علي المجنوني: اسم كامل ليس شائعا

Alex Majoli, Riyadh, 2002. Source: magnumphotos.com

ذاك بيتي. قال السائق وهو يشير إلى منزلٍ على يسارهما ظاهرُه مكسوٌّ بحجر الرياض الكريمي والأبيض. السور العالي، الحجري أيضاً، تحيط به شجيرات محفوفات بعناية شديدة حتى أنها بدت على هيئة مكعبات خضراء معلّقة في الفراغ. سارا بعد ذلك بالسيارة قرابة ٣ كيلومترات. لم يسأل الراكب، لكن السائق قال وكأنه أحسّ تذمراً: إصلاحات مشروع تصريف مياه السيول. له سبعة شهور.
بالطبع لم يكن الراكب متذمراً، ولم يكن يجهل النزعة الفطرية للالتفاف على حواجز أسمنتية وأخرى بلاستيكية وأقماع فوسفورية. إن كان شعر بشيء وقتها فهو امتعاضه من اعتقاد السائق بعجزه عن فهم رموز المدينة التي لم يتخلّ عنها إلا قريباً. في الطريق كان السائق قد سأله وهو ينهي مكالمة هاتفية لزوجته: إنت ليه ما تأخذ لك جوال؟
ما لي به حاجة.
نكلّمك عليه.
هذي حاجتكم ما هي حاجتي.
لابدّ وتحتاجه في يوم من الأيام.
يسرقونه الصبيان ويكلّمون أهلهم من دون علمي. آخر جوال لي جاءت فاتورته ثلاثة آلاف ريال.
يمكنك إلغاء خدمة المكالمات الدولية.
يتصلون بالحراميّة هنا وينسّقون معهم، يسرقون غنمي. واحد منهم كلما قام أو قعد قال يا عمّ أنا يبغى جوال. ماني عمّك يا مال العمى.
من الخطأ الظن أنه بدأ حياته في الصحراء. على العكس، هو من جيل المرتدّين إليها. بدأ حياته في المدينة، حاول أن يتعرف على متاهتها، ولمّا لم ينجح غادرها إلى الصحراء واشترى، بثمن كان قد ادّخره لتزويج ابنيه، قطيعاً من الشياه. يعاونه على رعايته صبيان يجولون على أهل الماشية ويعملون قليلاً عندهم إلى أن يجدوا فرصة أفضل أو تأخذهم الجوازات في حملاتها الفجائية لتمشيط الصحراء. تعجز المدينة عن نفسها لكنها تسيطر على الصحراء.
تجاوزا فرع بنك البلاد ومحل الأجهزة الكهربائية المجاور له فمحطة وقود فمطعم ماكدونالدز ثم پيتزا هَت ثم فرعاً لمصرف الراجحي مرّا من أمامه والسيارة تنعطف لتأخذ الطريق العائد. بوصولهما إلى البيت أوقف السائق سيارته إلى جانب الحائط قريبا من المكعبات الخضراء المعلقة. قبل أن يطفئ المحرك وضع يده على مقبض الباب. لما انفتح الباب كان صوت جهاز شق الأسفلت مزلزلاً، لكنه اختفى تماماً بإغلاق الباب. قال: دقيقة، سأدخلها في الگراج. عيال الشياطين. ثم أخفض الفرامل اليدوية من جديد وحرّك السيارة من موقفها. دار بها حول الركن، وفتح بوابة الگراج بالريموت ليدخل السيارة فيه.

