معن أبو طالب: الحظ

Tales of the Other Half. Illustration made especially by Forat Alhattab.

أول ما ندم عليه فتحي الحظ لما وصله الخبر هو أنه باع سلاحه، مع أن ثمن السلاح هو ما مكّنه من كمالة حق التاكسي، التاكسي الذي سيخسره إن بقي أعزلَ. كان قد باع السلاح بمربح ممتاز مع بداية الحرب في سوريا، ثم لم تنته الحرب ولا فورة الأسعار. لذلك فهو بحاجة إلى سلاح الآن، نظيف رخيص يستجيب لسبابته كل مرة. ليس من تلك النسخ المعدّلة في تركيا التي تصيب وتخيب، ولا البنادق الأمريكية “اللي بتنضب بالسيارة وبتطلع للسيلفيز”. “هذا السلاح” فكّر الحظ لما جاءه الخبر، “بظل بالحزام، من هون لتنحل القصة.”
جاءه الخبر مع أذان الفجر، وهو يأخذ آخر نفس وبجانبه فتاة غافية. بدأ الهاتف يهتزّ ثم تصاعد صوته بالرنين. إن لم تكن مكالمة من تلك التي ينتظرها فسيفشّ غُلّه بالمتصل ويُسمعه أكمٍ كلمة حلوين. سحب الهاتف بقدمه ثم انقبض حاجباه لما رأى الشاشة تضيء باسم أبي سفيان.
أخبره أبو سفيان الذي كان قد خرج لتوه من نادي القلعة الليلي، ذلك الذي على أول طلوع الشميساني، أنه سمع شباباً على طاولة مجاورة يتحدثون عنه، فتحي الحظ، وعن التاكسي الذي نزّله وكالة، وكيف أن لهم حق فيه، وكيف أنهم سيأخذون حقهم بالمنيح أو بالعاطل، وأن العاطل أجمل. أنصت الحظ بينما تابع أبو سفيان خبريته ونصحه بأن يكون حذراً لأن الشباب بدا أن لهم عُزوة وأنهم جادّون، ثم أضاف أنهم تحدثوا أيضاً عن ذهبات الحجّة. سأل الحظ عن أسمائهم وقال أبو سفيان إنه لا يعرفهم، ثم استدرك أن معتز كان معهم. “معتز ابن أبو خالد؟ مستحيل. قرابتي هذا” قال ثم أدرك سذاجة رده، لكن أبو سفيان آخر هَمُّه: “أنا ما قلت إنه معتز ناوي عـإشي! أنا بس قلت إنه كان قاعد معاهم. على أي حال، أنا ما إلي دخل.”
طيب ليش بتتصل فيي يا أخو الشرموطة إذا ما إلك دخل، قال الحظ في نفسه وهو يشكره ويرسل سلاماته لعِزّو. نهض عن السرير وأخذ يروح ويجيء في الغرفة. أطلّ من شق الستارة ليطمئنّ أن التكسي ما زال في مكانه، ثم ارتد بؤبؤا عينيه الغائرتين في رأسه كأنه يتابع مباراة تنس فاحصاً الشارع من الحاوية إلى الحاوية. أخذ يقلّب في الأسماء على هاتفه لكنه قرر ألا ينشر القصة. عاود الاتصال بأبو سفيان لكنه لم يرد. فكر أن من الممكن أن أبو سفيان سكران، مع أن أبو سفيان ذا الكرش الشاسع والقمصان المهترئة لا يسخى أن يدفع ما يكفي للسكر. يجلس فقط ويتأمل الفتيات. من الممكن أن يكون الموضوع برمته خطأ أو حتى مزحة. لا مزاح بينه وبين أبو سفيان، لكنها قد تكون مزحة ثقيلة من آخرين. قد يكون الأمر ألف شيئ أو لا شيء. بَعْبَشَ في جواريره باحثاً عن أغراض كان يحملها دوماً قبل أيام التاكسي ووضعها بجانب مفاتيحه. حاول أن يعود إلى السرير لكن عيناه التصقتا بالسقف بينما حاكت نفسه السيناريوهات. عندما بزغت الشمس هز الفتاة وطلب منها أن تغادر.
لم ينم، وفي التاسعة صباحاً كان أمام باب بيت معتز. الحجّة تعرفه وستسمح له بالدخول. لا أخوات لمعتز ولا زوجة ولا دستور. يدخل ويخرج كما يشاء. على الأغلب ستشكو الحجّة معتز الذي ينام حتى الظهيرة وتطلب أن يشدّه معه إلى صنعة، خصوصاً أنها لا بدّ سمعت عن ذهبات الحجّة. لما شق الباب كره أن يدخل الغرفة المعتمة المتخمة برائحة النوم، المكتظة بالعفش والحرامات والسجاد والبرادي الثقيلة. غرفة تكدس فيها خمول العائلات. مسحت عيناه الغرفة، دخل، ثم وضع وزنه على معتز الهامد. ضربه أول كف بيمينه ويساره تكتم فمه.
