
Alessandra Sanguinetti, from “Sweet Expectations”, Brooklyn, 1992. Source: magnumphotos.com
الشياطين
..
في السنة الأولى من المرحلة الجامعية عرض عليّ زميل موهوب، طويت حياته بسرعة عجيبة، أن أشارك مع فريق في عرض مسرحي. أُسند إليّ دور المحقق. هكذا كنت معظم الوقت أجلس إلى مكتب في مواجهة الجمهور المفترض، وكان هذا لطيفا. بدأت المشكلة فعليا، التي أدت إلى اعتذاري فيما بعد، في المشاهد التي كان عليّ فيها أن أغادر موقعي، قامتي كلها مكشوفة، وهنا وجدت صعوبة غير عادية: ماذا عليّ أصنع بهذا الجسد كله؟ لقد بدا مفصولا عني، وكأني أراه بعين متربصة من آخر الصالة، وتحت نظرة هذه العين كانت ذراعاي عاجزتين عن الحركة، ثقيلتين كأنهما من خشب. أما تعابير وجهي وقسماتي فكانت فضيحة كاملة. قلة خبرتي جعلتني أتفهم الأمر على أنه نوع من الخجل الطبيعي، أو أنني ببساطة فاشل في التمثيل، مع أن هذا لم يكن حقيقيا.
استعدت هذه الذكرى بعد سنوات حين قرأت رواية “الشياطين” لدوستويفسكي، كانت إحدى شخصيات الرواية (الكابتن ليبيادكين) قد اندفعت إلى حجرة استقبال منزل لتصنع فضيحة ما: شخص يسعى إلى نوع رخيص من الابتزاز، يقدِّر بشكل مسبق الصاعقة التي ستهبط على رؤوس أهل المنزل، رعبهم من العار. كانت صدمته في الإشارة الهادئة المقتضبة التي سيطرت بها سيدة البيت (فرفارا بتروفنا) على الموقف. هبط بجسمه الثقيل في مقعد، وكان ما يحيره: كيف، وفي أي اتجاه، يحرك يديه؟ كان مثلي تماما في موقفه هذا. انفصلت ذراعاه عن جسده، بل عن إرادته، وأصبحتا على مسافة كأنهما ليستا له. كل حركة سيأتيها كانت ستعني شيئا ما، لم يعد واثقا منه، لم يعد موقنا بكونه “التعبير الصحيح”.
ثمة خطأ هنا، أو لنقل مصادرة، هي نفسها التي توحي لآخرين خطأ بأن للجسد لغة. حقيقة ما حدث معي – وكذلك ليبيادكين – أنه نوع من التشيؤ وفقدان المعنى. ليس لأن جسدي بلا خبرة، بل لأنني لم أحسن تمثل الموقف برمته، لم أصنع مجالا لذات، ببساطة لم أكن “مُحقّقا”. كنت أقرأ كلمات بتلوين صوتي فقط كمن يقرأ في جريدة. لقد تعطل جسدي كشهادة على ذات مخفقة في اكتشاف دورها، ومجالها الحي.
هناك من يتكلم عن الجسد الآن وكأنه اكتشاف. كأننا نستعيده من مارد كذاك الذي كان يسجن ضحاياه في كهف غائر، على أبوابه حراس كلبيون. لكن هؤلاء الحراس ليسوا فقط المنادين بالفضيلة، هم أيضا: الوعي، اللغة، مؤسسات المجتمع، السلطة، وكل المجال الحيوي ببساطة الذي يتولد المعنى من حوارنا معه. وهذا المجال الحيوي هو مجال إنساني بالتحديد، أي خاضع كليا للشرط الإنساني باعتبار الإنسان ذاتا منتجة للمعنى عبر علاقة، بل والأهم ذات لا تتعرف إلى نفسها إلا من خلال معنى يتولد في علاقة.
