هشام البستاني: طافيًا في الهواء، بثلث انثناءٍ في الرُّكبتين | قصة من المجموعة الأخيرة

s-l1600

19th-century print. Source: look-just.top

الجثث مُنتفخةٌ، وسترة النجاةِ ملقاةٌ بين أخرياتٍ كثيراتٍ شبيهاتٍ على الشاطئ، تذكارًا من أولئك الذين غرقوا وأولئك الذين نجوا، تومضُ ألوانها الفسفوريّة أنّهم مرّوا من هنا، ولن يتوقّفوا عن المرور أبدًا. ها هم يأتون من البعيد.

رغم أنهم انتشلوني وأودعوني غرفة معدنيّة في غابةٍ بعيدةٍ عن البحر، إلا أن رؤى الماء ظلّت تدهمني كفيضانٍ فُجائي، مطرٌ ينهمرُ مرّةً واحدةً فأغرقُ في العرق البارد قبل أن أستيقظ هَلِعًا وأهرع لأضع رأسي تحت الحنفيّة فأُحسُّ بالأمان. سأخرجُ.
أفتحُ الباب فأشاهد غرفًا معدنية أخرى متشابهةً ملقاةً بين الأشجار، تمتدُّ من بعضها حبالٌ نُشرت عليها قطعُ الغسيل. “هذه علمُنا الوطنيّ”، فكّرتُ، وأدّيتُ لها التحيّة. لم أؤلّف لها بعدُ نشيدًا مناسبًا لكنّه قطعًا سيجمعُ في كلماته بين الموتِ والرّحيل. سأذهب للتبوّل الآن.
كثرةٌ من الأولاد والبنات في الطريق، يلعبون ويضحكون. غريبٌ أمرُ الأطفال كيف يشتقّون السّعادة من البؤس. من أيّ شيء. أحسدُ لا مبالاتهم، وعدم تفكيرهم بأبعد من اللّحظة. يعرفون –يا لِلُؤمهم المدروس- أنّهم غيرُ مسؤولين عن شيء، وأنه يجب أن يوفَّر لهم كلُّ شيء، ويطمئنّون إلى هذه القاعدة الوجوديّة بشكلٍ كامل. وصلتُ.
هناكَ طابورٌ أمام الحمّامات: الرّجالُ إلى اليمين، النساءُ إلى اليسار. الشعورُ الصباحيُّ الجماعيُّ بالرّغبة الشّديدة بتفريغِ الأمعاء والمثانات يمسحُ الحرج عن اصطفافٍ من هذا النّوع، وعن الرّوائح التي ستُشَّمُّ بعد قليل، وعن بعض أصواتٍ يعرفها الجميع تتسرّب من الداخل، ويصرفونها مباشرةً على أنّها أصواتُ شيءٍ آخر. لم يبقَ سترٌ ليُهتَك، والخارجُ من الحمّامِ لا ينظرُ في عين أحد، لا يُلقي السّلام على من يعرفهم في الطّابور المتجمّع أمام الباب، يرفعُ رأسه مُتأنِّفًا ويدورُ في قوسٍ طويلٍ بعيدًا عن الجمع البشريّ المُنتظِر الذي نقص اثنين: الخارجُ والدّاخل. الثّاني يحاول أن يتناسى الرّائحة التي استقبلته، والأوّل يحاول أن يتناسى الرّائحة التي خلّفها وراءه، والاثنان يحاولان نسيان البديهة المتعلّقة بحتميّة عودتهما غدًا إلى المكان ذاته، الموقف ذاته، الرّائحة ذاتها. جاءَ دوري.
في الدّاخل، سأتجاهل المنظر، وأتغاضى عن الرّائحة، وأركّز تفكيري في موضوع أكثر تحديدًا وأهميّة: ماذا ستكون انطباعات الذي سيدخل بعدي عنّي؟ أقلّب الموضوع في رأسي مليًّا، موضوعٌ يعيدُ إنتاجي في الموقع ذاته الذي غادرهُ الآخرون، فيعينني ذلك على التّقليل من شأن تذمّري وقرفي. أحاول التغوّط طافيًا في الهواء فوق مقعد الحمام بثلث انثناءٍ في الرُّكبتين: هذا حمّامٌ افرنجيّ لا يتيح انثناءً كاملًا مريحًا دون تلامس مثل ابن عمّه العربيّ. كثيرون مثلي يفضّلون هذه الوضعيّة الهوائيّة مخافة ملامسة الأوساخ، فإذا كان بعضٌ من هؤلاء مسهولًا (وما أكثر الإسهالات في هذا الجوّ البارد الذي يُقارع ملابس خفيفة، ومدافئ معدومة، ومعدات رخوة) فسينفلش الخراء في طريق نزوله ليصير الخوفُ المذكورُ مبرّرًا وضروريًّا. هكذا يتراكم الوسخُ بعضه فوق بعضٍ ويتكاثر تحتنا على شكل مادّة بنيّة لزجةٍ تختلف شدّةُ درجة لونها وكثافتها دون رابطٍ واضحٍ بين الاثنين. أحدهم يقرع الباب.
يبدو أنني أطلت المكوث مُتأمّلًا أفكاري دون أن يخرج من جوفي أيّ شيء. رُكَبي تؤلمني وشدٌّ في عضلات أسفل فخذيّ وساقيّ، وستنالُني شتيمةٌ على رائحةٍ لم أُساهم فيها. لا ضير.
