دينا ربيع: الشيطان الذي أحبّه

SpinolaDeath

Deathbed Scene and Office of the Dead in the Spinola Hours, about 1510–20, Master of James IV of Scotland. Source: blogs.getty.edu

يصدر الصوت عن الصندوق صافيا رغم الخسشخشة، قريبا مهيبا كأن الميت قد بُعث منتصبا بين أذنيّ، يقول قائل: “آه، دا وصَل.” ويقول آخر: “يابا هي جلابية واحدة اللي حيلتي، أهي.” ثم في حركة درامية يشقها إلى نصفين.
يأخذهم الرجل بحنان البدايات، يبدو الناس مهيئين من قبل أن يقول الرجل شيئا، ظنّهم الظانّ مدفوعين بحسنة، أو روبوتات مسجلة أصواتها مسبقا كأصوات الضحك في “سِتْكُم” لولا أنْ قال الرجل ثلاثة أحرف، لا كالحروف. “ماحدش قال كدا أبدا”.
يميل بين نغمة من هنا ونغمة من هناك، ثم يخلُد إلى نغمته الأثيرة، يعاود الميل عنها إليها. أصاب سهم الله واحدا من الجالسين، لا يقول سوى “طيب” من أول الجلسة إلى آخرها، يتوعّد الرجل الطيب الذي يأتي على طلبات الجميع، أو يزيح شياطين في رأسه، لا يسمعهم سواه. كخمر معتقة يشمّها قبل أن يرتشفها ليملأ حواسه بحدتها فلا يذهله السكر عن ملذاتها؛ لا يصدّع عنها ولا ينزف، يقترب على حذر من مجلس الرجل. يركب الأمل ويخوض التجربة على أية حال. يشمّ خديه، وشعره، وعطر العود العفاريتي الفائح من جبينه، كأن أمّه تبخره بكرة وعشيا خشية عليه من الحسد، وعلى مثله يُخشى.
حين يعرّج الرجل على جوابه، يأتي الصوت دقيقا مكتنزا، أراه منتفخ الودَجين، نافرهما: “يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا.” يقول قائل: “الله أكبر يا كوكب.” وينهره آخر: “حرام عليك بقى يا أخي.”
تراودني أسئلة شتى. هل يقول لهم الرجل إذ يقول “وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى”؟ فيصير مجلسه سلوى في المحن وطربا عندانعقاد الأمور، وقوله عملا أخلاقيا يوحّد البشر على المحبة ويقبل المنبوذين ويحنو عليهم، أم أنه يصدّر هذا الشعار لجمهور المكسورين بغرض أكل العيش، وهل يتنافى الغرضان، هل أكل العيش على قفا هذا الشعار النبيل أمر دنيء؟ هل هؤلاء المغرمون على وعي بما يفعله الرجل، وما يتطلبه الأمر من دربة وحسن صنعة وفرادة واتّقاد؟ هل ينبت لهم المران قرون استشعار تلتقط نقلات الرجل بين الجنات، أم هو جلال الكتاب وما لآياته من منزلة تاريخية مخوّفة؟ هل يدركون لو خسّ الصوت قليلا، ويتفقون اتفاقا سريا فيما وقر بينهم على تجاهل ذلك، لا تخس آهاتهم منه شيئا لكيلا يفوتَهم من شهد النغم شيء فتذهب أنفسهم عليه حسرات. يجدون ريح الطيب في نغم الرجل الحاذق، لا يعرفون سببا أو منطقا يدركه المسئول إذا سُئِل غير أنه يعرفه في قلبه؛ يعتنق اليقين لئلا تأكل الوحدة لحم ذراعه، فيتنبّى.
يدخل داخل جاد في دردشة مطولة مع الرجل، يحكي والرجل يسمع ثم يجود بجوده ثم يعود إلى حكاية الداخل المملة وكأن له قلبين في جوفه، تعجبه نغمة فيعيدها ويسري من أرضه إليها ثم يعرج منها إلى سبعة أفرع، يحلّفه من صار العذاب له غراما بحياة محمود وحياة النبي وحياة الحسين أن يعيدها، فيعيدها ويطيل حتى ينقلب نغمه نارا كلما نضج قلب السائل بدّلوه قلبا غيره ليذوق العذاب؛ العذاب الذي يبكي عيونهم، ويسرّع نبض قلوبهم، ويوجع حشاهم، لكنهم يحبونه. أية بلابل مصّ روحها في ليلة القدر منحته صوته الهادئ كمطلع الفجر؟ استرجع السائل نغمه مرة ثالثة، تنزّل الملائكة والروح.
ألمحُ شابا يعنف كيسا بلاستيكيا من طول ضجره بحبس ربه له في الصفد الحديد، يعيد كل نغمة يخلقها الرجل ويتأملها بينه وبين نفسه كأن جمالها يزعجه، فإذا صوته إذ يعيدها مسموع بين الجلّاس. وآخر قد أشفاه قول الرجل من خبَل الغرام ومن جوى بُرَحائه؛ يقول الرجل إذ يقول فيخلق من الطين فينفخ فيه فيكون، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى.
أواعده ثلاثين ليلة، لا تكفيني فيه حاسة واحدة، أسمع وأرى، أقول: “أرني أنظر إليك.” يقول من يفسد عليّ النغم الذي أحبّه: “حرّم عليك النغم،” أقول؛ حرّمه أناسٌ لا يحسنونه.
أشاهد بيده المباركة سيكارة يسحب منها أنفاسا سفيفة كمثل جسده النحيل كأنها لن تضرّه إذا هو لم يسرف. أتأمله. يصير غناه أحلى ولعبه بالنغم أطلى. صوت الرجل يثير فيّ حنينا غريبا لشيء لم أخبره، أسلّم له أمري، أصوره كأب، أحبه صوتا كامل الفحولة، كهلا بشنبات، حنونا. لوقع يده المعروقة على جلد الواهنين أثر الشفاء، صوت لا أودّ أن أقبّله على شفتين من كرز، لكن أنحني على ركبتيّ وأقول: يا سيد إن كنت تريد فأنت قادر أن تطهرني.
يمسّ روحي ولا يرحل حين يعنّ لي أن أريح رأسي على كتفين من لحم وعظم. يبقى، ويربت، فأستجيب لكل تحكماته وتعاليمه الأبوية غير راغمة، راجية الشفاء، فأشفى.

SaveSave

SaveSave