عزيزة وعبده: مهاب نصر عن التحريم والجسد والسياسة

Lalla Essaydi, Les Femmes du Moroc: Harem Beauty 1. Source: lallaessaydi.com

اخترت هذا العنوان ليس لأنه يحكي قصة حقيقية، بل هو يشبه أحد عناوين القصص التي قدمها إليّ منذ سنوات بائع كتب قديمة، أقرب إلى أن يكون صديقا. بادرني: “شوف ده”. كان كشكولا عاديا، لكن على غلافه رسما يدويا بدائيا، وثمة عنوان كبير يقطع الغلاف على هيئة هلال بالقلم الجاف الأزرق “عزيزة وعبده”. الرسم لامرأة مملتئة الشفتين ذات نهدين بارزين، ورجل في أسفل الغلاف. قصة جنسية طويلة كتبت بخط اليد.كان واضحا من الأسلوب والمفردات، رغم فصاحتها أحيانا، أنها ليست منقولة أو مترجمة. خيال شعبي خالص بنفس ريفي. لم يكن هذا هو الكشكول الوحيد لدى صديقي، بائع الكتب، الذي كان يعير هذه الروايات بجنيهات قليلة. لكن المدهش أن بعضها كان قصص “محارم”، وجميعها تدور في وسط بيتيّ أليف. وعلى النقيض من أفلام البورنو فإن الألفة “البدائية، إذا صح التعبير، هي ما كان ينسج الرغبة. لا مشهد يقدَّم على أنه غريب أو شاذ، أو محطم للتابوهات.
إن عالم الرغبة الجنسية هنا يفيد من حالة “ما قبل التحريم”. لكنه ليس عودة للحيوانية مثلا كما يتبادر للوهلة الأولى. بل استثمار لخيال يفيد من مواقع القرابة، دون أن يمثل تحديا متعمدا للتحريم. جو يخلو من الصراع، ويترك نفسه لكل الممكنات بما فيها الممارسة المثلية.
واحدة من الأفكار التي تبادر الذهن بخصوص هذه القصص هو هذا التطور الذي أدى بنا إلى “حب الآخر الغريب”، بل الأدق: “الحب” نفسه باعتباره دائما حب الغريب. وهي في الواقع إعادة تبني للتحريم الاجتماعي/ التاريخي، مع توجيه كل عقده ونواقصه إلى هذا “الغريب”، أو، بالطبع، إلى الذات نفسها.
أتساءل: لماذا تخلو أو تكاد، خبراتنا المدونة من حكايات العبث والاشتهاء الأولى التي تنشأ في وسط عائلي بالضرورة، إلا بعد إسقاط رؤية البالغين الناضجين، وبالأدق: المسؤوليين قانونيا وأخلاقيا، عليها؟
كما تميزت هذه المجموعة العجيبة من القصص بإسقاط فكرة الذنب (مع إسقاطها للتحريم)، فإنها أيضا تقف في منطقة مغايرة عن تلك التي مثلت الشغل الأساسي للتحليل النفسي، منطقة نشوء الحافز الجنسي الأولي.
إن ما يميز “ألعاب الصغار” ليس فحسب أنها تملك خيالا مفتوحا للاشتهاء، بل الأهم أن هذا الخيال نفسه كأنما يعترف ضمنا بغموض الحوافز الأولى. إنه، على عكس الكبار، لا يتساءل بلوعة عن مصدر الافتتان، بل يدفع به الأمام.
إن السؤال عن مصدر أوليّ للغواية هو سؤال مُلتاع، ديني في صميمه، تماما كالسؤال عن “الله”، سؤال يضع كفه في الظلام، ويريد أن ينطق بما لا يمكن قوله.
هل صحيح أن الشعور بالذنب كان نوعا من القهر الذي يفرضه خطاب اجتماعي بخصوص التحريم؟
أم أنه ندم على الاستجابة والتبني لخطاب التحريم نفسه، مع شعور بالعجز عن تبرير هذا الندم؟
هل مصدر العنف هو أننا أجبرنا على هجر بيتنا الأول، أم هو رد موتور للأنا المتشكلة داخل اللغة والمعززة بجسد مغترب؟
لا يخضع الطفل تماما للقمع الاجتماعي كعقدة ذنب، إذ أنه لا يستوعب مضمون هذا الخطاب، إلا في جانبه الآمر فقط. إنه يستوعبه كعنف غامض، غير مبرر، عنف بدئي لم يكتسب أي معنى بعد.