الموديل:              DJI PHANTOM 3 Standard

همّ بخلع حذائه لكن مضيفه قال: تقدّم. تبعهما إلى المجلس المبلّط بالسيراميك ابنا المضيف. ثمان سنوات وست سنوات. بعد السلام على الضيف سأله أصغرهما: كم تحرق سعرات حرارية في اليوم؟ التقط الثاني الهاتفَ من يد أخيه وفتح تطبيقاً فظهر على شاشة الهاتف رجل يركض. اخترقته خطوط عرضية دبّت من يمين الشاشة إلى يسارها حتى اختفت وبرز قلب ينبض في جسد الرجل. ظهر عدّاد سريع لأرقام تتبدل بسرعة خاطفة حتى استقرت على رقم. حاول الأخ قراءتها فأزاحه أخوه بأن لطمه على صدغه. صاح، ومع صياحه زمجر الأب وهو ينش ابنيه بجريدة مطوية: روحوا لأمّكم لعن الله من ربّاكم. ثم رمى الجريدة فوق كرسي وانصرف إلى داخل البيت يجيب نداء.
كانت القهوة تنتظره في مجلس فسيح بعرض ٥ أمتار وطول ١٠ أمتار تقريباً. صحن سداسي كبير تتوسطه حافظة القهوة الفضية، وتتراص حولها دزينة من الفناجين كأنها صيصانُ دجاجٍ تتجمع تحت أمها. يتماس مع صحن الحافظة صحنٌ سداسي آخر أصغر فيه علبة زجاجية مليئة بالتمر وصحون صغيرة للنوى.
جدران المجلس مدهونة بدرجات الذهبيّ والبُنّي. عليها نقوش بُنية باهتة، مضاعفة وإنْ لم تكن متطابقة، صنعت بواسطة قوالب اسفنجية ملفوفة بالقماش. تعتيق، كما يصفه الدهانون الذين لا يدركون أنهم يؤسسون لجمالياتٍ تسِم الديكور الداخلي للبيت السعودي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. في السقف حزام متدرج من الجبس الأبيض، قام عليه عمّال آخرون سبق عملهم عمل الدهانين. زُرعت في الحزام الجبسي مصابيح غاز صفراء قوية الإضاءة. أحدها لا يعمل، يخفق في الثانية مرة وبعد وقتٍ يخفق خفقتين سريعتين. تغطي نافذتي المجلس بالكامل ستائر لونها بُنّي محروق ولها أهداب وشيّالات بقيطان مبرومٍ ومقصّبٍ بالذهب. سيُسمع أذان العصر من خلالها بعد قليل. أجال الضيف بصره في المكان. لا وجود في المجلس للوحات أو كتب أو تحف أو أي شيء يدل على صاحبه. مجلس قد يوجد في أيّ منزل في أيّ مدينة.
باستثناء الحزام الجبسي ونقوش الدهان، كان له مجلس كأنه هذا. مجلس واسع تنفتح نوافذه على شارع صاخب. وكان عامراً بالضيوف. العزاء آخر مناسبة أقيمت فيه. أقيم في الشارع ومع كثرة الضيوف أخذوا إلى المجلس. الثلاجة المنحوسة متكئة على جدار الشارع مما يلي إحدى نوافذ المجلس. كان الشبان المبادرون إلى المساعدة في تقديم القهوة يصعدون على الثلاجة لتمرير الحافظات والأطباق من المجلس إلى الشارع والعكس. بعد العزاء مباشرة اشتراها، من دون ثمن، باكستاني يدير محل تبريد وتكييف. قال إن فريون الثلاجة قد انشطر بفعل اصطدامه بالأرض، وإنها، أي الثلاجة، بحاجة إلى كثير من الإصلاحات، مواسير تحتاج إلى لحام، كمبروسور بحاجة إلى تغيير، قبل أن تعود صالحة للعمل من جديد. أماط الرجل اللثام عن وجهه المسودّ ومدّ يده، لكنه رفض أن يأخذ مقابلها من الباكستاني.

الطائرة
الوزن (شاملا البطارية والمراوح):                     ١٢١٦غ
الحجم القُطري (غير شامل المراوح):                    ٣٥٠ مم
سرعة الإقلاع القصوى:                                 ٥ دقائق/ ثانية
سرعة الهبوط القصوى:                                 ٣ دقائق/ ثانية
زاوية الميل القصوى:                                   ٣٥ درجة

