
Hiroji Kubota, Guilin, China, 1979. Source: magnumphotos.com
من فوق الخزان، والضباب الصباحي لا يزال يتسلَّل إلى ما بين الأشجار والبنايات، مالئًا كل الفراغات الشفيفة ليحيل المكان إلى فضاء رمادي كثيف، كان هو واقفًا، عيناه شاردتان تجاه الأفق المُمتد حين رأى تشقُّق رمادية الأفق على تكاثفها، ظاهرًا منها ثلاث هيئات مهيبة تسبح في السماء.
لم تكن الهيئات تسبح تجاهه، هو الواقف على جسد الخزان، فوق وريد النهر، بين الجزيرة والمدينة. بل كانت تسبح آتية من وراء امتداد المدينة عابرة فوق النهر تجاه غابة أشجار الجزيرة. وبتمهل كأنها ناعسة، كانت الهيئات تقطع جسد السماء. وحين مرّت أمام عينيه، تلمَّس المشهد: حوتان كبيران، أحدهما يتقدم الآخر، وصغيرهما بينهما. وهو واقف، فوق الخزان الجاف، يتتبَّع تمزيقهم بلاجهد هشاشة الأفق.
أفاق يونس مِن نومه الذي تسلَّل إليه مع أول الغسق حتى طال ملتهمًا الليلَ كلَّه. أفاق في السادسة صباحًا، قام بما اعتاد فعله كلَّ يومٍ، ولو بتمهل أكبر لكونه يوم العطلةٌ: حمَّامٌ دافئٌ، وإفطارٌ، ثُم في السابعة، وقبل ساعةٍ مِن موعد عمله، كان جالسًا إلى مكتبه الذي يحتلُّ الزاوية الأقرب لباب القاعة الكُبرى بالمكتبة.
تتشابه القاعة مع القاعات الكُبرى للقصور والكنائس القوطية. تحتل الأرفف أغلب الجدران، وفي المنتصف طاولاتٌ تتشابه في التصاميم وإن اختلفتْ في الأحجام. يحيط بالمكتبة حديقة مسوَّرة ذات أشجار كثيفة تكاد تُخفي معالم المكان للقادم من بعيد.
لا تغلق المكتبة الكبرى أبوابها حتى في العطلات. لكن عادةً ما يكون صباح العطلة كسولًا. ليس في المكتبة فقط، بل في المدينة كلها. سمح هذا ليونس ببعض القراءة، وسماع الموسيقى التي يرغب فيها. انتابه شيءٌ مِن الحيرة، بأيِّ موسيقى وبأي كتابٍ يبدأ هذا الصباح. استقر بعد دقائق على مقطوعة قصيرة لجوستاف مالِر. ومع بدايتها، وفي أثناء تجواله بين أرفف الكتب، وقعت عينيه على رواية “نزيف الحجر” لـ إبراهيم الكوني. فرغم نحولتها، شعر أنها ظاهرة مِن أحد الأرفف البعيدة، وكأنها اختارته ليقرأها. ابتسم وهو يمسك بها. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يشعر فيها أن كِتابًا يختاره ليقرأه لا العكس.
مرَّ النهار ثقيلًا، صعدت الشمس إلى أعلى نقطةٍ لها، ثُم تهاوت مُرهَقةً متداعِيةً. لم يأتِ أحدٌ إلى المكتبة اليوم. استغرب يونس الأمر. لكن لم يفكر حينها كثيرًا. أغلق القاعة الكُبرى. خرج لجلب طعام الغداء، لكنه فوجئ بالطرقات خاويةً، والسيارات في أماكنها باردةٌ وكأنها فاقدة الحياة. كانت المحال مُغلقةٌ، وإشارات المرور تُضيءُ وتنطفئُ مُتغيرة ألوانها في حديثٍ مع العدم. لم يفهم يونس ما الذي يحدث. كانت المرة الأُولى التي يرى فيها الجزيرة على هذا الحال: أقرب لجسد ميت، أو فاقد للوعي على أهون حال.