أثناء عرض مسرح حركي “تشرفتُ” بحضوره، ووسط جمهور من الطبقة المتوسطة الجديدة، تلك التي تقول “ووو” بدلا من “الله”، لم يكن سوى ديالوج بدائي يشير إلى جسد امرأة يعاني ثم يتحرر بطريقة بدت لي غاية في الابتذال. تخيلت يومذاك مصممي العرض في مؤتمر صحفي. يتكلمون بعبارات مبتورة تقطعها دائما كلمة (أكيد)، وبنوع من التأتأة المتعمدة كأنما ليُشهدوك كيف أن الكلمات ملوثة بالإرادة الواعية وصوت المؤسسة الاجتماعية، وأنها من ثم تعيد إنتاج السلطة، بينما التعبير العميق والطلق والحر هو تعبير الجسد. وتذكرت قول كلود ليفي شتراوس في حوار إن الفيزيائيين والكيميائيين سيقولون الكلمة الأخيرة عن الإنسان فبتعديل بسيط أكثر دقة ”سيعبر الجسد عن نفسه في النهاية من خلال الفيزياء والكيمياء“. لكن أية غنوصية هذه التي في سعيها إلى التأكيد على الجسد تنتهي إلى طرده نهائيا لينحل في معادلة مسبقة لا تلبث أن تتحول إلى هباء.
(العرض يقول كل شيء): أنا لست معنيا بتحليل هذا اللون من الأداء المسرحي، بل بالمصادرة الكامنة فيه، وبموقعها التاريخي من مجتمع قد يفتقر إلى القدرة على الكلام، أي كلام. طبعا يتواطأ جمهور الووو على ”مسكوت عنه“ آخر، وهو أن واضعي العرض فكروا فيه من خلال كلمات، أنه دائر في فلك أيديولوجيا سائدة، والتعبير الذي رأيناه على المسرح لم يكن ”لغة الجسد“ كما لو أن بإمكاننا أن نقطع رأسي العارضين، ويظل جسداهما مستمرين في الأداء، بصورة أكثر حرية وطلاقة.
أرى صلة بين هذه المعضلة وإحدى الأفكار المكونة لمفهوم الديمقراطية المعاصر، وهي التي تتلخص في أنه ”من حقي أن أعبر“ ومن ثم تعطي الموضوع بعدا سياسيا. لكن ”من حقي أن أعبر“ هذه رد على سؤال خاطئ. فليست قضية الجسد، ولا حتى اللسان، هو فقط أن يعبر، فمن وراء التعبير ثمة رغبة تسعى إلى الإشباع، رغبة مورِّطة، لأن موضوعوها الأعمق هو الطرف المقابل، “الآخر” الذي بالمنطق نفسه علينا أن نقر له بالحق في التعبير. الآخر المطروحة رغبتنا فيه أو عنه، ليس ”جنسيا“ فقط ولكن عبر مجمل أشكال الفاعلية الإنسانية في علاقة أي واحد بمحيطه من الآخرين.
لكننا حين نتخيل أي موقف بين جسدين يعبران فسوف تجبرنا نظرية التعبير هذه على رسم حدود لقائهما بشكل لا يتيح لهما أي تفاعل أو تلاق. إن حدود لقائهما هي رقصة جمالية تدور في دائرتين منفصلتين. والحقيقة أنه ما دام الأمر كذلك فالشكل الأفضل للتفاعل عمليا هو الكتابة، حيث تكون الأجساد منفصلة فعلا. لن أتحدث الآن عن الالتباس والتزييف في ”كتابة الجسد“، بل سأقفز مباشرة إلى حيث تكون مواقع التواصل، مثلا، هي الفرصة المثلى لهذا الاستعراض. حيث يمكن أن تكون أجسادنا الشبحية حاضرة في الصور والكلمات، لكن محمية تماما من أي تورط.