أفتح الباب وأخرجُ ناظرًا –كمن سبقوني- في البعيد، متظاهرًا أنْ لا أحد في المحيط، وأدور الدّورة الكاملة حول البيوت الصفيحيّة التي رُكّبت على عجلٍ كأنّني كنتُ في نزهةٍ في الغابة عدتُ منها للتوّ إلى غرفتي وأنا أُصفّر أو أغنّي بصوت خفيض. أظلّ في الدّاخل ساعةً أو ساعتين لا أخرجُ، لأنسى، وينسوا، وقفة الطّابور، ومنظري داخلًا إلى الحمّام، وخارجًا منه. أريدهم أن يتذكّروني فقط على شكل إنسانٍ معقّم: لا تصدر عنه روائح ولا أوساخ، لا يعرقُ لا يتبوّلُ لا يتغوّطُ. وبهذا التصوّر قابلتُ ضابط الهجرة المكلّف بملفّي.
رغم ابتسامته المُطَمْئِنة، إلا أن اشمئزازًا عميقًا رفض إلّا أن يُعلن عن نفسه بحركةٍ خفيفةٍ من عينه اليُسرى. وبشكلٍ لا إراديّ تقريبًا، دار رأسي إلى اليمين وانخفض قليلًا ليقترب أنفي من إبطي ويتشمّمه. “بالتّأكيد ليست الرّائحة”، قلت في نفسي، ونظرتُ إليه.
لمَ غادرتَ؟ سألني بحضور المُترجم، فقلتُ لهُ إن البلاد حرب والموتُ في الهواء منثورٌ كالغبار، وأنا خائفٌ على نفسي.
لِمَ لَمْ تُقاتل؟ سألني بحضور المُترجم، فقلتُ لهُ إن أحدًا من المتقاتلين لم يُقنعني، وإن رأسي هذا الذي أنا خائفٌ عليه لا يركبُ بسهولةٍ على أجساد الآخرين.
هل لكَ أيُّ انتماءٍ سياسيٍّ؟ سألني بحضور المُترجم، فقلتُ له إن السّياسة في بلادنا كانت تنزل من الحنفيّات، وتُضاف إلى عجين الخبز كالفيتامينات، وإن كنّا لا نعرف –كالفيتامينات- أنّنا بلعناها وأنّها تؤثّر فينا.
سألني بحضور المُترجم، وأجبتُ، ومع كلّ إجابةٍ كانت الأنشوطة تضيق، وبيوتُ الصّفيح تتفكّك وتقلّ، وأفراد شرطة مكافحة الشّغب يتكاثرون إذ يدقّون هراواتهم بدروعٍ بلاستيكية تحمل أحرفًا: Rendőrség. حتّى هنا.
مع كلّ إجابةٍ كانت قنبلة غازٍ مسيلٍ للدموع تجرُّ ذيلها الدخانيّ وتسقط وسط الهاربين.
مع كلّ إجابةٍ كانت الأغذيةُ تُلقى على المتجمهرين حول سيّارة النقل. عرضٌ مجانيٌّ للسّيرك. والكاميرات تصوّر. والمذيعة تقولُ (على الهواء مباشرةً): “هذا مصير من اختار الفوضى لبلاده”.
أنا اخترتُ الفوضى يا سيادة الضّابط، والفوضى بحرٌ مفتوحٌ، شطآنه مِلكٌ لمن يَصِل. أنا وصلتُ بعدكم على قارب مطّاطيّ، خلف سفن العبيد والذّهب والقطن والمطّاط، خلف سفنٍ حملت المِسَلّات وواجهات القصور الحجريّة والتّماثيل، خلف سفن الطائرات والصّواريخ والجنود، وتريدون قذفي ثانية في الماء؟
مستر جواد؟ أما زلت معنا؟ نبّهني المترجم، فانتفضت.
آسف، آسف، قلتُ، كثيرًا ما أسرح بأفكاري بعيدًا، وتزورني كوابيس ليليّة عن الماء. هل تزوركَ الكوابيس يا سيادة الضّابط؟
مُغْفلين دور المترجم، فقد دار بعدها الحوار القصير التّالي:
ليس هذا موضوعنا مستر جواد، قال.
نعم، ليس موضوعكم. ليس موضوعكم بكلّ تأكيد، قلت.
طلبكَ يحتاج المزيد من البحث والإجراءات، قال.
كم من الوقت؟ سألت.
لا أعرف بالتّحديد، قال.
أسابيع؟ أشهر؟ سألت.
لا أعرف بالتّحديد. يحتاج المزيد من البحث والإجراءات. سيتمّ إعلامك عند الوصول لقرار، قال.
لكن…
لا أستطيع أن أفيدكَ بأكثر من هذا، قاطَعَني.
وخرجت.
كان طابورٌ طويلٌ يقف في الخارج، لكنّي – كمن سبقوني – نظرتُ إلى البعيد، وسرتُ بقوسٍ طويلٍ حول البيوت كأنّني عائدٌ للتوّ من نزهةٍ في الغابة، إلى أن وصلتُ غرفتي. رائحةٌ نتنةٌ علقت بمنخريّ، وقبل أن ألقي بنفسي على السّرير في محاولة للانسحاب المؤقّت من العالم، خلعتُ ملابسي بسرعةٍ وكوّرتها داخل كيس بلاستيكيّ (سأغسلها صباحًا)، ثمّ عجّلتُ بالاستحمام. لم يكن من الممكن أن أظلّ واقفًا في مكتب ضابط الهجرة. أَمّا أن أظلّ طافيًا في الهواء فوق الكرسيّ بثلث انثناءٍ في الرُّكبتين فأمرٌ غير واردٍ وسيثير الكثير من الشّكوك.
كان لا بدّ لي من الجلوس على الخراء.