بعد ما يزيد عن نصف ساعةٍ مِن التجوال، دون أن يقابل أيَّ مظهر للحياة، لمح مِن بعيدٍ ما يبدو أنه هيئة رَجُلٍ، وكأنَّ الأفق قد أتى به.
لم يستطع يونس التعرُّف على ماهية القادم. خطٌّ أسود نحيلٌ لهيئةٍ بشريةٍ، ومِن ورائِهِ قرص الشمس ينزل دَرَجَهُ مُنغمِسًا في غابة الأشجار. خطا يونس تجاهَهُ، مُتشكِّكًا؛ يُفكر في احتمال أن يخبره القادم بشيء مما يحدث، أن يفسر له هذا الصمت الذي أمسك بالمكان.
حين وصل إليه، وجده حافيًا، بملابس نومه، أقرب لأن يكون نصفَ سكران. لم يبدُ على الرجل أنه لاحظ وجود شخص في المكان. وحين حاول أن يلفت انتباهه، بدا على الرجل ملامح فزع يزداد كلما سمع صوته.
حاول يونس مُناداة الرجل وهو يجري من أمامه. لكنَّها كانت تزيدُهُ هروبًا. جرى وراءَهُ، كان أسرعَ منه. أمسك به: “ما بك يا رجل؟ لماذا لا تتكلم؟”، لم يكن هناك جوابٌ، سوى محاولته أن يحجب عينيه بكفّيه، هاربًا من مواجهة عيني يونس.
أكمل: “لن أؤذيك؟ أين تسكن؟ لمَ أنت حافي القدمين؟ هل تستطيع سماعي؟ هل يمكنك أن تجيبني؟ أنا لن أؤذيك… فقط دعني أفهم لِم أنت على هذا الحال؟”، لم يكن من الرجل ردٌّ على هذه الأسئلة كلها، سوى فزعٍ يظهر تفاقمه في حركة جسده المُرتعِشة، في ريقٍ يسيلُ مِن فمه، وبكاءٌ بدأ، وأخذ يعلو في نشيجٍ أشبه بنشيج الطفل.
حاول يونس تهدئَتَهُ، أجلسه على الأرض، جالسًا إلى جوارَهُ. انتبه مُتشككًا في حاله، في خضم محاولات تهدئة الرجل، أنَّ من هو أمامه قريبٌ في ملامحه مِن حاكم المدينة: رجل في بدايات الستين رغم أنه يبدو أصغر من ذلك. ذو شعر خفيف، وبشرة فاتحة.
أمسك بوجه الرجل رافعًا إياه لأعلى محاولًا تفحُّصهُ. لم يكنْ الذي أمامه شبيهًا لحاكم المدينة، بل هو الحاكم ذاته. وبين محاولة أن يفهم ما الذي يحدث، ومحاولة تهدئة الرَّجُل، شعر يونس أن ذهنه قد تعطّل. كان مأخوذًا بوطأة اللافهم، محاولًا أن يتلمَّس أيَّ محسوسٍ وسط هذا الضباب الكثيف الثقيل الآخذ في التراكم على وعيه. وجد نفْسه ذاهلًا غيرَ قادرٍ على فهم شيءٍ. بدا الوجود كله مُستغلِقًا أمام عقله وروحه.
مِن حوله، ابتلع الظلام ما تبقى من الشفق الأحمر. سادتْ عتمةٌ شديدةٌ لدقائق، قبل أن تُضيء بعض أعمدة الإنارة. ساعد يونس الرَّجُل على النهوض عن الأرض، آخذًا إياه إلى المكتبة، حيث غرفته. كان يعرف الطريق جيدًا، لكنه لم يفهم لِمَ كان يشعر بالخوف من أن تنطفئ أعمدة الإنارة، فتلتهمهما العتمة.
.
(“خرائط يونس” الرواية الأولى لمحمود حسني، صدرت مؤخرًا عن دار الساقي، بيروت، بعد حصول مشروعها على منحة برنامج كتابة الرواية من الصندوق العربي للثقافة والفنون – آفاق.)
Like this:
Like Loading...
тнє ѕυℓтαη’ѕ ѕєαℓ. Cairo's coolest cosmopolitan hotel.