
Bruno Barbey, Qatar, 2010. Source: magnumphotos.com
١
هذه المرة لم أحمل سماعات الأذن ولا سجائري الملفوفة معي. توقفت منذ مدة عن شراء السجائر الجاهزة وعدت إلي حبي القديم الذي تجنّبته عند محاولة التعافي. أخبروني إن هذا الشئ هو السبب في تدهور حالتي الصحية وفِي اللحظة التي ستتوقف فيها سيتغير كل شيء، ولكن هذا لم يحدث مطلقاً بالعكس تدهورت حالتي أكثر وفقدت الكثير من وزني.
بدأت أقع في غرام التخطيط العمراني لهذه المدينة الصغيرة على الرغم من كثرة الإشارات المرورية بها، فأرى السماء دائما بشكل واضح بعيداً عن الأبراج القبيحة العالية. على الأقل يمكننا استبدال وسع الروح بوسع الحيّز الجغرافي. امتلأت غرفتي بعبارات كتبتها بخط يدي علي الحوائط بدلاً من أن تنفجر داخل رأسي.
آه، والأرق. نسيت أن أخبرك عنه، صديقي اللعين الذي يدمر حدقة عيني ويرسم حولها السواد، أتغلب عليه مرة أو اثنين أسبوعياً ولكن للحق هو على وشك أن يفتك بي. لم أعد أستطيع السيطرة على حياتي، فطبقت نظرية البؤر المضيئة واخترت جانب العمل وبدأت في تطويره وحصد بعض النجاحات المرضية حتى الآن.
أعرف أن أمامي الكثير لأتعلمه ولا يوجد لدي أي متسع من الوقت ولكن على الأقل أعرف ما علي فعله. عزيزتي، آسف. قدمي لم تعد تقوى علي حملي وأنهار في اليوم مائة مرة لذلك لا أظن أنني سأبقى وحيداً كثيراً، فأنا بانتظار اللحظة المناسبة التي سينتصر فيها السواد ويبتلعني وتتناثر بقايا جسدي علي الأرض.
.
٢
في صباح اليوم التالي، استيقظت كعادتي في السادسة صباحاً قبل موعد المكتب بثلاث ساعات كاملة حتى يمكنني أخذ حمام سريع وتحضير القهوة وبعض السجائر. أتفقد تويتر فهو الآن مساحتي الوحيدة لأقول ما أقول دون أن يعيرني أحد اهتماماً، أشعلت سيجارة مع فنجان القهوة وأنا أشاهد فيلماً عربياً سخيفاً ولا أعرف لماذا.
اتصل بي السائق كعادته ليخبرني أنه ينتظرني، ألملم حاجتي وأتأكد أني وضعت كل شئ في حقيبة الظهر. في السيارة يرفع صوت إذاعة القرآن حتى يغطي علي صوت الموسيقى الخارجة من سماعات أذني، كل يوم يقوم بنفس الفعل حتى أنه استنكر مراراً لماذا أضع سماعات ولا أستمع للقرآن فأخبره إني في حاجة لأسمع شيئاً سكسي في الصباح وإن هذه الآيات منذ آلاف السنين وقد حفظتها كلها.
في المكتب أدوّن ما عل فعله اليوم، وأعرف جيداً أن معظم ما كتبته سوف يتم تأجيله لإنجازه لاحقاً. اتصلت بمصمم المطبعة – مصري مقيم هنا منذ عدة سنوات – ولكن للأسف هو الوحيد العربي هناك، فينتظرني بفارغ الصبر حتى يتحدث معي ويعيد علي مواضيعه مئات المرات فأجيبه إجابات مختصرة مصحوبة بابتسامة كاذبة بلهاء. أتفهم تماماً ما يشعر به، فأنا المصري الوحيد الذي يمكن أن يتحدث معه من حين لآخر. يعيد علي نفس السؤال أكثر من مرة فأجيبه إجابة مختلفة كل مرة حتى لا يقتلنا الملل.
استلمت منه المطبوعات وعدت إلى المكتب حتى أتأكد منها وأتحدث مع مديري عن ما يمكن أن نفعله المرة القادمة فيخبرني إنني غريب ولا يعرف كيف أنجز هذه الأعمال في هذا الوقت القصير فيقول: “يا بنى بطل مخدرات شويه و ركز في شغلك.” فاضحك وأخبره إنه للأسف لا توجد هنا مثل هذه الأشياء الجميلة. لدي في منتصف اليوم كم ساعة يمكنني فيها أن أنجز مشاريع أخرى أعمل عليها، وهذه الفترة تكفي لتفقد الشقوق داخلي والتحدث مع اكتئابي وتجديد الفشل والخيبات والخوف من القادم.
.
٣
أعرف هذا الشعور جيداً، أتحسس هاتفي، أخرجه من جيبي وأبدأ في الكتابة. اعتدت أن أفعل هذا عند امتلاء رأسي فأبحث عن وعاء للتيؤ. وما إن أبدأ بالكتابة حتى يتصارع كل داخلي وتدفع الأفكار بعضها البعض كأنها تبحث عن مخرج.
في إحدى المرات تعرفت على عامل سريلانكي يعمل في تقطيع وتشكيل باقات الفواكه، بدأنا الحديث عن الماريوانا وبقية أنواع الكيف الممنوعة تماماً هنا. لا أعرف كيف وصل حديثنا للسلاح وبعض أنواعه، أخبره إنني خدمت في الجيش وبسبب قصر المدة لم يتسن لي معرفة الكثير عن السلاح وعلى أي حال أنا اكره الحرب والجيوش النظامية.
سألني هل سمعت من قبل عن الحرب الأهلية في سريلانكا فقلت له بالتأكيد لم أسمع عنها، فالله خلق الشرق الأوسط فقط من أجل نشرات الأخبار. كان مقاتلاً في إحدى الجماعات الإسلامية وكانت الحرب ضد قوات الحكومة وقُتل جميع أصحابه وفر هو هنا. للأسف معرفة الحقيقة ليست دائما جيدة فلم أعد أقدر علي التعامل معه مرة أخرى وفِي كل مرة يمد يده بالسلام أتساءل كم روحاً قتلت هذه اليد الملعونة.
.
٤
بالطبع الوحدة والصحراء تؤدي للجنون، لذلك هذه الأرض أنبتت الكثير من الأنبياء والملائكة والشياطين. جربها بنفسك، وأنت في غرفتك يمكن أن تسمع خطوات شخص يسير على بعد أمتار عديدة. الوقت هنا لا يمر كباقي العالم، لديك متسع من الوقت لخلق عالم آخر به كل الأشياء التي حُرمت منها ولم تجدها في المولات وعروض التسوق.
ربما تجد متعة الهدوء في سماع أصوات مواتير السيارات فائقة القوة، فيجري الدم في عروقك مجدداً. بالتأكيد تختلف رؤيتك للحياة وأنت تقود سيارة يتعدى سعرها مئات الالاف من الدولارات وحين تقودها يتغير كل شيء في عينيك للأبد. يمكنك هنا أن تطلب أي شيء ويصلك في الحال، فصدقني أنت بالفعل عميل مهم ومع مرور الزمن لن تحتاج قدمين للحركة أو المشي.
يوماً ما سوف يفترش هؤلاء القوم خيام اللجوء على أبواب الجنة، تزول الصحارى. تصبح الأيام نهاراً فقط وننتصر لمرة واحدة وللأبد.