غاب المضيف في داخل البيت وعَزَب. ربما يشرف على تجهيزات الغداء أو أنه أخذ السيارة ليشتري ناقصاً من النواقص. التقط الجالسُ الحافظةَ الفضية وأخذ يصبّ القهوة لنفسه. ويتناول التمر الكَنيز. ليس هذا موسم التمر، الأمر الذي يفسر تقديم هذا النوع تحديداً. بعد كل تمرة يأكلها يمصّ دبس التمر من إصبعيه ويرشف قهوته. على الحافظة يرى صورته مقعرة من عند خصر الحافظة قبل أن تتشوش إذا نزل ببصره في اتجاه قاعدتها. يحرك ذراعه أو رأسه فتتشوش الصورة أكثر، تتلوى مثل سائل زئبقي، مثل صورة كاريكاتورية.
في غمرة انشغاله بصورته السائلة على الحافظة اقتحم المجلسَ جسمٌ غريب. طائرة صغيرة لها أزيز كأزيز الدبّور. يرتعش ظلها على الجدران مثلما يرتعش شبح أو قنديل بحر. تهبط إلى أن تقترب كثيرا من مستوى عينيه، ثم ترتفع من دون أن ترتطم بالسقف أو بالمروحتين المعلقتين فيه. حين تحلّق يرى في بطنها ضوءاً أحمر صغيراً يومض. أذهب طيرانُها ارتياحه فتوقف عن تناول مزيد من التمر. قد يبدو الأمر مضحكاً، لكن دقات قلبه قد تسارعت فعلاً وفكر في أن ينادي مضيفه، لكنه تردد متعذراً بأنّ لا شيء يستحق.
لولا أنْ هاجمته الطائرة بعد حين. نتشت رأس شماغه وجذبته بعيداً. اختطفته كما يختطف بازٌ فريسته. نشبت خيوط الشماغ الحمراء فيما ظن أنه عجلات الطائرة التي حلّقت بالشماغ متراجعة في سماء المجلس. أحس بعريّه حالا وارتفع الدم في وجهه. لو لم يتفاداها خافضا رأسه ومحتميا بيديه لفقأت عينه. حار فيما ينبغي عليه أن يفعل. وإذ اتجهت الطائرة إلى باب المجلس الموارب سمع ضحكات أطفال فشعر بالخزي. بأنه أعزل. إلا من حذائه. نزعه ولطم به الطائرة فطاحت هي وصيْدُها وحشرجت كالطير الذبيح قبل أن تهمد تماماً. قام يمشي على البلاط البارد — حمداً لله أنه لم يخلع حذاءه وإلاّ كيف يتسنى له الاقتصاص من هذا المحرّك الشيطاني اللعين؟ — واستلّ من براثن الطائرة شماغه. كأنه سمع شهقة.

الكاميرا
سرعة الغالق الإلكتروني:          ٨ – ٨٠٠٠/١ في الثانية
مجال ISO:                       ١٠٠-٣٢٠٠ (ڤيديو) ١٠٠-١٦٠٠ (صورة)
زاوية الميل القصوى:             ٣٥ درجة
مجال درجة حرارة التشغيل:      ٣٢ °إلى ١٠٤ °فهرنهايت