إن ما يحدث هو قمع للجسد بطريقة لم يسبق لها مثيل: تشييء له من حيث تسبغ عليه صفة الإطلاق. إن ”علينا أن نبتهج بأجسادنا“ هي العبارة التي تجعل من أجسادنا موضوعا، وهو في الواقع موضوع مثير للحزن. لم يعد الجسد، فقط، معادلا لـ”حقيقة“ تعبر عن نفسها بطريقة فضائحية (ضد السلطة، ضد المجتمع، ضد تراث اللغة…) الجسد ابتلع الذات، فبدا على هيئة حصن. وهذا ما يجعله مستنفرا ومتحفزا في وجه أي احتمال ملامسة.
.
حالة الاستثناء
.
مثلما هو مصطلح ”الحرب على الإرهاب“ كذا يبدو تعبير ”التحرش“، كلاهما يشير إلى واقعة حقيقية وكلاهما يحرف الموضوع عن مساره. بينما تسعى المصطلحات إلى تأطير نفسها بوضع قانوني، فإن غموضها إما أن يعطل الفكرة القانونية ذاتها ويجعلها مستحيلة، أو يوسع من مداها بحيث يبدو القانون مجرد استعارة أخلاقية ممطوطة تخفي الغاية والهدف.
يبدو ”التحرش“ في أحد معانيه المحتملة مجرد محاولة ”تقرب جسدي“ غير مرغوب فيه، لكنه في الواقع كثيرا ما يمتد إلى حدود الإهانة المتعمدة. ومع ذلك، أعتقد أن ما يتضمنه التحرش من إهانة هو كونه يطيع فرضية الجسد آنفة الذكر: يتعاطى مع جسد الآخر باعتباره موضوعا. ذلك أن فكرة ”الجسد المعبر عن ذاته“ تتجاهل سؤال التفاعل الذي بدونه لا يمكن أن يكون هناك تعبير ومن ثم تجعل الرغبة المتضمنة غامضة وعمياء، غير قابلة للتفسير ولا للتفاوض. تترك للجسد فقط احتمالا من اثنين – إما النرجسية وإما العنف – وكلاهما في الحقيقة هو الشيء نفسه.
هذا وحده يفسر استدعاء القانون: التعاقد الرسمي. يربط جيجك بين ما يسميه ”الغموض الأيديولوجي“ المحيط بمصطلح ”التحرش“ وبين تعاقد السوق: ”والتحرش هو كلمة أخرى من هذه الكلمات التي برغم ما يبدو من أنها تشير لحقيقة معرفة بوضوح، فهي تتوظف بطريقة غامضة جدا وتؤدي إلى غموض أيديولوجي، ما هو المنطق الداخلي للخطاب العادي المتعلق بالتحرش الجنس؟ الإغواء اللاسيمتري ذاته ـ عدم التوازن بين الرغبة وموضوعها ـ قد رفض. في كل مرحلة من العلاقة الإيروتيكية يبدو التبادل العقدي مع الاتفاق المشترك هو فقط المسموح له. بهذه الطريقة فالعلاقة الجنسية يتم نزع جنسانيتها، وتصبح صفقة بطريقة تبادل السوق للمكافئات…”
هناك شيء مبتذل ورخيص في تنامي دعاوى التحرش، في اتخاذها طابعا فضائحيا واحتفاليا كما حدث في حفل الـ”جولدن جلوب” مثلا. فالصفة المعاصرة للكينونة هي: أنت ضد ماذا؟ وكذا بالنسبة للجسد: هو في مواجهة من؟ إن الافتراض السائد هو أن الوسط المحيط بك عدائي ومتطلب. عليك أن تنتبه لرغباتك أنت، ولكن كيف تفصح هذه الرغبات عن نفسها في هذا الإطار التنافسي إلا من خلال القانون؟ هكذا يسقط الجسد فيما رفضه بالذات. في مشروع القانون الذي جرى الحديث عنه في السويد مؤخرا ثمة فقرات تتعلق بـ“لعق القضيب”. لنفرض إذا أن اتفاقا من هذا النوع جرى بالفعل فهل ينص مثلا على أن تكون العانة حليقة أو مشعرة؟ أن يكون القذف في الفم أو على الصدر؟
