محمد جاد: ميدان الرماية

Alex Webb, Fort Sherman. 1999. U.S Military jungle warfare unit. Source: magnumphotos.com

علي بعد حوالي ١٢٠ كيلو من القاهرة مدينة الفرص الضائعة والأسمنت تقع مدينة صغيرة على ضفاف بحيرات قناة السويس مليئة بالمعسكرات وآثار حرب فاتت لم تكتمل. وهنا المشكلة، دائماً نحن في منتصف الطريق، نعيش على هامش الزمن والحضارة ونصف هوية. أسرى وهم القومية والتمكين وسيادة العالم والمهدي المنتظر. مساحة كبيرة محاطة بسور عال وهناجر صغيرة منفصلة لا تدل على وجود حياة. هناك كل شي أصفر وأعتقد أنه اللون المناسب للرقص على السلالم، فلا أنت حي ولا ميت. تخلع ذكرياتك وأحلامك وتغمض عينيك وتضم في الصف علي زمايلك.يبدأ اليوم مبكراً في الخامسة صباحاً، يجب أن تستيقظ قبل ذلك حتى تجد الماء ودورات المياه غير مشغولة. أعطاني صف الضابط أفرول أكبر من مقاسي الحقيقي بـ ١٠ أرقام وأعتقد انه كان يسع سرية كاملة. بأسرع ما يمكن تنجز كل شي من حلاقة الذقن إلى الانتهاء من البيادة، ثم بالخطوة السريعة يصطف الجميع حتى نبدأ الدوران والعدو باتجاه أرض الطابور مع بطن خاوية ورأس بالكاد يستطيع النظر للسماء.
اليوم تختلف الخطة، الرماية في قلب الجبل. نسير علي بعد ساعتين في الصحراء مع الشدة والخوذة التي تثقل أجسادنا النحيلة كما تثقل الوحدة الروح. قبل البدء في الرماية أستلقي علي الأرض وأتلقى تعليمات الميدان. يصمم الضابط المسئول على أخذ نضارتي وأقسم له أنني لا أرى بدونها لكن بالطبع لا يصدقني. مؤخرة الكلاشنكوف الروسي القديم في جوف الكتف مع كتم النفس وتحديد الهدف بالنظر على خط واحد حاد مع فتحة النيشان. مع أول طلقة من المجموعة لم نجد أي شكل من الأشكال التى أمامنا اهتز فأدركنا أن لا أحد أفلح منا في هذه المحاولة.
المحاولة الثانية قررت أن أصيب الشكل، فأغمضت عيني اليسار وضغطت الزناد. انحرف الكلاشنكوف لأسفل وأصابت الطلقة الغطاء الملقى علي الأرض أمامي وأخذ دخان بسيط في التصاعد منها، فأوقف الضابط الرماية وأمرنا بالوقوف مع السخرية:  “دا أنتو لو دخلتو حرب هتتركبو.” انتهت جميع المجموعات من الرماية في الساعة الواحدة ظهرًا في قلب الصحراء. الكثير من العرق والتعب والإرهاق مع يقين أننا  لو دخلنا حرب بالفعل “هنتركب“.
سرنا في الصحراء نصف ساعة أخرى من أجل بيان سوف يلقيه علينا قائد الوحدة. لواء في الخمسينات ذو صحة رائعة وجسد متناسق، يرافقه دائمًا حارس شخصي يسير خلفه وتُمنع الحركة تمامًا عند مروره سواء بسيارته ذات الدفع الرباعي أو على قدميه. جلسنا على هيئة مربع ناقص ضلع مع وضعية الثبات، بعد عشرة دقائق من الصمت الكامل ظهر أخيرًا.
الجميع ينهار. انتهى البيان وقرر أن يظل جالسًا تحت المظلة ليختبر قدرتنا على التحمل في هذه الشمس. مر الكثير من الوقت وتلك هى اللحظات التي تتمنى أنك لم تولد لتعيشها. صمت تام، لا أحد يستطيع أن يحرك جفنًا ولكن أحدهم قرر هذا اليوم الانتقام والنيل من هيبة سيادته. كان على بعد ثلاثة أشخاص مني، رأيته ببطء يعدل من وضعية الجلوس كأنه قناص علي وشك الفتك بضحيته ثم بعد ثوان معدودة سمعنا ريحًا تُطلق بصوت عال ومع هدوء الصحراء بدت أشبه ببوق إعلان الحرب.
خيم الترقب على المكان. كيف لشخص أن يطلق ريحًا وبصوت عال في حضور سيادة اللواء؟ هذا الفعل الإنساني الطبيعي والمحرج في نفس الوقت وفي موقف مثل هذا معناه عدم احترام. نظرت لوجه اللواء ورأيت علامات الغضب والاحتقار، فجأة قرر الرحيل عن المكان.
أخيرًا انتصرنا، ولو مؤقتًا. قال أحدهم: “تسلم طيزك”. وربما لو كان بإمكاننا لحملناها على أكتافنا احتفالًا. عدنا للمعسكر شامخي الرأس، نسير والمجد خلفنا. فنحن من استطعنا كسر سطوة سيادته.