لا تدخل عقدة الذنب إلى نطاق الحياة إلا من خلال اللغة. تفسير العنف (بأثر رجعي) على أنه نوع من الاضطهاد أو القمع أو التقيّد بالمسؤولية ينشأ في اللغة أصلا.
لا تولد عقدة الذنب إذن إلا بعد التبني الواعي لخطاب الآخر والعجز عن تشكيل خطاب يواجهه، لأنه ببساطة لا يمكن لعقدة ذنب أن تنشأ من الخارج، بل من تناقض داخلي.
هكذا فإن الجنس في بيئة كهذه لم يكن خاضعا تماما للشعور بالذنب، ومن ثم لم يكن أيضا يصل إلى حدود “الوجد” ولا التحدي. هو لعبة ضمن ألعاب.
من اللطيف، أن بعض من مارسوا ألعاب الطفولة هذه، الأكثر جدية من ألعاب الكبار، حين يلتقون كبارا يكون بينهم ابتسامة التواطؤ الصامت، هذا الامتنان للاكتشافات الأولى.

من المهم هنا مراجعة دور اللغة ليس فقط في تشكيل خطاب التحريم ومأزقه، بل في موقعة الأنا والآخر كهويتين، وفي المكان الذي عليه أن يتخذه كل منهما. إن تحديد هذه الهوية يحاصر الجسد، وبحصاره يصبح موضوعا للامتلاك، بل يقترن هذا الامتلاك بالمسؤولية أيضا، مسؤوليتي عن جسدي. بينما يمثل جسد الآخر تحديا مثيرا للريبة.
هناك جانبان للغة يبدو أن أحدهما قد انتصر على الآخر: الجانب الجمعي/ العملي الذي كان عليه أن يحيل اللغة إلى معنى محدد، باعتبار ذلك شرطا ضروريا للتعاون البشري الموجه إلى الطبيعة خصوصا ولعلميات التنظيم المصاحبة لذلك. وربما كان النجاح في تحويل الطبيعة مدينا بقدر كبير لهذا الضبط القمعي للغة، ولاكتسابها صفة مجردة تحيل إلى ذاتها، ثم اعتبارها فيما بعد (شأنا مقدسا).
يتجاهل هذا البعد، بعدا آخر أساسيا للغة: الكلام، أو بالأدق: المشهد الكلامي الذي يشترط حضور المتكلم والمخاطب، وبعبارة أخرى يتجاهل منشأ اللغة باعتبارها ليست كلاما في مواجهة العالم بل في مواجهة آخر محدد الملامح. لا يتعلق الأمر هنا فقط بنسبية المعنى في حالة المخاطبة. بل بأن سؤالنا عن المعنى (عن موضعة اللغة وإساندها) كأنما يبحث عن معادل لها يطابقها (هذا هو أنا… ما أقوله هو أنا… ما أقوله هو “الحقيقة”). يتجاهل العنف الأوليّ، يتجاهل الغموض والظلام المحيطين بالموقف الكلامي.
تشير جوديث باتلر في “الذات تصف نفسها” إلى استحالة جلب هذا الظلام إلى نور اللغة، وإلى كون “اللاوعي” ليس ملكا للذات يمكنها سرده ببساطة واستعادته عن طريق التحليل النفسي. ففي قلب هذا “اللاوعي” كان الآخر، أو فيما يسميه ليفيناس “ما قبل الوجود”.
لقد دُفع بنا بطريقة ما للرد على مبادرة لا نفهمها، وهي من ثم تمثل “عنفا” أوليا، قبل أن نتمكن من موضعة هذا العنف في صيغة لغوية، أي قبل ان يكتسب معنى.
إن ثمة غموضا مركبا هنا في كل تخاطب، ينتج أحدهما عن ظلام مسبق، والآخر عن اللغة نفسها التي استقرت في قواعد للإحالة بفضل المجتمع لا يستوعب المتخاطبان كل أطرافها. أحيانا يقول الواحد “أنت لا تفهمني جيدا” وأحيانا “لا أعرف كيف أعبر لك”.