في الأدبيات، دائما ما اعتبر الحب، العلاقة الحميمة – مثلها مثل الفن، الثورة – خارج نطاق القانون. وهو موضوع جدل لدى النخبة بالذات، لكن يبدو أن السؤال يقتصر على كتابة الحب لا ممارسته. ففي كتابه “حالة الاستثناء” يجادل الإيطالي جورجو أجامبن، وإن في معرض مغاير، عن كون ما يسمى في القانون بـ“حالة الاستثناء” لتبرير العنف التأسيسي لسلطة الدولة، ليس من القانون في شيء، مبرهنا على الهوة بين القانون والواقع. يكتب أجامبن “إن إظهار القانون في صورته التي ليس لها علاقة بالحياة، والحياة في صورتها التي ليس لها علاقة بالقانون يعني فتح فضاء بينهما للفعل الإنساني الذي كان يُطالب يوما بأن يحمل اسم (سياسة).” وهذا مهم للغاية ليس على المستوى السياسي فحسب…
مناظرة أجامبن تنطلق من واقع ما بعد ١١ سبتمبر، وظهور حالات فاضحة من تعطيل الدولة للقانون تحت مزاعم ”الحرب على الإرهاب“. يرفض أجامبن حالة الاستثناء، باعتبارها احتيالا على تقنين ما هو خارج القانون، ولا يمكن أن يجد مرجعه فيه، مقتربا من ما يسميه فالتر بيامين بالعنف النقي. هنا أيضا مسألة أخرى: أليس غريبا أنه في الوقت نفسه الذي تتحرر فيه الدولة، فعليا، من القانون ملتجأة إلى ”الاستثناء“، أي إلى الاحتيال على التقنين الأصلي للسلطة، أن تسعى النخب الأكثر تحررية إلى استدعاء القانون؟ تعود النخب إلى الأعراف القانونية متجاهلة التغير التاريخي. ولهذا تتخذ ثورتها شكل المطالبة لا الفعل.
أليست مفارقة أنه بينما يستدعي الإنسان القانون في أكثر علاقاته حميمية، يتقبل كافة الاجراءات الاستثنائية للدولة، أو يقف أمامها كأنه لا يفهم أن النفي الأخلاقي والقانوني للعنف نهائيا هو ما يفتح باب العنف المنفلت تماما بلا أي غطاء. وهو ما نشهده فعليا في عملية تمثيل، غير مسبوق، بالجثث وعودة للعبودية بمعناها الحرفي، ناهيك عن عنف الدولة الخارج عن أي توصيف إنساني؟ في المجتمعات العربية، بالتحديد، لم تعد الدولة القومية تمثل المجتمع الذي انفتح واجدا ملاذه في إعادة تكوين الأطر الاجتماعية وفق أشكال ثقافية بدائية من الدين إلى العرق إلى الذكورية. وعلى المستوى الفردي تعمل سياسة ”امتلاك الجسد“ على مزيد من التفكيك.
ما يروَّج له فعليا، في هذا الإطار، هو سياسة؛ سياسة الفرد حيال جسده، سياسة شخصية تستعيد المفاهيم السياسية في حدود مرجعها الدولتي لتعيد بناءها داخل الفرد كدولة مستقلة. كانت السياسة المولودة في كنف ”الدولة“ مبنية على السلام الداخلي والتحفظ تجاه الخارج. كل ألعاب المواربة والدعاية وحتى حدود العنف التي كانت تمارسها الدولة في سياستها الخارجية يستدعيها الأفراد الآن، أي: كيف تجسد مصلحة الأمان الداخلي من خلال التحفظ تجاه الخارج؟ كيف تكون جسدا قوميا؟
.
حكمة الحب
.