“وين كاين مبارح يا قواد؟” قال وعينا معتز تتنايكان تحته، حتى الصدمة لا تقوى على نزع لذة النوم عنهن. خضّه بكف آخر فانفكّت عيناه وترجرج حلقه، بينما الحظ يلتفت إلى الباب والابتسامة جاهزة في شفتيه تحسّباً لظهور الحجّة. تأتأ معتز وتلكّأ قبل أن يقول إنه كان في المحل. “بالليل” قال الحظ هامّاً بضربه مرة أخرى فرد معتز أنه مر سريعاً على القلعة. مع مين؟ مع الشباب. مين الشباب؟ عدّد معتز الأسماء. عاصم كان هناك؟ تردد معتز، “عاصم الحداد، كان موجود؟” مثّل معتز أنه يفكر، ثم قال إنه كان موجوداً، وجلس معهم بعضاً من الوقت. “بس ما حدا جاب سيرتك” تدارك معتز بسرعة، وأتبع بأيمان وحلفان بالعرض والشرف. “كان معصّب ويا دوب فتح تمه، حتّن إجا يضرب واحد من الويترية”. “مين كمان” ظل الحظ يسأل ويده جاهزة للطم. “أبو سفيان ما كان؟”، “ما شفته”. شتمه الحظ ثم عاد يسأله: جابوا سيرتي ولا لأ؟ طيب عاصم لويه كان معصّب؟ “والله يا حظ ما بعرف أنا كنت مشغول بالرقاصات”. سأله إن كان عاصم مسلّحاً ورد معتز إن عاصم دائماً يحمل، وأنه أمس تحديداً ظل يخرج سلاحه ويضعه على الطاولة، ثم يدسه في حزامه مرة أخرى ثم يخرجه، طوال الليلة. “عالحساب ما انت مرّيت عالسريع” رد الحظ. نَظَرَ إليه معتز كالجرو ثم استدرك. تذكّر إنهم جابوا سيرته. أحدهم، أحد ولاد خالة عاصم، كان يتحدث عن تكسي الحظ وموديله ومواصفاته، قَصّة الطمبون تحديداً، وذكر عدة مرات أنه يفكر بالحصول على واحد مثله. “بس هيك؟” سأل الحظ وحلف معتز باللي بيسوى واللي ما بيسوى.
قام عنه الحظ وجلس على طرف السرير مفتكراً، يبحلق في السجادة المعتمة. راقبه معتز بحذر، ولم يتحرك لما هَبّ الحظ وجثى عليه مثبّتًا ذراعيه. لفّ فوقه بحيث صارت مؤخرته في وجهه ورأسه فوق خصره، ثم سحب الحِرام عن ساقه بيد وأخرج بيده الأخرى من جيبه سلك بلاستك من ذلك الذي يستخدمه الإسرائيليون لتكبيل المعتقلين. لفّه على حديد التخت وساق معتز ثم التف ومدّ ذراعه من خلاف، طواها من تحت رأسه وربطها بحديد رأس السرير. قام عن السرير ثم نظر إلى معتز الذي بدا، إن لم تدقق في تعابير وجهه، كأنه راقد مستجم، يفكر بهدوء أو يستحضر ذكرى تروق له. نياطة تناسب تضاريس الغرفة. أخرج الحظ هاتفه وأخذ صورة، ثم غطاه كاملاً بحرام.
في السيارة وازن فنجان القهوة الذي أعدته له أم معتز على التابلوه بعد أن قال لها إن معتز صحي مريضاً واقترح عليها أن تتركه ينام. رمى هاتف معتز في جيب السيارة ثم انطلق نحو الغربية حيث هو والتاكسي آمنان. اليوم سيأخذ طلباته هناك. اتصل بالحجّة ونبّه عليها أن تلزم البيت حتى يزورها. نبّه عليها أيضاً أن تخبّئ الذهب وهو يعرف أنها لن تفعل ذلك. عليه الآن أن يروّق أعصابه، ثم يضع خطة. الجلوك، السلاح المناسب لهذه الأزمة، سلاحه المفضل، تويوتا الفُرودِة، عليه أن ينساه. هو ما يُعتمد عليه ولا يعصلج وقت الشدّة، صيانته قليلة وقطعه موجودة وعمره مديد. ما يستطيع الحصول عليه في هذه الظروف هو البمباكشن، سلاح ولدّة وسحيجة أعراس. حوالي ستمية ليرة بعد المفاصلة. أو يضع أربعمية ليرة ويترك ضمان – تلفون معتزّ مثلاً – ثم يسدد الباقي لاحقاً. خطر بباله أن يبيع بعضاً من ذهبات الحجّة ولكنه عدل عن ذلك. الحجّة تلبس الذهبات طيلة الوقت ولم يبق أحدٌ لم تحدثه عنها، من حجات الحي إلى بياع الخضرة إلى الشرطي الواقف على ناصية الشارع.

ليلة ما مرّ الحظ على عاصم ليريه الموقع ويأخذا القياسات ويخططا المداخل والمخارج ويتأكدا من مواعيد تبديل الحرّاس حصل الآتي: أولاً، وصل عاصم متأخراً. ثانياً، كان سكراناً. ثالثاً، لما جاءه هاتف من أحد أصدقائه، أجاب. لا بل قال بأريحية إنه مع فتحي الحظ يستطلعان ضربة نحاس مرتبة في الصناعية، والحظ لا فكرة لديه مع من كان يتحدث. بعد اللفة الثالثة كان الحظ قد اقتنع أن عاصم لا يصلح شريكاً. أخذ ملاحظاته بصمت، عازماً على التخلص منه بأقرب فرصة. لكن عاصم، مائلاً على كرسيه، شاطّاً ريالته، بالعاً نصف كلامه وباصقاً النصف الآخر، بقَّ جوهرة، وهي أنه بدلاً من غلبة الحفر تحت الجدار وتصميم هيكل حديدي لنقل النحاس في عُصَب من الحفرة إلى البَكَمْ، كل ما عليهم فعله هو دعم الجدار اللبني بالتريللا نفسها المليئة بالنحاس الذي سوف يسرقونه. الدنيا عيد ولا يوجد أحد في الصناعية ليسمع صوت الارتطام، والحارس مخدّر حتى الصباح.