لقد كان الآخر في قلب الموقف التأسيسي لوعي الذات بنفسها. ومن ثم لا تحاجج جوديث باتلر عن عدم إمكان أن “تسرد الذات نفسها” دون مقاطعة؛ إذ بينما تتصور أنها تقص حكايتها، تكتشف أن الحكاية ليست ملكا لها، هناك أيضا ما وراء الحكاية: ذلك العنف، ذلك الظلام البدئي.
الموقف الكلامي يمنع اختزال اللغة إلى مصدر هو العالم أو الذات أو الله. حين أتكلم أفترض الآخر قسرا حتى لو في حديث موجه إلى ذاتي.
وهذا يعني ببساطة أن استمراري في الحديث عن ذاتي يختلف تماما عن الحديث عن الطبيعة مثلا. إذ بينما يكون من الممكن (نظريا) اختزال الآخر في حالة “الطبيعة” إلى مجرد امتداد للذات، حيث الطبيعة لا تموضعني أو تعلن عن رغبتها فيّ، لا يمكن إجراء الفعل ذاته مع الآخر/ الإنسان، الذي لا يمكن اختزاله. فالآخر “يموضعني” أيضا، وهو موجود أساسا في أصل تصوري عن نفسي. مع هذا فنحن الاثنان خاضعان لظلام محيط بنا، ظلام الدوافع الأولى. لقد تكوننا بواسطة عنف خارجي، يقع فيما قبل وعينا، بل تأسس وعينا نفسه بسببه. وبيني وبين الآخر لغة تفشل دائما في تبرير الدوافع بطريقة شافية. اللغة لا تسعفنا. هذا ما يعبر عنه موقف الحب بصورة أكثر وضوحا.
إن كلمة “حب” من أكثر الكلمات غموضا من حيث العالم الذي تشير إليه. نحن متفقون بصددها، لكننا نقول دائما: ليس هذا ما كنت أعنيه. يشعر المحبون أحيانا أن اللغة تورطهم، وتفضي بهم إلى إساءات فهم لا شفاء لها. لأن اللغة في تناقض واضح مع “اللامعنى” المحيط بها من البدء. نحن هنا في صراع مزدوج. الأول هو اسقاطنا لهذا “الظلام” المبدئي على الآخر في عملية استبدال. والثاني الوهم الذي تمارسه اللغة ذاتها باعتبارها تحيل إلى معنى متضمن فيها.
لهذا يعبر اللمس أحيانا، أو النداء الموجه من عيني الآخر ليس فقط عن بديل للغة، بل عن استعادة مركبة للحيرة الأولى وللتضامن معا وللحاجة. تنهي ضغطة أو عناق مناقشة كانت توشك على الاحتدام: إنها تعبير عن احتياج ويأس. يأس ليس بالمعنى السلبي للكلمة، بل بمعنى (لن يستطيع أحدنا أن يكون الآخر، لا نفهم دوافعنا، نعرف أن اللغة ستظل بيننا في الوقت نفسه صلة وحجابا).

تروج الآن قصة أخرى “عبر عن نفسك”، وفي مقابلها (أو بموازاتها) صوابية سياسية انعكست على السلوك الاجتماعي “الصحيح”. وبغض النظر عن ما يمكن أن يكون من تناقض بينهما، إلا إن ما يلفتنا حقا أنهما منهجان يتعاونان للوصول إلى النتيجة نفسها.
“عبر عن نفسك” تتجاهل بالطبع قصة المقاطعة الدائمة، تتجاهل أن الآخر ليس الحاضر في مواجهتي، بل في جذر إفصاحي عن نفسي. اللغة هنا، وهي تدعي الثقة في الإحالة، تصور “الأنا” ملكا لي. وبالمقابل يصبح الجسد سورها وحدها وفاعليتها المطابقة لها.
إن هذا جزء مما يشكل مأزق الحب إذ يبدو وكأنه مبادلة لملكية خاصة، يصبح الجسد موضوعا للتنبه، وللعذاب أيضا. تعبر غنائيات الحب عن فقد شيء ما: أمنحك قلبي، عيني… تعبر هذه الغنائيات أيضا عن قلق رهيب ألا تكون المبادلة متكافئة، أن تُرفض من الأساس… فيبتعد جسدي عني، يتحول إلى ثقل، إلى عار لا أعرف أين أذهب به؟
ولكن لماذا يكون علينا أن نستسلم تماما للحب العشقي الاستبدالي الناتج عن التحريم؟
لماذا لا نفيد من الخبرة السابقة عليه: خبرة الجار، الجسد المجاور، خبرة ما قبل عقدة التحريم، خبرة احترام الظلام الكامن في اللغة.
