
Niki Boon, from “Wild and Free”. Source: burnmagazine.org
كان على كل اثنين أن يمشيا بحيث يتقدم أحدهما الآخر بخطوة مغمضًا عينيه، بينما يضع الثاني كفه على ظهر مغمض العينين بدرجة تحذره قبل أن يرتطم بشيء ولا تدفعه إلى اتجاه معين. أسميتها وصفة الوجود والخفة. يمشيان هكذا لبعض الوقت ثم ينفصلان. ينتظر صاحب الكف في مكانه ويتحرك مغمض العينين وحده إلى أن يكتفي، وهنا عليه أن يجد طريق العودة نحو الكف، دون أن يختلس النظر، ليستأنفا مشيهما.
لم أجد كفًا في انتظاري. مهاراتي الجغرافية المحدودة ترجح أني ضللت طريق العودة، ويحدث أن الكفوف تمل وتتعب. مشينا كتير. كانت الدنيا تتفتح أمامنا وكل ما نسمع ونقرأ ونرى نكتشفه كأن أحدًا لم يمسه قبلنا. نسينا أنفسنا. أما لحظة الانفصال فكلما كان المشي سلسًا، زادت استحالة تحديد المبادر بها. ربما قرر صاحب الكف التوقف أو سارع مغمض العينين، ربما في اللحظة ذاتها توقفت خطوات وتسارعت أخرى، لا يهم. الأكيد توقف الضحك فجأة وشحب المشهد، خلفيته كان حائط حجرة حدقت فيه هاتان العينان طويلاً بعد مكالمة هاتفية مختصرها مالك مالك مالك، كلمة تمر بدون علامة استفهام، فاقدة خاصية السؤال، كأنها حُذفت من قاموس الدماغ ولم تعد تعرف كيف تتصرف عند سماعها.
انفصل كف عن ظهر، خالفتُ القواعد، فتحت عيني، ضباب ملأ المكان، أبيض، كثيف، منتحل شخصية السلام النفسي. السائر وسط ضباب يريد أن يتخفف حتى من مصادر الشغف التي تصير حملاً بعد أن كانت متكأ. وبما تبقى لي من منطق أستنتج أن كل شيء يثقلني، لأن ما لا يحتملني يثقلني ولا شيء يحتملني. لم ينقصني إلا أن أقطع ساقي لأقطع احتمال أن تخذلاني فجأة على الطريق، من الجيد أني لم أفعل سوى في حلم.
ويسألونني عن الترجيع، أقول: هو محاولات أن تبدو واضحًا للآخرين وأنت وسط ضبابك، عيون تكرهها ولا يساعدك ما لديك من طاقة عنف أن تفقأها، دوائر جديدة لا تدري معنى وجودك داخلها، وعلى خلفية هذه الأحداث تنهال عليك جثث محمولة على الأكتاف من أول ذلك الشارع حيث كان شعب يريد ويقفز صوت لا تعرفه فوق الهتافات ليقول: عادي مفيش قلق، بينما تتصاعد كثافة الضباب مع دخان القنابل. حظروا التجول. طرت أو تهت أو غرقت أو استغرقت. أسقطت أشولة من الأوهام في استراحات على الطريق زال معها الضباب ووضحت معالم مكان آخر.
في الجزء الثاني من التمرين تبادلنا الأدوار، وحين سبقتَني خطوات أو توقفت خطواتي – تلك اللحظة الغائمة – وتباعدنا، أراد كفي أن يقول شيئًا مطمْئنًا مثل أنا هنا، غير أن هذا التمرين كان صامتًا.