لما عاد المضيف لم يقل الرجل له شيئاً عن الطائرة. مع ذلك قال المضيف: يلعبون! تأخذهم المدرسة عنّا فترة وفي الإجازات يقلّون راحتنا. مال إلى الكرسي الذي يقف تحت عمود الصبة وأخذ جريدة مطوية ثم جاء ليجلس قبالة ضيفه. وإذ جلس نزع عقاله وسحب الشماغ من فوق رأسه وأدخلها في طوق العقال ووضعهما على ذراع الكنب الأقصى. فتح أزرار ياقته ثم أخذ الجريدة وقال هو يتحسس أطرافها: العلم لك خير. ولأن ضيفه بدوي، عرف أن ما قبل هذه العبارة خيرٌ مما بعدها، فتهيأ لسماع الخبر. أيكون أحد الأقارب قد مات؟ أتكون مصيبة قد حدثت لأحد المعارف؟
لكن شيئاً من هذا القبيل لم يقع. اسم الضيف الكامل ليس شائعاً، ولنقل إنه اسمٌ على شاكلة عكيل بن ثمنطعش الأناناسي مثلاً، أو طافر بن تسعين الهدرجي. اسم تكاد احتمالية تكرره أن تنعدم. وربما كان هذا سبب قلق المضيف من وضع اسم ضيفه على قائمة المطلوبين أمنياً، بالطبع إضافة إلى حسّه بالمواطنة الذي طوّره من جرّاء عمله الحكومي ووضعه الاجتماعي والاقتصادي الذي ترتّب على الوظيفة. الطبقة التي يتخيل أنه ينتمي إليها ويؤدي، عبر رقابة ذاتية صارمة، فروض ذلك الانتماء المتخيل. الخوف؛ لا انتماء من دون خوف. ذاك ما يمكن أن يطلق عليه اقتصاد الخوف.
أصدرت الداخلية بيانا أذاعته نشرات الأخبار ليلة البارحة، ونشرته جرائد اليوم. بيان كشف عن القبض على مجموعة من الإرهابيين وطبيعة نشاطهم إضافة إلى تفاصيل أخرى تضمنها تقرير مصور عن المضبوطات التي تمكنت السلطات من مصادرتها وهي بحوزتهم، أسلحة وذخيرة وهواتف نقالة وشرائح جوال وبيانات ونقود. تلا البيان ذكرُ مجموعة أسماء مطلوبين، صورهم وأسمائهم الثلاثية، كان اسم الضيف واحدًا منها.
ما العمل إذن؟ كان هذا همّ المضيف، الذي سأل:
ما ودّك نروح للشرطة نبلّغهم؟
زفر الضيف غاضباً: بيّض الله وجهك. هذا اللي قدرت عليه؟ صدّقت كلام الجرايد؟
لو صدّقته ما ناديتك.
خلاص، ما دامت تكذّب الخبر، وش أشوي؟
لا تسكت! إذا سكتّ صرت إرهابي.
أنا أدرى بنفسي.
ما اختلفنا.
اسودّ وجه المتّهم لمّا أدرك الإهانة المفاجئة، فعاد يتفكر. ما الذي يكون قد فعله ليُدرج اسمه ضمن قائمة سيئة الذكر كهذه؟ مرةً أضاع بطاقته الشخصية، ومرةً قصّ شجرة لم تيْبس بعد، وفي شبابه حطم قلب فتاة أو فتاتين. ولكن، إن كان هذا سيجعل منه إرهابياً، أليس جميعُ الرجال – وهذا دأبهم – إرهابيين؟ لكن الأمر يعنيه وحده. ليس وحده، وإنما أيضاً الرجل الجالس أمامه، ولهذا هو في ضيافته الآن.

التطبيق / العرض الحيّ
تطبيق الهاتف:                DJI GO
تردد العرض الحيّ:           ٢.٤ جيجا هيرتز
نظام التشغيل المطلوب:       iOS 8.0 أو أحدث / Android 4.1.2 أو أحدث