سأحاول أن أنام، متوقّعًا الحلم ذاته: الجثث مُنتفخةٌ، وسترة النّجاةِ ملقاةٌ بين أخرياتٍ كثيراتٍ شبيهاتٍ على الشاطئ، تذكارًا من أولئك الذين غرقوا وأولئك الذين نجوا، تومضُ ألوانها الفسفوريّة أنّهم مرّوا من هنا، ولن يتوقّفوا عن المرور أبدًا. ها هم يأتون من البعيد.

.

هذه القصّة من كتاب “شهيقٌ طويلٌ قبل أن ينتهي كلُّ شيء” الصادر هذا العام عن دار الكتبخان. لهشام البستاني “الحب والموت” (٢٠٠٨)، “الفوضى الرتيبة للوجود” (٢٠١٠)، “أرى المعنى” (٢٠١٢)، و“مقدّمات لا بدّ منها لفناءٍ مؤجل” (٢٠١٤). حاز البستاني على جائزة جامعة آركنسو عن “أرى المعنى” الذي صدر بالإنجليزية سنة ٢٠١٥. وهو محرّر الأدب العربيّ لـ“ذي كومون”، المجلّة الأدبيّة لجامعة آمهيرست، ومحرّر الأدب العربي لمجّلة “شرفة” (“بلكون”) العربيّة التركيّة. حاز عام ٢٠١٧ على جائزة الإقامة الأدبيّة في مركز بيلّاجيو التّابع لمؤسسة روكفلر في إيطاليا.

SaveSave

SaveSave

SaveSave