يسأل الواحد نفسه كيف تتشكل الرغبة في غياب موضوعها؟ هذا السؤال لا يمكن طرحه حين يُعتَبر الجسد ”مرجعَ“ الرغبة، إنها تكتسب منه غموضه وظلامه. الجسد آمر، وكل كلمة أو عبارة لا يمكن أن تفصح عن فحواه. لهذا أجده غريبا أن يقال إن ثمة أدب ”يحتفي“ بالجسد أو يرد إليه اعتباره. ففي هذا الزعم قناعة ليست ساذجة فحسب بل مناقضة لأساسها. لأنه بالمنطق الذي تصبح به اللغة فضلة إنسانية زائفة – خطابا، تأسيسا لرقابة اجتماعية من خلال قواعد الكلام، المهم: شيئا يستحسن إزالته أو على الأقل إهانته – فإن مرور الجسد، من خلال الأدب، يصبح خرافة لا معنى لها. لكنه في واقع الأمر يكشف الجانب غير المرئي من معركة مزعومة مع المجتمع مرة والسلطة أخرى، وهو أن المطلوب إفقار شرعيتهما فحسب، والاستحواذ على مجالات التعبير دون أن يكون ثمة ما يعبَّر عنه، بحيث يصبح الحماس لـ”كتابة الجسد” في حقيقته تعبيرا عن انقطاع الجسد في مجال الواقع عن أي اتصال أو تعبير.
يبدو لي أن الكتاب الذين يناهضون التحرش، دون أن يمتلكوا فكرة عن الحب أو الاتصال قادرة على تجاوز العنف ذاته، لديهم شعور عميق بالدونية تجاه الرغبة وما يمكن أن ينطوي عليه الفعل الجنسي من ظواهر. يتأففون من عنف المتحرشين “الشوارعية” بينما يحتفون بأغان “شعبية” تتغزل وكأنها تتوعد، ولا يعادون ما يعادونه من تجليات السلطة في المجتمع – تحفظ الطبقة المتوسطة وما فيه من قمع للجسد – إلا بقدر ما يعينهم ذلك العداء على إخفاء القاسم المشترك بينهم وبين ما يدعون مواجهته: العنف.
تتطوح السكاكين والسنج في رقصات الأعراس الشعبية: حركات يختلط فيها التوله بالقتل. ثمة شيء حزين جدا في هذا الفرح، لا أعرف كيف لا ينتبهون إليه، حزين ومعذب. ولا يمكن أن يكون داعيا للحسد. ما تعد به الحفاوة المزدوجة بالجسد سواء أكان مرجعا أو خط مواجهة هو الحرمان. وهو حرمان ليس من قبيل التسامي، لذا لا يخلف إلا طفولة شائخة.
اعتبر الكتاب منذ التسعينيات أن أي فكرة قابلة للحياة هي بالضرورة خدعة. فالنصوص مثلها مثل كل شيء زائلة وعابرة. لقد اعتبر التأمل النظري شيئا مثيرا للسخرية، كأنه تصديق ما لا يجب أن يصدق، جدية في موضع الهزل. كلمة ”تنظير“ كانت تختزل كل فكرة منظمة وتهينها في الوقت نفسه. لقد كان على اللغة، ولو قسرا، أن تجاري الجسد الفاني. وكم كان في ذلك تسييسا يمارسه القائلون بتجاوز السياسة!