لمّا انقشعت غيمة الغضبٍ عن عيني المتّهم، اتفق ومضيفه على أنه لابدّ وأن هناك خطأ ما. وانحسر اختلافهما في كيفية معالجة هذا الخطأ، وقبل ذلك التفتيش عن مصدره. بعبارة أخرى، اعترض المتّهم على فعل التسمية، واعترض مضيفه على تبرير التسمية. ولذا فإن المتهم يفضل ألا يعير الأمر اهتماماً وأن يدع الأمور تجري من دون حاجة إلى التدخل. إن كانت وزارة الداخلية تقصده فستعرف المخابرات الجنّية طريقه وستأتيه في صحرائه كالموت. أيذهب أحد إلى الموت الحتمي؟ أما مضيفه فيرى أن من الحكمة إبلاغ السلطات، الوجه من الوجه أبيض كما يقول، وأن السكوت في هذه الحالة ما هو إلا موافقة ضمنية واعتراف بالجُرم. مسؤوليته كمواطن صالح، وموظف في دائرة حكومية، تملي عليه أن يقدّم بلاغاً. فرصته لإثبات صلاح مواطنته حانت، وسيكون في الموعد. لبسٌ وسيزول، قال مطمْئِنا.
سيطر صمتٌ بضع دقائق. استعاد المتهم ذاكرته على هيئة سؤال: بعد كل شيء، كيف له أن يجرؤ على الاكتراث؟ بعد ابنين ماتا وأمّهما ذات رمضان في حادث سيارة على طريق جدة-مكة السريع. كان هو يوصل المشاة في حافلة هايس إلى الحرم من بعد الفطور وحتى آخر الليل، وأحياناً حتى صلاة الفجر. خمسة ريالات من إشارة الدوارق وأربعة ريالات من شارع أم القرى قبل كوبري المنصور وريالان من بعد الكوبري. باب الحافلة مفتوح طوال الطريق، من كثرة ما يركب الركاب وينزلون. التردد المستمر، تقول الوثائق الرسمية. كيف يجرؤ على الاكتراث؟ في ليلة من ليالي كدّه ماتت زوجته وابناه فقط لأنهم أرادوا الانتقال من نقطة أ إلى نقطة ب. لشراء ثلاجة جديدة. ثلاجة LG بابان ٢١.٩ قدم أبيض. ماتوا ونجت الثلاجة. طارت من ظهر السيارة قبل أن تنقلب ووقعت على كثيب أنقذها من العطب تقريباً. انبعجت زاويتها العليا قليلا لكن ذلك لم يمنع أيّاً من بابيها من الانغلاق. في ليالي العزاء كانت الثلاجة ملقاة إلى جوار حائط البيت في الشارع. اعتاد طفلٌ أن يسحب قضيبا حديدياً أو مفتاح سيارة على الأسلاك في ظهر الثلاجة قبل أن يزحزحها شباب العزاء ويلصقوها بالحائط. وحالما طُويت سجادات العزاء تخلّص منها.
كما لو أنه يطلب راحة أخيرة قال لمضيفه:
خذني إلى غنمي.
غنمك عندها الصبيّ. تبيت الليلة عندي وصباح الغد نذهب إلى القسم ثم أوصلك بعد الغداء.
لكن رأس الرجل كان أيبسَ من حجر. تحجّج بأن اليوم ثالث يوم تهب فيه الأزيب وأنها ستمطر الليلة وليس عند الصبيّ من يعاونه. لمّا عيي المضيف عن ثَنيه عن قرار المغادرة قال:
سيقصفونك أنت وغنمك.
بلّغ عني وخذ مكافأة التبليغ! هذا اللي تبيه؟
لم يعقّب المضيف. خرج تبرّمه على هيئة زفرة طويلة ويائسة. لم يبادر بأن يعرض أن يأخذ ضيفه إلى غنمه كما يريد. قدّر أنه قد يتخلى عن تعنّته على الأقل ويبيت في المدينة قبل أن يتدبر أمر إعادته إلى وجهته. هذا إنْ لم يوافق على إبلاغ وزارة الداخلية.
لو حاول كما ينبغي معرفةَ احتمالاتِ وجود اسمه في القائمة المنشورة، ولا يمكن نفيُ أن الفكرة راودته قبل أن يقمعها، لبدأ من حيّ الخالدية. تاريخه الشخصي حينما يتعلق الأمر بالإرهاب. سيطرت قوات الأمن على منزل سري لإحدى خلايا القاعدة في حي الخالدية. طوقت القوات العمارة في قلب الحي السكني الوادع، وتبادلت مع أعضاء الخلية إطلاق النار. كان ليلتئذ في ضيافة أحدهم في المدينة حين تابع الخبر، وكان الجميع يشاهدون مقطع الفيديو الذي بثته القناة الأولى لقوات الأمن وهي تداهم الخلية. يتذكر صوت أحد أفراد القوات منادياً الإرهابيين عبر مكبّر الصوت: سلِّم نفسك! سلِّم نفسك! الآن، هل انتحل أحد أبناء الزنا أولئك شخصيته؟ لكن هذه ليست مشكلته حقاً. إنها مشكلة ابن الزنا الذي فعل. ولا يجب أن يعاني هو، عكيل بن ثمنطعش الأناناسي، أو طافر بن تسعين الهدرجي، تبعاتِ فعلٍ ليس من فِعله. هذا زمن بالكاد يستطيع المرء أن يتحمل مسؤوليته وحده. وسيخفق لا محالة.
لكنه لم ينجرف في سبيل ما ينبغي أن يُفعل، وعوضاً عن ذلك قرر أن يمتنع عن فعل شيء. ستكون مساهمته الفريدة في الحياة، حياة الآخرين بالطبع، وهو قانع بها. مساهمة ملغزة، ولكنه تخلى عن مطاردتها باعتبارها لغزاً. عندما دعاه مضيفه رأى في عينيه حيرة المأخوذ باللغز وقرر ألا تأخذه تلك الحيرة. بالنسبة له، الحكومة مصنع ألغاز. تلك هي الركيزة التي يرتكز عليها عمل الحكومة. لا يفهم كيف تعمل، كيف تعطي ما تعطي وكيف تأخذ ما تأخذ، كيف تسمّي وكيف تجرّد، لا يفهم أيّا من هذا. والأرجح أنه لا أحد على الإطلاق يفهم، بمن فيهم أولئك الذين يعملون في الحكومة. الآن وقد سمّته إرهابياً فليس هذا بغريب عليها. ليس لأنها سمّته إرهابياً من قبل، ولكن لأنه ممارسة عادية لشخصيتها التي تحققت لها عبر الزمن. لأنه مجرد لغز آخر تصنعه. لكن الرجل لا يجد في نفسه اهتماماً بحلّ اللغز حتى وإنْ كان هو نفسه جزءاً منه.