مع التحريم يبدو الجسد “الممنع” للغريب لأول مرة كموضوع للانتباه، والأهم: للمبادلة. لم يعد جسد أخي وأختي الذي يمر بكل مراحل التفسير والتأويل اليومي: الحنان والصراع والأمن والمنافسة والإشباع وحب الاستطلاع والمشاركة في استكشاف العالم… لقد صار مختزلا بسبب من المبادلة في حب ذي دلالة عشقية جنسية، كجسد مطابق. هكذا لم يعد الجسد حرا: نخشى كل حركة لأن معناها أننا نضع جسدنا في ميزان المبادلة لا الجوار.
ليس هذا سؤالا مجانيا، ولا خارج التاريخ، بل بسبب من التجربة التاريخية بالذات التي توشك أن تجعل من الحب العشقي مجرد نموذج معذب، مجرد حافز لممارسة القسوة بدعوى الاستحالة.
ارتبط الحب العشقي، كما قلت، بالمبادلة. وفي الحب بالذات تكون المبادلة حصرية وفي حدها الأقصى. وهو ما يبرر فعلين متنافضين: تثمين الذات بقدر مبالغ فيه، وتثمين الآخر أيضا بطبيعة الحال. إن هذا يعزز فكرة الأحادية في الحب، بل تبريرها وعقلنتها، بينما هي تعبير عن أزمة مضاعفة.
ماذا يعني أننا لا يمكننا أن نحب في الوقت ذاته أكثر من شخص واحد إلا كون الأحادية تلك هي شكل استبدالي؟ ولا يعني التطابق أكثر من ذلك في الحقيقة. إننا نريد من الآخر أن يلعب دور “الهو”، أن يكون تجسيدا وانكشافا للظلمة التي صاغت الأنا. لماذا يكون الصمت أحد فضائل المحبين إلا أنه ببساطة يزيح الطرف الثالث والإشكالي من المعادلة: اللغة، وبالأحرى، الكلام… هكذا يصبح التطابق ممكنا؟ ما يحدث الآن هو على النقيض نوع من الثرثرة الممتدة اللانهائية. اليأس من “حب المطابق”، من تحريكه باتجاه الهو، تم إبداله بأن تكون الأنا وحدها
وعندئذ لا تمثل أكثر من حضور خالص… حضور كأنما يهرب من سر، مندفعا إلى الأمام على هيئة استطراد لا ينتهي. استُبدل الحب بالإعجاب وكأن الـ(Like) هي أيضا نوع من الاستطراد، نوع من ترميم الأنا الهشة: “لا أريد أن أحَب، بل أريد أن أُعجِب”. لا الكلام وحده، بل الجسد، صار نوعا من الاستطراد والثرثرة المؤكدة للهوة التي يخفيها. أثمة هوة حقا؟ من المدهش أن “الهوة” تتشكل وتنمو وتزداد سطوة لا بسبب “عدم معرفة الذات”، ليس بسبب سر مكتوم. إن الآخر قد خلق فينا هذه الهوة مسبقا. لا طريق للعودة (حتى بالتحليل النفسي)، كما أن إبدال الآخر بالـ”هو” أثبت استحالته. هذا ما يجعل استطرادات الأنا تتخذ شكل العنف، نفاد الصبر، الاستقواء والاستخدام والاستعمالية.
يشكل الاستطراد قانونا فريدا للغة، إذ في غياب الإحالة القصدية، حيث أن الغرض من الكلام هو الحضور أصلا لا الإحالة، تتحول الكلمات إلى علامات طائشة ليست طبعا بلا إحالة أو معنى، لكن بلا قانون للمعنى، وهو ما يخلق بدوره، واقعا معرضا أكثر للصدفة الغاشمة. إن السياسة نفسها تتخذ هذه الهيئة الآن، ليس باعتبارها برنامجا، بل ثرثرة تخلق واقعا على هيئتها.