ضرب الحظ ضربة مرتبة. خمسون طن نحاس باعها في سَحَاب، بالإضافة إلى التريللا المهشّمة التي باع بعضها سكراب عن طريق ثِقات له في اللُّبّن. بذلك المال اشترى شقة وذهبات للحجة، حاسب الشاب الذي ساعده بدلاً من عاصم، سدد ديونه، ثم باع سلاحه وأخذ ما تبقى من الضربة ونزّل التاكسي.
“أول ضربة بالحرام، بعدين بصير الشغل بالحلال” كان الحظ يقول دوماً. بعد الضربة أصبح يعمل على التاكسي يومياً، شغل مرتب ونظيف وبدون مشاكل. يذهب بعدها أحياناً إلى النادي الليلي وأحياناً لا يذهب، خصوصاً بعدما تعرف على فتاة ركبت معه من كلية الخوازرمي للذراع الغربي. إن كان يذهب للنوادي سابقاً ليَفُكّ محنته، أصبح يذهب الآن ليقُنِّن الوقت الذي تَحْكُمُ فيه عقله، ويمد أخريات مطبات أمام صهريج هيامه المتهور. أول مرة ركبت معه أخذ قلبه يخابط في صدره حتى كاد يكسِر ضلوعه. شعر ببرود في معدته وتخدرت أطرافه. في بنات هيك بعملوا فيك. يومها عدّل المرآة بحيث يراها وتراه، ثم سألها ماذا تدرس في الكلية، وبقيت صامتة. بعد عشر دقائق سألها ماذا تحب أن تسمع على الراديو، وبقيت صامتة، ثم سألها بعد خمس دقائق إن كانت قد رأت البحرة وبقيت صامتة. “بدكش تحكي بلاش” قال بعصبية ثم ضرب المرآة فأصبحت عامودية تواجه المقعد الأمامي الخالي.
بعد دقيقة صمت، كأنها حداد على ما مضى من حياتها، نَطَقَت. “مالك زعلت؟”. لم يجب، لكنه عاد إلى الكلية في اليوم التالي، وكل يوم بعدها، وركبت معه كل يوم. في كل مرة امتد حديثهما جملة أو اثنتين. بعد أسابيع أصبح بينهما تلفونات، وأخيراً، بعد أشهر، التقيا.
وماذا سيقول لها الآن إن خسر التاكسي؟ لا بل هو يعرف تماماً ما ستقول هي. متسائلة لا مؤنبة، بفضول وليس قلق: “ومن وين بدك تفتح بيت إسا؟” كأنها تتابع مسلسلاً مشوّقًا. سيشعر هو بالحرج والضيق ولن يستطيع الرد. بعث لها رسالة أخرى يقول فيها إنه لن يأتي لأخذها، جاءه طلب سياحي. ثم بعث أخرى قال لها فيها أن لا تركب تكسي للبيت، بل أن تأخذ الباص. ثم أضاف “رح أعرف إذا أخذتي تاكسي.”
ستمية ليرة. لو أخذ سبع أو ثماني طلبات من سيّاح سيدبّر أموره في نهارين. بده يقوي قلبه ويروح فيها عالآخر. اتجه إلى الماريوت. هناك يعرف الشاب الذي يعمل على الحاجز، يُعطيه خمس ليرات ليسمح له بأخذ طلبيات من الداخل رغم أنه ليس تكسي فندق أو مطار. سيارته جديدة ونظيفة وذلك يُسهّل الموضوع. ما إن عَبَر الحاجز حتى وجد أجنبياً خمسينياً ينتظر. عاللويبدة. ممتاز.
العداد ثلاث ليرات وأربعين قرشاً. ثيرتي فور قال للزبون الذي نظر إليه بقلق، ثم نظر إلى العداد، ثم إليه مجدداً. تمتم بَت بَت فقاطعه الحظ قائلاً هَي الميتر قدامك، وهو يؤشر إلى الفاصلة العشرية في غير مكانها. إن فرونت اف يو. عداد. ميتر. يالله. قال له إنه محظوظ أنه لم يلف به من وادي السير كما كان سيفعل به بقية الشوفيرية، ثم بنبرة تصاعدت واحتدت، قال إنه شوفير تكسي شريف يعرف شغله جيّداً، ويعرف كل شارعاً في البلد، وصربعه حديثاً آخر سمعه الأجنبي الخمسيني كخطاب في فيديو داعشي. اهتزت تحت ذقنه جلدة حمراء كالديك المهزوم وهو يُخرج محفظته ويعد عشرة وعشرين وخمسة.
اللويبدة كلها أجانب. سيأخذ أكثر المرة القادمة واللي يصير يصير. كلهم منايك هذول أهل اللويبدة، ولاد بلد وأجانب. وقف بجوار بائع قهوة وهو يفكر بما سيفعل بعاصم عندما يجده، وبأي من فجوات بدنه سيحشو البمباكشن. “تكسي؟” قال لشاب مر بجانبه افترض أنه أمريكي، ووقف الشاب. رمى الحظ سيجارته وركّب الغيار الأول بعد أن عرض على الأجنبي قهوة، وفاجأه ذاك بابتسامة لا تتناسب مع حجم العزومة. “أعطيني واحد سادة لأخو الشرموطة اللي عينه فاضية هذا”، انتظر على مضض حتى أحضر الصبي القهوة وقدمها من الشباك. جِِِڤ هِم تِِِِب، قال للأمريكي.
كان الطلب على البلد. اثنان وخمسون قرشاً طلبها الحظ دنانير. “لن أدفا لك همسين، أنا مش أهمك” اعترض الأمريكي. لكنه دفع طبعاً، مقابل بضعة كلمات وتشبيرات موزونة من الحظ الذي أصبح رصيده ستٌ وثمانون ديناراً والظُّهر لم يؤذن بعد. “بحكي معي فُصحى أخو الشرموطة” قال الحظ ضاحكاً وهو يسوق مائلاً بجذعه إلى الأمام، ذقنه فوق المقود، يتلفّت يميناً يساراً باحثاً عن فريسته القادمة.