الدوران حول محور
التثبيت:                                ٣ محاور (انحراف، ميلان، انعراج)
دقّة التحكم في الزاوية:                  ± ٠.٠٢ درجة
السرعة القصوى للتحكم في الزاوية:      انحراف ٩٠ درجة/ ثانية

حينما خرج إلى الشارع كانت الحركة أكثر ازدحاماً مما كانت عليه قُبيل العصر. سكت جهاز حفر الأسفلت واستبدل الشارعُ بهدوئه ضوضاءَ سببها دبيب الحركة المسائية في عروق المدينة. كان الجميع يحدقون إليه وهو يمشي على الأرصفة التي فقدت مُشاتها فجأة حتى شعر بوحدته. يحدقون إليه من خلف زجاج نوافذ سياراتهم. أحياناً يكون على يقين أنهم يحدقون إليه وأحياناً يخالط يقينَه وهم. في كل الأحوال كان يتلمّس مقدمة شماغه المنتوش، يتحسّسه وكأنما يتأكد من وجوده فوق رأسه، ويسير إلى الأمام.
أعاد النظر في قراره وهلة. تبيّن له كم كان صلفه مؤذياً لمَن كان يراد له الخير على الأرجح. كان قراره أنانياً يعوزه اعتبار الآخرين. ما ضرّ لو رافق الرجلَ إلى الشرطة واستوضح اللَّبس؟ في كل الأحوال لم يرتكب جُرماً. لكن الحكومة لا يمكن أن تكون مخطئة. تملك الأسماء والأرقام وكل ما هو دالّ. والحكومة أيضاً لا يمكن أن تخطّئ نفسها. لنكنْ واضحين: لم نقلْ إن احتمالية أن يتكرر اسمه، سواءً كان عكيل بن ثمنطعش الأناناسي أو طافر بن تسعين الهدرجي أو شيئاً آخر، معدومة. هناك احتمالية وإن ضَؤُلت لوجود اسم يطابق اسمه. ولذا فإن شعوراً خفياً، شعوراً مقلقاً، أخذ يقرضه من الداخل. إنه شعور تسلل إليه تدريجياً وأصبح بسببه غير قادر على الجزم حول ما إذا كان إرهابياً. وكلما فكر أكثر صعب عليه تحديد ما إذا كان إرهابياً قبل أن يُدعى كذلك أم كان بسببه.
سمع صوت فرامل حادة ومفرقعة. صوت تزامن مع أصوات منبّهات السيارات وصياح رجال. التفت من وراء كتفه. من بين مصابيح السيارات الحمراء، على رصيف محل الأجهزة الإلكترونية، كانت مكنسة كهربائية طوّافة يجرّبها البائع أمام زبون قد قطعت الرصيف فجأة نازلةً إلى الشارع المزدحم. عادت السلاسة تدريجياً إلى المرور. وإذ التفت الماشي إلى الأمام من جديد وهو يصعد الكوبري كانت السماء قد اكفهرّت فوق المدينة وهزم الرعد.

SaveSaveSaveSave

SaveSave

SaveSave

SaveSave

SaveSaveSaveSaveSaveSave

SaveSave

SaveSave

SaveSave