وهنا يستحسن أن نتوقف لحظة، إذ تكشف هذه اللحظة عن نقطة استثنائية للعلاقة بين الحب والسياسة، ليس باعتبار الحب، بالطبع، ذا تأثير على القرارات، بل باعتبار ما يجمع في العمق بين مفهومين ومجالين.

ثمة ظاهرة كشفت عنها صفحات مواقع التواصل الاجتماعي العربية. ظاهرة ليست جديدة تماما هي الشغف بالحديث في السياسة، وعموما بما يمكن تسميته “الشأن العام”. يبدو هذا مبررا تماما: فإغلاق المجال العام (لا السياسي وحده)، يعد “ظاهريا” سببا رئيسا في اعتبار مواقع التواصل فرصة استثنائية للتعبير عن الرأي الذي ظل مقموعا، وإعادة تشكيل تحالفات (حتى إن كانت هشة) عوضا عن غياب مؤسسات المجتمع المدني، والمؤسسات التمثيلية وعدم كفايتها.
لكن يمكن ملاحظة عملية أخرى هنا، حيث يصبح المجال العام (الغائم تماما) وبلا أي حضور مادي واضح مثل دالِّ مشرّد.
أستخدم تعبير “الدّال” اللاكاني تحديدا، الذي أشار به لاكان إلى “اللاوعي”، لأشير به إلى الآثار المطبوعة على صفحة المجال العام، أي على صفحة الواقع الخارجي نفسه. بخلاف اللغوي دوسوسير، يشدد لاكان على الخط الفاصل بين الدال والمدلول، إن ثمة سورا، حاجزا كثيفا يمنع الوصول إلى المعنى.
يتعامل رواد مواقع التواصل مع المجال العام من خلال الآثار أو “الدوال” بطريقة مشابهة. بمعنى: إن ثمة حرصا خفيا على أن تظل العلاقة بين ظواهر وآثار المجال الاجتماعي من جهة والمعنى أو “الحقيقة” من جهة أخرى كثيفة، بل تصل حد الاستحالة. لكن هذا يحدث بطريقة ملتوية جدا، تبدأ من نقيض ما قلناه: أي من إسباغ معنى وحيد على الظاهرة أو الأثر. ما يحدث هو أن تصبح المعاني نفسها دوالا: فمن التحرش إلى العدالة الاجتماعية إلى الديموقراطية، الاستبداد… تصبح المعاني مستنفدة في منطوقها، لا خط فاصلا على الإطلاق، وهو ما يجعل المعاني نفسها دوالا مطلقة تكتسب قيمة في حد ذاتها. وهذا لا يجعلها تفشل في تفسير الآثار المنطبعة على المجال العام فقط، بل يجعل المجال نفسه جامدا متصلبا غير قابل إلا للتكرار. يمكننا كل يوم إن نجد إدانة لفعل، باعتباره استبدادا أو فسادا أو، بالمقابل، إشادة ببطولة، لكن دون قدرة على تفكيكهما، بل استعادتهما من خلال نماذج مطابقة أخرى أو تُجبر على التطابق إجبارا.
إن صراع “الدوال” الحاملة للقيمة لن يكون إلا صراع مواقع: إما أنا وإما أنت وإما أنا أنت. صراع كيانات جوهرية، أو “هويات” كما يقال.
واقع الأمر إن “الصوابية السياسة” ينطبق عليها هذا الأمر بكل انعكاساتها على الواقع الاجتماعي. لدرجة أننا يمكن أن نلمح فيها صفة العنف.

سأعود إلى الرواية الطريفة “الصبية والسيجارة” للفرنسي بونوا ديتيرتر، متفهما لماذا لم تنل حظها من التنويه؛ وذلك ربما لأنها تستنتج نوعا من المسخرة من قلب الصوابية.
نحن أمام أناس يتصرفون وفق أجندة أيديولوجية ليس بالمعنى الشامل، مثلا تثمين الصحة البدنية الذي يتخذ من العداء للسيجارة أيقونة، وفي الوقت ذاته، حتى لو بدا متناقضا كما تكشف الرواية، احترام القانون الذي يبيح لمحكوم بالإعدام أن يدخن. إن الجدل الدائر بين محامية المتهم والمتهم نفسه من جهة، وآمر السجن الذي يجد نفسه في معضلة غير مسبوقة من جهة أخرى، وصراع الإعلام المدعوم من قبل شركات التبغ من جهة، وجماعات العداء للتدخين من جهة أخرى، ثم اتخاذ القضية بعدا جماهيريا، كلها لا تظهر الهشاشة بل الجمود. ثمة نوع من الأيديولوجية “المجزأة” التي لا يمكن عبورها. صراع مواقع.
