الطفلة من كوريا). حاولت أن أتذكر أشكال تلك القماشات التي وضعتها أمي على بناطيل “الجرد والكروم” لكن لم استطع.
كانت جالسة على الأرض تعيد رسم لوحة ماتيس في دفتر بين يديها. وعندما أكملت انتقلت لسورا، ثم غيره. في كل مرة تجلس أمام لوحة تركّز قليلا وتبدأ بالخربشة في دفترها، تقلب الصفحة وتنتقل إلى لوحة أخرى.
لم تأبه بما حولها. كانت تضع سماعات على أذنيها وتصغي للدليل الصوتي. في كل مرة تنتقل إلى لوحة جديدة يتحلق حولها ناس جدد، يبتسمون، ينظرون إلى رسماتها، اللوحة، ما الذي تراه وكيف تنقله إلى دفترها. يصورونها: للحظات، تحولت هي إلى العرض، لا ماتيس. فن معاصر مرتجل، ببنطال زهريّ منقّط، ووردة ووجه قطّة.
.
.
هل هنالك أجمل؟
شيء ما بداخلي حسدها على مساحة الإبداع المفتوحة تلك. تذكرت أستاذ الديانة في الإعدادية، الذي أصبح في مخيلتي أيقونة قتل الإبداع.
في أحد امتحانات الديانة، كان السؤال بمعنى: ما الذي يجب على المؤمن فعله إذا أخطأ؟ ورفض أستاذ الديانة أن يعطيني علامة الجواب لأنني بدل أن أكتب التوبة كتبت: يجب أن يندم على معصيته وألا يعود لفعلتها مرة أخرى.
في ذلك اليوم تشاجرت مع الأستاذ، أصيح في وجهه أمام الصف: أخبرني ماذا تعني التوبة؟ كيف يتوب الإنسان؟ وأنهار من الدموع تنهمر من عيني. أنا لست على خطأ. لم أكن على خطأ.
لم توافق الموجّهة المدرسية ولا المديرة على أن أعطى علامة الجواب يومها… عشرة أعوام كان عمري، عدت للمنزل بعيون حمراء ” قد الرغيف” من البكاء، وقهر وكراهية بوسع الجبال.
لا أذكر ما الذي فعلته أمي يومها ليهدأ غضبي هل حضنتني مطولا؟ هل اجتمعت مع خالتي لإلقاء النكت عنهم أمامي لأضحك وأنسى؟ أو أنها أخرجت القاموس لنبحث عن معنى التوبة الصحيح؟ لا يهم، فهذه لم تكن تلك المرة الوحيدة التي أعود للمنزل فيها بعيون “قد الرغيف” من البكاء… المدرسة كانت تضعني داخل الصندوق، وأهلي يحاولون كل يوم أن يخرجوني منه. أبدعت أمي في ألا يأكل السواد ابنتها الناقمة.
تلك الطفلة كانت أجمل ما رأيت في ذلك المتحف. وفي زيارتي التالية، أخذت معي دفترا وقلما لي أنا. ورسمت.
ليذهب أستاذ الديانة إلى الجحيم. ومعه عصر النهضة.