لكن ذقنه هبط، وابتسامته ارتخت، وتقوّس ظهره وصوته مرة واحدة لما رأى ذراع الشرطي المحمية بالجلد الأبيض تلوّح له بأن يقف. رخصه معه وكل شيء نظامي، لكن الشرطي بدأ فوراً بالكتابة في دفتره الزهري والأبيض. “فهمني بس عشو المخالفة؟” اعترض الحظ، ورد عليه الشرطي وهو يتمعّن في هويته وليس رخصته: هسّا بقلّك. من وين انتو، بيت الحظ؟ من الخليل. السيارة إلك ولا ضمان؟ إلي، رد الحظ.
خمسة وأربعون ديناراً لم يقبل أن يأخذها إلا نقداً، الشرطي الذي قد يكون رأى الأمريكي يتناقش مع الحظ قبل أن ينزل. بين شتائمه المكتومة قرأ الحظ في وصل المخالفة أن ما استلزمها غماز أمامي أيمن مكسور. فوراً فك الحزام ثم فتح باب السيارة وركض حولها، لكن الهراوة السوداء التي بدأت حياتها في وسط الولايات المتحدة سبقته إلى غماز تكسي الحبايب.
“رح ألاقيك”، قال الحظ للشرطي. “والله لألاقيك” صاح باتجاهه مرة أخرى وهو يسوق مُبتعداً، محتفظاً بوصل المخالفة واسم الشرطي. اتجه إلى المنطقة الصناعية ليركّب غمازاً جديداً بالدَّين ودمه يغلي، رغبته بالدمار الشامل تتأجج في دمه مثل الفوسفور الأبيض.
زاحفاً عبر الدواوير الثلاثة الأخيرة، لاكماً المقود ورأسه وركبته، مقنناً الغضب، تسربت إلى وعيه أفكار أخرى، منها أن هذه ليست المرة الأولى التي يعبّر فيها عاصم عن امتعاضه. تلاقيا صدفة على قهوة في البلد مرة، وبين سحبات الأرجيلة، وبعد لف ودوران كثير، استجمع عاصم عزيمته وفاتح الحظ بما يريد.
“كس اخت اليوم اللي عرفتك فيه يا عاصم.” رد الحظ قبل أن ينهي عاصم حديثه. “زعلان عالفكرة؟ انت صدقت لما قالولك الأعمال بالنيات؟ بدك نتشارك بالغلة وانت قاعد ببيت أهلك بتحضر تلفزيون وبتاكل بطيخ؟ لو انمسك حد مين فينا بده يروح عالحبس؟ أنا ولا انت؟ ولا أقول للضابط والله سيدي عاصم طلع بالفكرة. ورح يقللي، آا عفواً، لو تواخذنا، هلق بنروح بنجيب عاصم. اتسهّل انت ما عليك.” نهض الحظ ونظر إلى عاصم تحته، بربيش الأرجيلة ممدد على صدره وكرشه، ومبسمها متكئ بكسل تحت شفته السفلى، بؤبواه ينطحان حاجبيه، وابتسامته صفراء. “فكرتي قال!” قال الحظ ثم رمى خمس ليرات على الطاولة وخرج.
عالقاً في الازدحام، قرر الحظ أن الأحرى به كان أن ينهي الموضوع حينها. أن يحلّها بطريقة تجعل عاصم يخجل من فتح الموضوع مع أي كان. أن يبدو ضعيفاً مهزوزاً إن فعل. أما الآن فالمهمة عويصة، عليه أن يُدرّ منه ومن أولاد خالته ما يكفي من الدم ليفهموا غلطهم. كما أن كل هذا يتوقف على الستمية ليرة التي ليست معه بعد، والبمباكشن، سلاح الولدّة والعريطة هذا الذي سيضطر لشرائه مديوناً. بعد فكاك الزحمة أخذ طلبات عادية تغطي البنزين والدخان والأكل والشرب. الساعة الآن حوالي الرابعة، وكل ليلة تمر عليه دون سلاح أكثر حلكة. قرر أنه بعد أن ينتهي من تغيير الغماز سيقضي الليلة في بيت قرابته في العيزرية، ضواحي السلط.
متجهاً هناك من البيادر، مرّ بتقاطع إن تبعت مخرجه الثالث يأخذك إلى الهاشمي. منطقة فلل وقصور فارهة متباعدة، لم يدخلها سوى مرة عندما ركب معه أستاذ جامعة شاب وعائلته قبل أسابيع. فتح معه حديثاً يومها، وقال له التيس بعربية مختلطة، في محاولة للتواصل مع كادح يسوق به إلى عمق الطرف الآخر، إنه عمّر داراً في منطقة المليونيرية هذه ولم يتبقّ معه ما يكفي لإتمامها. البيت يتطرف منطقة هادئة معزولة، لا يلعب فيها أحد بالشارع إلا أبناء أستاذ الجامعة، وذلك عندما لا يكون هو. قال ذلك ضاحكاً، وضحك معه الحظ وهو يرمق زوجته في المقعد الخلفي كأنه يقول لها جميلة أنت لكن زوجك أحمق، وأعادت هي النظرة كأنها تقول له زوجي أحمق بس أنا بلعن دينك. أوصلهم الحظ وحصل على إكرامية وحطّ البيت بباله.