إن حوار طرشان يقوم بين الرباعي الذي يحتل الفصل الثاني من الرواية: محامي عائلة الضحية المصر على إتمام الإعدام؛ الجاني الأسمر، شبه الأبله، الذي لا يعرف كم أثار طلبه من معضلات قانونية، مكررا العبارات نفسها؛ المحامية الفاشلة الموكلة عنه والتي تجد في طلب موكلها فرصة لتحقيق مكسب للمرة الأولى وتحويلها إلى قضية أخلاقية؛ آمر السجن الفلبيني الذي يزايد في الحفاظ على القانون كأجنبي يريد أن يقول: أنا مواطن أكثر منكم. إن تكرار العبارات ذاتها (كظاهرة أسلوبية) يشبه يقظة “الدال” نفسه وتكراره في حلم أو زلة لسان، وهي الظاهرة التي أكد عليها فرويد والخاصة بعودة المكبوت.
إن النهاية المظلمة والعنيفة للرواية (كأنها تبرئ الجميع وتدينهم في الوقت نفسه)، رغم مسحتها الساخرة على مدار معظم فصولها، لا تقول لنا ما هو الغائب في هذه الفوضى المنظمة، لكنها تكشف عن “الغياب المطلق” المنتج للعنف، إن لم يكن هو نفسه معادلا للعنف.
إن المعاني الحاضرة كدوال لا تنهي قضية المعنى. فهذا الوضوح والانكشاف الكامل يعني نقيضه في الحال. فحيث يتوقف السؤال لا يتوقف المعنى، بل يولد كفجوة هائلة لا يمكن عبورها، إن ما يستيقظ ساعتها ليس اللاوعي، بل الظلام السابق على تكونه. تصبح الذوات ممثلة لهذا الظلام البدائي بينما “الواقع” هو صورة اللاوعي، آثار انطبعت برغباتها وقيمها دون مرجع.
وكما لا يمكن للظلام السابق على اللاوعي أن يحرره، كذا لا يمكن لهذه الذوات أن تحرر الواقع. فهو يبقى مثل علامة العنف الأوّلي البدئي بلا تفسير.
إن الذات تظل مكانا شاغرا وهذا في الحقيقة يتسبب في شعور بالبطلان: بطلان الكل (فالواقع غير كاف أبدا). أو يتسبب في المطالبة الدائمة التي لا تشبع.
إن البطلان والمطالبة يشكلان الثنائي المتعاقب والمحيط بتعاطي الذوات مع الواقع.
إن وضع الذوات على هذه الشاكلة يبرر هذا الانشغال الإبدالي بالواقع، فالواقع يصبح الاستعارة المستعادة دوما. الأنا فارغة من المضمون والتي لا تكشف عن نفسها إلا من خلال استعارة “المجال العام” أو الحديث باسمه، لكنها فيما وراء ذلك عدمية تماما. هنا لا تُفهم الثورة كاندفاعة للتغيير بل كمطالبة. ولكنها مطالبة مستحيلة بطبيعة الحال.
المطالبة ذاتها تتحقق في “الحب”، فهناك إعلان دائم لعدم الكفاية وفقا لقاعدة “صحيحة” أو تصور خارج عن أي سياق تاريخي. هناك تعنيف دائم للمخاطب، ومطالبة على أساس من تلك “القواعد الصحيحة للحب”، تخوين وتبخيس.
هنا تكمن الحيلة. نستخدم الآخر المخاطَب، كتجسد ناقص للدالّ نفسه في كل مرة. ما النتيجة إذن؟ أعني ما نتيجة مضاعفة الدال وتكراره اليائس؟ العدم طبعا، انفجار الدال نفسه، بطلان الكل، بما في ذلك الذات. استدعاء الخراب الشامل.