انفجر هذا التسييس أثناء الثورة لكن بطريقة ملتبسة، أو بالأصح تكشف التباس كان متضمنا من قبل. اعتبرت أفعال البطولة الثورية متعلقة بالجسد أكثر من أي شيء. وهنا ظهر الجسد كميتافيزيقا ثورية. أنت ثوري بقدر ما تعرضت لأذى جسدي بالتحديد، وليس من حقك الكلام ما لم تكن ”هناك“. لكن إذا لم يكن المطلوب هو التغيير الفعلي، بشروطه التي تتجاوز التضحية الجسدية بكل تأكيد – بل لا ينبغي أن تكون التضحية على جدوله ولكن إحدى وسائله – فماذا يبقى سوى التضحية بالجسد كفعل جمالي؟ هذا على أفضل تفسير. لكن يبدو لي أن التضحية لم تكن جمالا إلا بقدر ما اعتبر”الجمال“ فكرة مضادة للحقيقة. ويمكننا هنا أن نسمي الحقيقة باسم ”السلطة“ أيضا. الجمال هنا ليس رقصة استسلام لقانون الحياة المحايث لأشكالها (كما لو كنا نستحضر دولوز مثلا) بل رقصة للكيد والنكاية، بمعنى أنها تحافظ على ثنائية الجسد والمعنى، الجمال والحقيقة، الحرية والسلطة، وتتعيش من هذه الثنائية ومن استمرارها. لكن ألا يمكن أن يتحقق ”الجمال“ نفسه، لو كان الجمال هو المطلب فعلا، في فعل الحب؟ لماذا يختار فقط ”اللحظات الكبرى“ – ولماذا العنف والموت – ما دام عابرا إلى هذا الحد، لماذا يختار المسرح الكبير؟
تنحسر الثورة فينكشف عري الأجساد من المعنى والقيمة. وتظهر على منصات مواقع التواصل ملولة متحفزة. كما لو أنها أهينت بطريقة ما. تلتصق الأجساد بنفسها في فعل امتلاك، وسياسة مصغرة. الجسد الذي صعق بعصا كهربائية، والذي اكتشف نفسه عبر العنف والإهانة، لا يريد أن تريح رأسك على كتفه، لا يحتمل العلاقة البينية. إنه جسد يحن إلى أب غائب، ولهذا هو عاجز عن الحب. الثورة ”كمسرح“ كانت هذا الأب نفسه، أو بالأدق كانت فرصة لندائه واستدعائه: انظرْ ماذا فعلتُ!
في التفاتة إلى ليفيناس، الفيلسوف الفرنسي، يستعيد آلان فنكييلكرو في كتابه ”حكمة الحب“ دلالة الوجه الإنساني. لماذا الوجه؟ لأنه نقطة تقاطع الجسد بالمعنى، ونقطة النداء الموجه إليك من آخر، إنه حضور الآخر كمسؤولية. يكتب فنكييلكرو عن ما يحدث لدى أنصار العري الناطق، أنصار الجسد الذين يتصورون أن بإمكانهم التطابق معه: ”الفرد غارق في الكتلة، والوجه يكف عن الانفصال عن بقية الجسد، الشكل البشري يصبح مرصوصا ويتقدم دفعة واحدة.. وحتى أكثر من ذلك: فإن الجسد هو الذي يغزو الوجه… الكتلة جسد جماعي يبتلع الخصوصيات، والجسد كتلة عضوية تأكل الوجه“. ما يقوله فنكييلكرو يحدث فعلا. الجسد يزحف على الوجه بليله. وعزلته تمسح من الوجه كل التعابير الممكنة الدالة على ما هو خاص، كل ما هو دعوة أو سؤال، كل ما هو آني وعفوي ومغامر. الأهم: كل ما له معنى.
.
لقاء
.
المتمردون وأعداؤهم يفعلون الشيء نفسه وإن بطرق مختلفة. ”الأب الغائب“، الاستعراض الكبير الذي قوِّض، لا يجعل من الأجساد أخوة من حيث هي أبناء لذلك الأب. إنه يجعلها تتظاهر جميعا بحضوره فيها، بالاستغناء والإغواء في الوقت ذاته. تصبح الأجساد بلا تاريخ، يتجدد شباب الأب الشائخ كأن ثورة لم تقم عليه، ويتبني الأبناء المتمردون قضايا العنف والانتهاك دون انتباه إلى ما يجمع بينهما: اقتصاد الجسد. ومثلما كانت المطالب الثورية عدالة اجتماعية، أي توزيع معقول للملكية، فهنا أيضا تكون مطالبة بحد أدنى من احترام ملكية الجسد. لكن كما فشلت المطالبة الأولى تفشل الثانية وتستعاد فجأة فكرة بدائية ما أو ممارسة، ممارسة لا تفعل إلا أن تدمر بوحشية.