قلّب الخيارات بذهنه وهو يشرب كاسة شاي على سطوح بيت يطل على بساتين زيتون ويقلّب في هاتفه أولاً لفحص رسائله ثم بحثاً عن الصورة التي أخذها لمعتز وهو مكبّل، ذراعه تحت رأسه كأحمق سعيد. موضوع السيّاح تبدد زخمه. سيتلكأ ويتردد إن حاول مرة أخرى، سيشعر أن الكل مدرك لما يحدث، من الشاب على الحاجز إلى الزبائن نفسهم إلى المشاة، ثم أن الخمسيني قد يكون قد بلّغ عنه. السطو والنهب لن يقدر عليهما دون سلاح، نصب وتجارة فالصو بدها وقت. تأمل جبال العيزرية المعتمة وما وراءها، ثم شده باله إلى يارا مرة أخرى. لم يسمع منها منذ أسبوع تقريباً.
وفّر بكل شي إلا السلاح، قال قرابته منبّهاً. الجلوك إن ما كان صناعة النمسا لا تقربه، وصناعة النمسا عن غيرها بتبيّن عطول. بتنعرف عن مترين، مش مضطر تقظبه تتعرِف. أخذ يحدثه عن معرفة له تذكر الحظ أنه كان يصفه سابقاً بالصديق، حاول أن يسطو على مخبز في آخر صويلح بجلوك معدّل. هو المخبز الذي في آخر صويلح وأول طريق السلط، في مجمّع فارغ يكاد يكون مهجوراً.
“المهم، دخل والسلاح بيده بس صاحب المخبز عيّا. طُخني، قال له. وهظاك ما كذّب خبر. رفع السلاح وطخه برجله. قللّك بطخه وبوخذ الثلثمية ليرة اللي في الكاش وبفركها عالتاج. قام يزرّ عالزناد ويزرّ، والسلاح بجاوبِشْ. يزر والسلاح بجاوبش وصاحب المخبز بِطِل بيه وهو مش مصدق. نزّل السلاح وحمل حاله وطلع. يا دوبك مشاله مترين ولا صاحب المخبز ضاربه بمفتاح انجليزي عركبته اليمين. لليوم بعرفش يمشي المسكين، عشان استرخص وجاب جلوك معدّل. قلتله لو جبتلك كارلو أحسنلك، عالأقل صناعة وطنية.”
نحّى الحديث مع قرابته سُحُب غيابها لدقائق ثمينة، عادت داكنة بعدها، ثم هطلت مرة واحدة. صمد، وكابر، وتلاعب على نفسه، منعه كبرياؤه من فحص هاتفه إحدى عشرة دقيقة، ثم استأذن وحمل الهاتف نحو الجهة البعيدة المظلمة من السطح. رن عليها. لم تجب. لا شيء من هذا جديد، لكنه في كل مرة يمر بنفس الكركبة. في النهاية تظهر أخيراً، وكل قلقه وكل السيناريوهات التي حفرت أقنية في ذهنه تنسحب متلاشية إلى نقطة حبها. لا يغضب ولا يؤنب ولا يسأل حتى أين كانت. كل ما يريده هو أن يعوّض بصوتها ما استُنزف من روحه. تحضُر ويصبح كل بؤسه بعيداً منسياً. لكن قبل ذلك يكون قد وصل الشرقان الأقصى والأدنى وقطع جزراً غير مأهولة بتخبطه. هل قررت أن تقاطعه، هل أنّبها ضميرها وقررت إنهاء العلاقة، هل شعرت أنها تخون أهلها معه؟ هل ركبت تكسياً آخر سَحَرها، هل اكتشف أهلها أمره؟ هل ملّت منه؟ هل جاءها ثري يطلبها أو ابن صديق لوالدها أو ابن عم وحان وقت أن تنساه؟ في عتمة غيابها يحوّلها كل تساؤل إلى شخص أكثر إبهاماً، أبعد، أقلّ ألفة، ذو قدرة مضطردة على القسوة. يتخيلها أحياناً تبّلك رقمه دون أن تكترث، أو تغازل رجالاً آخرين، أو تضحك مع صديقاتها على رسائله العبيطة ووعوده التي لم تطلبها. “هذا الخليلي؟” يتخيلهنّ يقلن ضاحكات.
دسّ طرف هاتفه في جيبه وأزعجته سرعة وحتمية سقوطه، كإنه مقصلة معلقة فوق عنق المسار الذي أراده لحياته. سحبه بسرعة ليتأكد أنه ليس صامتاً، ثم دسّه مرة أخرى واستنفر جلده تحت الهاتف مترقباً اهتزازه. التهى بالحديث مع قرابته لكن غيابها غبّش كل ما رأى وسمع. عاد قرابته حاملاً صينية طعام وهو يقول إن معتز هذا ما زال ولداً. “شوفلك هالصورة” قال الحظ وأخرج هاتفه ليريه صورة معتز مكبلاً في سريره. اختلط الضحك بالسعال ثم خبا عندما اتصل الحظ على بيت معتز. ردت الحجّة بترحيب ثم ندهت ابنها. “فكيت حالك ولا لسا؟” وانفجرا ضاحكين، بينما معتز على المتحدِّث دون أن يعرف، يهمس مهدداً لألا تسمعه الوالدة “والله لألعن دينك يا حاظ بس أشوفاك، أنا بورّيك يا حاظ، أنا بورّيك.”
لا بد أنها مشغولة بامتحانات، أو مع أهلها، أو مريضة، ربما هو وقت مرض البنات. مش مهم، ستردّ. عليه الآن أن يركز على عاصم. اهتز هاتفه ولكن أمله تشتت فوراً. أبو سفيان. لم يردّ.