يشكل الجسد نوعا من الاستعارة (أو “الشُّرفة“) تحول الفرد إلى كيان سياسي مستقل لكن بلا موضوع، وهو من ثم يتخذ من ذاته موضوعا، وتمثل الصوابية استعارة خارجية تسمح للذات السياسية المتوهمة بفاعلية متوهمة أيضا. ويكون التكرار هو السمة المميزة في الحالين؛ تكرار وتأكيد ومضاعفة للدوال ذاتها (دالّ الجسد، أو تلك الدوال المنطبعة على المجال العام)، تكرار يختفي بالطبع داخل أحداث متنوعة وذات ثراء وهمي لكنها مختزلة في قيم ثابتة تستعاد باستمرار. في لغة مغلقة كهذه تفشل كل مرة في القبض على الغائب عنها تصبح اللغة نفسها ظاهرة عنف وضغط. يستيقظ من ورائها عري بدائي بلا غطاء، خارجا عن اللغة، أو فيما وراءها (كما يبدو على الأقل) بقدر ما لا يحقق مأربا ولا يصفي قضية. إنه عنف مثل خراب المدن في الأفلام الأميركية، حيث في آخر لقطة، وبعد عودة الأمان تماما، تطل الجرثومة ذاتها من نهر، أو بالوعة.
مع هذا، على الواحد أن يحذر من الخلاصات النظرية التي تغلق باب السرد الإنساني، فهذه الخلاصات قد تبدو علامة انتصار. وما يريده الواحد ليس أن ينتصر، بل أن يصادق ويحب ويأتنس، وأن يعيد بناء السرد الذي يحرّر من البنى الثنائية. إن ما يذهب إليه جاك لاكان من حيث الإصرار على مادية الدال وكونه المنطلق الأساسي للتحليل يمكن أن يؤخذ في الاعتبار لسبب آخر أيضا هو أن اللغة ليست مجرد المجال القبلي الذي نشأت فيه ذواتنا فحسب. وفائدة الكلام، بعيدا عن المجال العلاجي، هو أنه يتحرك إلى الأمام ليس فقط ليكشف عن البقعة المظلمة، إنه يتحرك إلى الأمام فعلا خالقا شرطا جديدا للأنا والمخاطب، ومفاجأة غير متوقعة. إن فكرة التطور خاطئة كغاية، ولكنها حقيقية كتراكم وإضافة للخبرة وانحراف عن المسار تتم ملاحقته باستمرار. وهذا ما على كل سرد أن يستبقيه، كما يحدث، أو يجب أن يحدث، في الفن.
إن مهمة سرد جديد ليست أن يقول “كانت تلك طريقة سيئة للحكي” وكأنه يدين، بل أن يعيد العبارات المستغلقة نفسها، والمثيرة لسوء التفاهم داخل سياق يجعلها تحل نفسها بنفسها. ما يتعلمه الواحد أنه ليس هناك مشكلة إنسانية تحل فعليا، بل تخلق الظروف التي تعيد موقعة المشكلة في إضاءة أوسع. إن القانون لم يمنع الجريمة أبدا، وقد يبقى العنف جزءا من التجربة البشرية. لكن ليست المشكلة هي العنف، إن العنف الحقيقي هو الاصطدام باللامعنى. هو نوع الألم الذي يجعل صراخنا مهينا ومذلّا. مع هذا فإننا لا نواجه العنف الحقيقي أبدا. حتى العنف المهين يمكن تأويله. إننا عنيفون لأننا ننتقم من غياب، ننتقم كما لو من أنفسنا، لأننا في الواقع عادة ما نشعر بمسؤولية نحاول طمسها.
نحن نشعر أحيانا بإدانة فوق احتمالنا، منحرفين عن سببها الأساسي (بقانون الإزاحة أو ما يعطيه لاكان صفة المجاز المرسل) بإحالتها إلى ذواتنا، أو إلى آخر كليّ، في نوع من التأليه.
إن قصدية الإهانة والتنكيل بالمعاني والأفكار أحيانا، السخرية الفجة والكَيْد، تعني أن ما يعمل هو الوعي، أننا نريد أن نحكم السيطرة على السرد ولو بإهانته وتدميره. نحن عنيفون ربما لأننا نسقط الآخر/المخاطب مع كونه جزءا من خطابنا نفسه. نعيد تمثيل الندم على إضاعة الآخر، باستخدام ضحايا آخرين، وأحيانا بتدمير أنفسنا.