أمام وجه ميت، ماذا هناك سوى العنف؟ التعامل المهين مع جسد الآخر ليس إلا لأنه صار جسدا فحسب. والذين ينقضون على جسد ميت، كما يحدث الآن من قبل جماعات العنف، لتشويهه وتمزيقه، كأنما يتخلصون من شيء يعذبهم، أبعد كثيرا من المعتقد الذي يظنون انهم يحاربون من أجله. إنه اليأس من استعادته، واستعادة حياتهم فيه.
ما هو المخيف في عاهة؛ في ساق تعرج، أو شفة تهدلت قليلا ساحبة جانب الوجه إلى أسفل؟ أيهما ينظر إلى الآخر: العضو العاطل أم الذراع المتبقية، أو اللسان الذي يضرب جانب الفم ليقول لا ونعم؟ قد لا يكون هذا سؤالا، وإنما قصة حياة. بغض النظر عن الجانب العملي من قصة عاهة ما، فإن ثمة اعتقادا بأن العاهة تعوَّض بقوة إضافية مثلما هو حال ”إيجر“ بطل رواية ”حياة كاملة“ للنمساوي روبرت زيتالر. يبدو وكأن المعنى يريد أن ينتشر في أعضائنا، وحين يصاب أحدها بالعطب يتجمع الفائض في قبضة، في نوع من الجموح ربما، أو حتى في قرار يبدو وكأنه قدم ثقيلة ترفض المساعدة.
حين يقع إيجر في حب ماري فإن ما يلفت نظره حرق قديم في أعلى الظهر على هيئة هلال. بعد أن تموت ماري بسنوات، يظل هذا الهلال الملتهب، مع صوتها، هو ما يستبقيه إيجر. هو نفسه كان قد أصيب بعرج خفيف في إحدى ساقيه منذ الطفولة. في كهولته، بينما كان يعمل مرافقا للسياح الراغبين في رؤية القمم الجليدية، ينقذ إيجر امرأة مسنة من الموت. تشعر المرأة بألم خفيف في فخذها. يدور هذا الحوار (الآن يمكننا أن ننزل إلى الوادي ونحن نعرج إلى جانب بعضنا البعض. قال إيجر: ”بل كل واحد يعرج لوحده“ ونهض).
ليسوا رومانسسين هؤلاء الذي يحبون ”الجمال الناقص“. هذا تعبير غير دقيق أصلا. ما يراه صاحب العاهة باعتباره الجزء الموصول بالموت فيه، وكتلة العدم التي يحملها معه، هو بالنسبة لمحب بالذات الموضع الذي ينطلق منه الكلام. ما يحس به صاحب العاهة وكأنه صمت خال من المعنى، هو ما يراه محب ثرثرة أليفة لا تنتهي. العاهة هي الشيء الفريد والشائع. ذراع مشلولة هي لا شيء، أو هي كل ذراع. لكنها هنا بالذات في حضن جسد حي تبدو كأنها ترفع وجوده الفريد إلى مستوى الفضيحة.
لكن ما نريده الآن هو عدم الكشف عن عاهاتنا. نريد أن نُحَب من موضع الكمال، من موضع السيطرة الكاملة على الجسد. يقال: هذه أجساد خالية من الروح. هذا أيضا تعبير غير دقيق. يُستخدم تعبير ”الجثمان“ للجسد الميت، لكن الجسد يظل جسدا ما دام في نطاق المعنى. وهذا المعنى لا يتولد إلا من النقص المتتابع، ولا يتكشف إلا في جدل الخبرة والخسارات. حينما يفقد أحد العمال ذراعه، يدور حوار بين ”إيجر“ وزميل كهل: ”ما رأيكك هل ما يزال جرولرر الآن هو جرولرر؟ رفع إيجر كتفيه ورد عليه (ولم لا؟ ليس إلا جرولرر وإنما بذراع واحدة وفقط).”