على طاولة الفطور كان مشتتاً، معدته باردة. شرب قهوة ودخّن سيجارتان قبل أن يوصلّه قرابته على الهاشمي. هناك جلسا في السيارة، دخّنا وتحدثا في أمور عشوائية بينما الحظ يترقب ويدخن سيجارة بعد سيجارة. قرابته يعرف أنه في مأزق ويعرف ألا يسأل، ويعرف أن فرد النار معه ليس لضربة لحام سريعة مثلما قال. خرج الحظ ثم عاد، ثم خرج مرة أخرى. لف حول بيت عدة مرات ولم تكن هناك سيارة الأوبل في الكراج التي قال له أستاذ الجامعة إنها كانت في الصيانة يوم التقيا. لاحظ أنه ما زال لم يركّب حديد حماية بعد. كان الحظ قد قال إنه يعمل مقاولاً إضافة لكونه شوفير تكسي وبإمكانه المساعدة في إتمام البيت، وهكذا عرف منه مخطط البيت ومكان الغرف وحجمها، وحتى ما فيها من عفش. استمتع بمنظر زوجة الدكتور، قلقة جميلة، تحاول جاهدة تغيير الموضوع، وزوجها منزعج لأنها تعطّل تطور صداقته العابرة مع أحد الكادحين. سأله الحظ عن الوقت الأنسب للشغل في بيتهم ورد الدكتور إنها أيام نهاية الأسبوع لأن زوجته تكون عند أهلها في بيروت. “بتبرّع بالمعلومات التيس ابن التيس اللي ما بستاهل عيلة ولا ولاد” فكر الحظ وهو داخل.

“معيش ستمية وخمسين” قال الدكتور وهو ينظّف نظاراته السميكة المظلّلة التي تأكل نصف وجهه، كأنه غير واثق مما يراه من خلال عدساتها. لم يستوعب لما دخل البيت ووجد رجلاً ملثماً جالساً في غرفة الجلوس، ولم يستوعب والرجل يطالبه بالمال، ولم يستوعب والرجل يحمل الولد ويربطه على كرسي، ثم يشعل فرد نار. “مش حامل ستمية وخمسين، ولا معكش ستمية وخمسين؟”، سأل الحظ، وأجاب الدكتور بأن ليس معه ستمية وخمسين، لا كاش ولا في البنك.
ستمية ليرة ما معك يا دكتور؟ قال الحظ وهو يقترب من الولد. الدكتور ينظر صافناً، يخلع نظاراته، ينظر، ثم ينظفها، ويعيدها مرة أخرى، وينظر، ولا يتغير شيء سوى أن الحظ يصبح أقرب من الولد.
أشعل الحظ فرد النار مرة أخرى وانطلق لهبه الأزرق الحاد وصوته البطيء الهامس. عندها تحرّك الأستاذ للمرة الأولى. اقترب ماداً يديه إلى الأمام راجياً، وجهه لا يترجم ما يخرج عن فمه، مثل طفل يسير في المنام. نهره الحظ فتوقف، بينما الولد يراقب باهتمام. تأتأ الدكتور كلمات توسّل وهو لا يرى وجه الحظ، ولا يعرف أنه لن يتردد ثانيتين في تشويه ستمائة ولد، وليس ولداً واحداً، ليعود بما يلزم، لتكون معه وتفتح له سيقانها ويزرع فيها حياة جديدة.
خلع الحظ حذاء الطفل، ثم سلّط اللهب باتجاه جرابه الأبيض. الولد لا يبكي بل يراقب ما يحدث باهتمام، ينظر إلى اللهب ثم ينظر إلى جرابه كأنه متشوق لرؤية ما ستفعل بها النار. عندما أصاب اللهب طرفها احمرّت ثم التف حول الحَمَار سواد سريع حتى خمد. نظر الحظ إلى الولد الذي صمت لحظة كأنه يراقب حدثاً على التلفاز، ثم انطلق صراخه. تخبّط في الكرسي ورفص وتلوّى ووالده واقف على باب الغرفة، يترجى الحظ أن يكفّ، يتوسله، والحظ يرد بأنه سيكف عندما يرى الستمية ليرة. صوت الولد انتقل من ناعم حاد إلى خشن متحشرج في لحظات، عروقه برزت في وجهه وعنقه. كاد الكرسي ينقلب من رفصه. صراخه وقرقعته غمرا البيت. ابتعد الحظ قليلاً ليراقب الأب واقفاً في مكانه، ينظر إلى ابنه ثم ينظر بعيداً، ثم يعود وينظر إليه. يمينه على خصره، يفرك عينيه بيساره التي تحمل النظارات. حذّره الحظ. قال إنه سيحرق ساق الولد كاملة والولد يصيح مستنجداً بأبيه. أنزل الجراب عن ساق الولد ثم قلبها عن قدمه حيث التصق طرف الجراب بالجلد المحروق. شدّه بقوة وانمزع معه جلد أصابعه. صراخه وصل السماء. لما عاد الحظ بنظره إلى الوالد وجده مندفعاً باتجاهه فتراجع ووضع وزنه على ساقه الخلفية، لكن الوالد توقف قبل أن يصل الحظ، كأنه غير متأكد مما عليه فعله الآن وقد أصبح الحظ في متناوله. نظرا إلى بعضهما للحظة ثم ركله الحظ في المعدة.
خارج الغرفة سأله الحظ “مرتك وين؟” وهو يعرف. أجاب أنها عند أهلها. ضحك الحظ. في بيروت؟ وأومأ الدكتور إيجابًا. بدي تعطيني كل شي بالبيت، قال الحظ وهو يصوّب فرد النار باتجاهه، ثم نظر إلى الولد من باب الغرفة، مكبّلاً، يبكي بمرارة الآن، بوله يسيل على ساق الكرسي. خارج الغرفة لطم الدكتور وبدأ هذا بالبكاء. لطمه مرة أخرى فوقعت نظاراته وصَمَت. قال له أن يأخذه إلى غرفة النوم. لما دخلا الغرفة عبث الحظ بالأدراج ثم استوعب أن السستم مختلف هنا. هذول مش زينا، بحطوش ذهباتهم بغرفة النوم، قال لنفسه. سأل الدكتور الذي رد بين شهقاته أنهما لا يملكان ذهباً وجواهر، لكن هناك بعض التحف.
في صالة الضيوف وقفا أمام صندوق غطاؤه زجاجي، وباقيه خشب قديم، له خمسة أدراج. الصندوق نفسه يبدو ثميناً لكنه لن ينفع الحظ. أول درجين فيهما مخطوطات وتماثيل صغيرة واسطوانات، وصور. العديد من الصور. الدكتور وزوجته الجميلة، قبل الأولاد وبعدهم. أشّر له الحظ بأن يمرر له الصور ثم أخذ يسأله وهو يقلب بها، “وين هاي؟” وفرد النار مصوب على رأس الدكتور. لندن، برلين. تكساس، الاسكندرية، سلوفينيا، بيرزيت. التماثيل قد تكون ذات قيمة لكن لا وقت لتجارة التحف. دس أحدها في جيبه احتياطاً. نظر حوله وقد ضاقت ذريعته، ثم أمر الدكتور أن يفتح الدُّرج الثالث. في الدرج ورقة خمسين دولار وشمعدان فضة وأقلام تبدو ثمينة. دفع الدكتور ثم وضع الفرد جانباً وجثا على ركبتيه ليبحبش. سحب الدرج وقلبه مبعثراً محتوياته على الأرض. أثقل ما وقع صندوق حذاء انفتح عن شيء ما ملفوف بمخمل أحمر. رفع المخمل بأطراف أصابعه ليظهر من تحته مسدس ستار إسباني عتيق. عرفه الحظ فوراً. صنف حمله رجال الشرطة في عهد فرانكو، واستمر إنتاجه بعدها حتى الثمانينات مع موجة طحن المصانع في أوروبا. سمع عنه الحظ ورآه في فيديوهات على هاتفه ولكنه لم يرَ واحداً بعينيه من قبل. ثقيل أنيق تضيق حوله اليد، ينسحب غطاء ماسورته وينجاب بعناد وسلاسة. حتى أنه كان معبأً، بيت النار مزدحم بالطلق. رفصت ساقا الحظ والتفّت ذراعاه حول رأسه، الغريزة حركت جسده إلى أن يحضر ذهنه. صدت ساقاه بعض الضربات ولاقت ذراعاه وكفيه بعضها، ثم بدأ يسمع نعرات الدكتور وصوت شيء ثقيل يلوّح به. عاد نظره ورآه واقفاً فوقه بيده الشمعدان. تراجع الحظ على الأرض الرخامية متزلجاً على قفاه ثم هبّ واقفاً وكاد يقع. رأسه ثقيل وسمعه مطفي، بياض يغشى رؤيته. لم يتبعه الدكتور، بل وقف يهدد عن بعد. “خلص خلص” قال الحظ بعد أن لاحظ أن المسدس في يساره، “هيني طالع.”

في السلط أخذ شاوراً ولف رأسه وضمّد كفيّه. حمل هو وقرابته حفنة من الطلقات ثم نزلا يجرّبان السلاح في بستان زيتون. أيام كانوا أطفالاً كانوا ينزلون للبستان نفسه يلعبان أنهما فدائيان، يحملان خشبات طويلة كسراها ودقاها ببعضها لتصبح مثل الكلاشن. يركضان من شجرة إلى شجرة، يختبئان خلف جذع إحداها ويتسلقان قمة أخرى. يدحران العدو من السلط إلى نابلس إلى الخليل إلى البحر. حررا فلسطين مئتي مرة في هذا البستان، واليوم يحرر الحظ فلسطينه هو. سيحرقهم جميعاً إن اضطر وسيعذّب ويقطّع أوصالاً ويكسّر ركباً ويقتلع أظافر إن لزم الأمر. رح يقلب بشار الأسد على كس أم اللي بده يوقف بطريقه.
أول أكم طلقة عصلج معه السلاح وخرجت طلقة من ثلاث. شد غطاء الماسورة فوجد طلقتين تتزاحمان على مدخل بيت النار. مد إصبعه ليخرج إحداها ولكنها عاندت، فسار بالمسدس مفتوحاً، ثم جلس وفكّه قطعة قطعة. لقّم الطلقات من جديد، كبس على طرف المسدس وانصاع غطاء الماسورة إلى مكانه. ما زال يعمل. ميكانيكاه منتظمة، عصيّة على الصدأ. شد الغطاء من جديد ثم وقف وعيّن على جذع إحدى الزيتونات. خرجت الرصاصات واحدة واحدة بانتظام ورجعة قوية على ذراعه. نصف أوتوماتيكي. خمسة رصاصات جاءت جميعها في محيط دائرة في اتساع كفّه. الماسورة ما زالت باردة، لكن كفه عاد ينزف من رجع المسدس. “مشغول بتقوى هذا الفرد”، قال لقرابته وهو ينظر إلى كفّه محتاراً. عادا إلى البيت من أجل كاسة شاي وسيجارة قبل أن ينطلق إلى عمان.
في الطريق فتح الشباك ليبرّد رأسه وتطاير شعره الأسود الكثيف. سيزور الحجّة، ثم سيلف على جيرانها وعلى الخضرجي، على أبو سالم تبع الدواجن، وسوبرماركت أبو بشر، وينبه عليهم أنهم إن رأوا عاصم أو أحد أقربائه أن يتصلوا به فوراً، ثم يطلّوا على الحجّة. سيأتون الآن أو بعد حين، عاصم وجماعته. أولاد سيفهمون خطأهم. لو كان مكان أحدهم لأخذ حق ابن خالته بصمت. ولكن الحظ لا أولاد خالة له، وهم ليسوا الحظ.