يحدث أحيانا العكس دون أن يختلف المعنى: “سأظهر عاهتي، ها هي قدمي العرجاء”. ثمة من يريد أن يشعرنا بالرعب، عاهته تبتلع الجسد كله، حيث يصبح الجسد مجرد فكرة مهينة ومخيفة. إن “أحبني” هنا تأتي بمعنى: اقطع ذراعك وتعال، وكأنك مُدان بسبب وجودك. التشويه الذي كان شيئا جدليا في علاقة الواحد بجسده، يصبح وكأنه قرار، وجه جامد، عازم على شيء يشبه الجريمة، وجه لا يعرف المغفرة.
يختتم كونديرا حديثه عن بورتريهات فرانيسيس بايكون (كتاب “لقاء”) واصفا حال الوقوع تحت طائلة رعب الجسد: أن نكون وحيدين بإزائه، أمام عرضيته، وكونه حادثة بلا معنى. يكتب: “ما الذي يتبقى لنا عندما ننحدر إلى هذا المستوى؟ الوجه. الوجه الذي يطمس (ذاك الكنز، تبر الذهب، تلك الجوهرة المخبوءة) التي هي (الأنا) الهشة للغاية والمرتعشة في حضن الجسد، الجسد الذي أركز عليه نظرتي كي أعثر فيه على سبب معقول كي أحيا، هذه (الحادثة المجردة من المعنى)، والتي هي الحياة”. لكن هل بإمكان “التركيز” أن يُكسب الجسد أي معنى؟ ممَ يتولد المعنى أصلا؟ يكتسب الجسد كل المعاني، بل والمفردات، من خلال التداول. لا توجد لفظة مقابلة للذراع الحقيقة، لا يعرف الجسد ما نسميه النضارة أو الشيخوخة.
إن اللحظة التي يشعر فيها إيجر بوخزة في قلبه بسبب ذلك الهلال الملتهب الملتصق بظهر ماري، هي اللحظة التي يبدأ فيها الكلام في استرسال كان مثيرا لدهشته هو نفسه. لقد ظل حياته كلها لا يحسن إلا النطق ببضع كلمات. ذاكرته اللغوية كانت بمثل بطء وثقل ساقه العرجاء، وإن لم يعن ذلك كونها بلا معنى. تبع هذا المشهد موقف ربما يبدو مبتذلا: إيجر يسير بجوار ماري ويريد أن يركل حجرا. بقدر ابتذال الموقف بقدر ما هو حقيقي. السعادة نفسها فائض يبحث عن جسد. لا يتخذ “الهلال” وضعا رمزيا، بل أبعد من ذلك. إن العاهة هي حافة بين المعنى والعدم، إنها موطن التضامن بسبب هذه الرهافة، ليس باعتبارها نقصا، بل بحيرة ساكنة حول ثرثرة قارب صغير.
متى ما صار الجسد موضوعنا، فإن بإمكاننا قطعا أن نكتشف ممكناته، لكن أي ممكنات؟ إن الجسد لدى كونديرا يُختزَل في التعبير المبطّن له. في رواية “الخلود” يتكشف ابتذال الأجساد المختصرة في مجموعة من الحركات والأداءت كأن الأجساد مجرد حضور شبحي، تطبيق عملي يوشك أن ينطفئ. الوحشة إزاء الجسد! نعم، من كونه عبئا لا نعرف أين نذهب به. ما يصيب وجوهنا بسبب من هذه العرضية هو شيء أشبه بالبلاهة التي أصابت الكابت ليبيادكين. الآن يشكل “الاستعراض” حلا وجوديا، أعني: تنتهي ملكيتنا للجسد نهائيا. يصبح على مسافة منا، مساوية تقريبا لمسافته عن نظرة الآخرين. ثم يتبدد كأنه لا شيء.