راحة يده تنزف، وفي يده منشفة غيار الزيت يحمي بها التاكسي. يمسك المقود من أعلاه مشقلباً يمينه ليسيل الدم على باطن زنده ثم يلتف على كوعه ويقع على المنشفة. المقود امتلأ دماً لكنه بلاستيك سهل التنظيف. أما الفرش مشكلة. الدم بطبِّع. اهتز الهاتف في قفاه. قد تكون يارا. احتار كيف يخرج الهاتف دون أن يلوّث الفرش وبنطاله. أوقف التاكسي على جانب الطريق، خرج حاملاً الخرقة ولف بها يده. دحشها عريضة في جيبه الخلفي وسمع قُطبه تتفتّق. يارا اتصلت. كاد يرقص. أخذ نفساً عميقا ثم أصابه توّتر لذيذ. قرر أن لا يتصل بها فوراً. رؤية اسمها على شاشة هاتفه كافية الآن. ما زال في حياتها. سينظّف التاكسي أولاً ثم يرى أمه. فتح كل النوافذ. كان هناك دم على المقود والتابلوه والغيار والهاندبريك. حتى زجاج النافذة وصله دم. سرّ من نفسه لأن الفرش ما زال نظيفاً. أخد يدعك التابلوه وأبواب التكسي مشرّعة. منظره لا يدعو للشك، شوفير تكسي حريص على نظافة مصدر رزقه. لمح صبياً يسقي زرعاً في حرش بيتهم فأخرج الدعاسات وسار بها نحوه. طلب منه أن يصوب البربيش عليها، “بس اوعى تبل البنطلون” قال للصبي ضاحكاً. سال الدم في الشارع مثلما يوم العيد.
هذه آخر مرة يبيع فيها سلاحه، لا بل سيتاجر بالسلاح هو نفسه بس تنحل القصة. هي تجارة لا تنضب ولا تتضرر بتضعضع عملة أو انهيار اقتصاد. الناس بدها سلاح، من يوم آدم ليوم المسيح الدجال. كله بده سلاح، نظيف مضروب مهرّب مرخّص. لازم يلاقيله نوع معيّن مش معروف بالبلد يتخصص فيه، ينعرف إنه إذا بدك هذا السلاح لازم تحكي مع الحظ. تخيل نفسه لابساً نظارات شمسية، يلتقي بزبائنه في مكاتب وورشات مغلقة وفنادق. معه حقيبة جلدية يفتحها عن أسلحة نادرة لا يملكها غيره، يعرف تاريخها وعجائبها وحده. ممكن أن يعدّل أسلحة هو بنفسه، يلبسها ذهباً ويبيعها للخلايجة إن أصبحوا يأتون مجدداً، أو يركّب كواتم أو يغير فئة الرصاص المستخدمة. كأن يعدّل جلوك ليطلق عيار ١٢ بدل ٩. غاوي سلاح مثلهم هو لكنه لم يفهم لم يقومون بذلك، التسعة تقتل والـ ١٢ تقتل. تخيل من ممكن أن يطلب تعديلاً كهذا. معتز.
في عمان اتصل بيارا وردّت. صوتها مرح. قالت إنها اشتاقت له وقال إنه سيأخذها مشوار. سيلتقيان بعد ساعتين في المكان المعتاد، في الشارع الرئيسي المجاور لبيتهم، تؤشر له ويقف لها وتجلس في الخلف. قضى مشواره وهو يسوق بيساره فقط ويغيّر بأصابعه لألا ينفتح الجرح في يمينه.
“شو الدم كله هاد؟” سألته لما دخلت. جعلته يوقف السيارة لما ابتعدا ثم نزلت لتركب بجانبه. مسحت عنه الدم بطرف إشاربها الذي ما زال على رأسها. “إيشاربك يا بنت الحلال” قال منهكاً. “معي واحد ثاني بالشنطة”. تمسح الدم عن وجهه، وهو يفكر لم قد يكون ذلك، ولمَ أخذ ينزف رأسه من جديد. ساق ببطء وهي ملتفّة نحوه، تبلل الإيشارب بلسانها ثم تمسح خده وجبينه، ثم تدعك وجهه بإبهامها. “هذا مش دمَّك” قالت وهي تنظر إليه وهو ينظر أمامه. أول مرة تلمسه. “إطلع عـ شارع السفرا”. بعد دقائق في شارع السفرا جعلته يقف بعد أن مسحت وجهه ورقبته وأذنيه وذراعيه. ضبّت طرف الإيشارب المدمّى في ثناياه. قَطَعت الشارع ثم غابت في آخر فرعي. العيون تراقبها في كل حركة. سبّبت كركبة في الحي. خطواتها مرصوفة بوجع الشباب. بعد دقائق عادت بكيس بلاستيك أبيض سميك، ثم جلست في السيارة ويداها فوق الكيس، تنظر إليه مبتسمة. فتحت الكيس وأخرجت منه قميصاً ثم بنطالاً. “هذا العمو لسا عنده بضاعة سوريّة من قبل الحرب، بيعطيها بس للي بحبهم”. قلبه في حلقه، ونَفَسُهُ يضطرب. يود أن يصلّي. راقب وحفظ كل حركة خرجت عنها. فَتْحُها باب السيارة، تلفُّتها قبل أن تقطع الشارع، ابتسامتها المكتومة له قبل أن تقطع عائدة، بعبشتها في الكيس، بهجتها وهي ترفع القميص الجديد أمامه قبل أن تضعه تحت ذقنها، لتريه كيف يكون عليها أجمل.
SaveSave

SaveSave

SaveSave